; راية الخير.. في فقه الدعوة ١٥ | مجلة المجتمع

العنوان راية الخير.. في فقه الدعوة ١٥

الكاتب محمد أحمد الراشد

تاريخ النشر الثلاثاء 05-سبتمبر-1972

مشاهدات 27

نشر في العدد 116

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 05-سبتمبر-1972

وبعد:
«فقد افتضحت الجاهلية وبدت سوأتها للناس واشتد تذمر الناس منها فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام» «۱»
بهذه البساطة عبر سيد قطب رحمه الله عما يرى أنه يتحدث عن أمر عظيم جليل وانتقال ضخم لكنه من أمر الحقائق.
ولهذا حفته البساطة وكذلك شأن الحقائق دومًا.
فحينما يكون الأمر حقيقة لا يحتاج غلى كثير بلاغة ولا إلى إطناب أو بهرج وتزويق.
إنها الحقيقة التي يعيشها الغرب فهذا الخواء الروحي والانحدار الجنسي والتمييز العنصري، والظلم الاستعماري، لم يعد إفلاسًا مجردًا بل فضيحة كبيرة للحضارة الغربية.
وهي الحقيقة التي ترهق المجتمعات الشيوعية ولو لم يكن فيها إلا الإرهاب وكبت الحريات لكفتها فضيحة.
كما أنها الحقيقة التي تشير إلى عدل الإسلام وسماحته وسكينته التي يهديها إلى القلوب التي أتعبها قلق المادة.
إن تأملًا قصيرًا يرينا بوضوح أن شعوب الأمة الإسلامية قد ملت وسئمت ما اقتبسوه لها من مادية الغرب ونظمه، وما فطنوا له فقلدوه من أساليب الإرهاب والتجويع الشيوعي وأصبحت القلوب والعقول على أتم الاستعداد لمسيرة إياب إلى الإسلام ثانية.
ولكن بينها وبين الوصول إلى دار السلام مفازة ولا بد للمفازة من دليل، فإن وجد الدليل فإن الوصول قريب.
●     جاذبية الدعاة
وخير ما يكون الدليل إذا كان حاديًا يجيد الترنم
إنه يطرب الذين وراءه فيتبعونه، وهذا هو ما تصوره بلاغتنا القاصرة لأن من يتبع طربًا قد تعتريه غفلة أو تفجأه عثرة أو تغلبه إغفاءة فيتوقف.
أما بلاغة إقبال فأتم وأكمل وأبدع
إنه يجد في إدراك الذات قوة جذب تجبر الآخرين على الارتباط بها فإذا جمع المسلم الحر الفطن ذاته فكان داعية فإنه يدير من يريد في فلكه.
يقول إقبال:
شدت الأرض قواها، فالقمر في طواف حولها لا مستقر «۲»
فلأن الأرض تحفزت، وخزنت من قوة الجذب ما استطاعت أجبرت القمر على الارتباط بها والدوران حولها حتى بات لا يحدث نفسه بفرار.
فكذلك التفاف الناس حول دعوة الإسلام يكون حتميًا إذا شد الدعاة قواهم حتى يعتاد الناس الدوران في فلكهم ويجدون في ارتباطهم بالدعوة نوع اضطرار.
فأنتم أنتم أيها الدعاة من يتحكم في الأمر لإنماء لأحزاب الضلال أن شددتم قواكم، ولا مناص للناس آنذاك إنما هم أسراكم، وإنما شد القوة في الاجتماع، ونتيجة الاجتماع أن يكون الصف، ومن أتى صفٍا غلب إلا أن يشاء الله غير ذلك.
وتنادى السحرة الذين عارضوا موسى قبل إيمانهم فقالوا: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ (طه: 64) كما أخبر الله تعالى.
وبذلك عبروا عن التجمع المنظم للجاهلية في كل عصورها من خلال هذا الشعار الذي يعطي درسًا بليغًا لمن يحزن على مصير المسلمين وليس لديه إلا التأوه.
إن الجاهلية المنظمة لا يغلبها إلا إسلام منظم، ولا ينتصر دعاة الإسلام اليوم إلا إذا جمعوا خيرهم ثم أتوا صفًا واحدًا متراصًا مقتحمًا.
●     ارفع للخير راية
ولكن كيف يتم التجمع بلا مباداة من صاحب خیر؟
إنها المبادأة اللازمة.
 تارة تكون تكبيرًا ينبه، وتارة تكون نارًا تلفت، وتارة تكون راية يبصرها أهل الخير فيتجمعون حولها. ولا ينقص المسلمين اليوم في كثير من البلاد إلا هذه الراية فإنهم كثير عددهم غزير، علمهم جميل، ذكرهم، إنما أضعفهم التشتت والضياع.
وقد زار عبد الوهاب عزام -رحمه الله- معظم بلاد الإسلام وساح في بلاد العرب وتركيا والهند، ودرس واقع المسلمين عن قرب فما خرج بغير هذه النتيجة فعاد ينادي الخيرين أن:
«لا يخدعنكم الفساد الظاهر والشر المستشري ولا يهولنكم ذكر فلان وفلان من المفسدين، ففي الأمة اخيار أكثر ممن تعدون من الأشرار ولكنها راية رفعت للشر فأوى إليها أشرارها، وهرع نحوها أنصارها ونفر منها الأخيار فلم ينحازوا إليها ولم تسمع أصواتهم حولها، ولو رفعت للخير راية لانحاز إليها الأخيار وحفوا بها وسكنت أمة الأشرار وقل جمعهم وخفت ذكرهم.
إن في الأمم خيرًا وشرًا وفسادًا وصلاحًا ومصلحين ومفسدين فإن رفعت راية للخير انضوى إليها الأخيار في كل طائفة وغلب بها الخير في الأنفس التي يغلب شرها خيرها، ونبت خير في نفوس لا خير فيها فإن الإنسان لا يخلو - وإن عظم شـره واستشرى داؤه - من نزعة للحق كامنة وعاطفة للخير مستسرة «۳» وهذا الكلام من الحق والصواب الظاهر.
وكثير من أهل الخير إنما وقعوا في الوهم من هاهنا رأوا ضخامة الفساد في بلادهم وتغير الموازين والمقاييس وتسلط الأشرار فظنوا أن الأمر قد فلت واستحكم الكفر واختاروا إما السكوت وإما الهجرة إلى بلد أخف شرًا يتعطلون فيه.
وقبل، حين استحكم أمر الجهمية والمعتزلة والشعوبية أيام المأمون والمعتصم والواثق ووسدت الأمور إلى غير أهلها، تألم القائد العربي الغيور أبو دلف القاسم العجلي، وكان من كبار أهل الخير صحيح العقيدة ظاهر النبل مناهضًا للشعوبية التي يرعاها بعض القادة فاندفع يقول:
ومقام الكريم في بلد الهون
                 إذا أمكن الرحيل محال
حيث لا رافعا السيف من الض
                     يم ولا للكماة فيه مجال
في بلاد يذل فيها عزيز الـ
                 قوم حتى يناله الأنذال «٤»
 ثم هاجر إلى معسكره بمدينة الكرخ التي تقع أطلالها اليوم على الطريق الذاهب من العراق إلى خراسان قبیل کرمانشاه وهي غير الكرخ المعروفة ببغداد.
كان حرًا، لكنه كان فردًا ولذلك لم يأب الهجرة، أما الأمام أحمد بن حنبل فكان في تلك الأزمة حرًا داعية، ولذلك أبي الهجرة وأقام ببغداد ورفع الراية فكان الثبات والتثبيت فهزم جمع البدعة.
وهكذا شأن الحر الداعية دومًا يصبر على العيش والمقام في بلده ليلتقط من مجتمع مستخذ فتيانًا صباح الوجوه، لم يصب قلوبهم وأبدانهم شيء من دنس الجاهلية وأمراضها وحرامها، ويربيهم ويغرز فيهم عزة الإسلام ويجعلهم صفوفًا.
نعم، في المجتمع المستخدي الذي طال خضوعه للطغيان تجد «النفس تميل إلى الإسفاف وتخلد إلى الراحة، وتهوى الهين من كل أمر.
ولكن في النفس - على هذا - نزوعًا إلى العلاء، وشغفًا بالارتقاء، وحنينا إلى
المكارم وشوقًا إلى العظائم.
إن فيها لجمرة يغطيها الرماد، وشرارة يقدحها الزناد، فإن وجدت نافخًا في جمرها وقادحًا لشرارها، استيقظت، وتحفزت، وعملت، وصعدت، وكلما ذاقت لذة العمل والرقي زادت حبًا له وهيامًا به» «٥»
ولهذا فإن المهاجر مخطئ، إلا هجرة صاحب سر یخشی علیه، أو هجرة صاحب فقه إلى من يحتاج إليه، أو هجرة من يخشى الفتنة في دينه.
أما السكوت فأبعد عن الصواب «والذين يبصرون بالظلم في كل طريق ويلتقون بالبغي في كل ثنية لا يحركون يدًا ولا لسانًا، وهم قادرون على تحريك اليد واللسان، أولئك لم يعمر الإسلام قلوبهم فلو عمرها لانقلبوا مجاهدين «٦»
ومن هاهنا لا يكون المؤمن العامر القلب إلا متحركًا محركًا، أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعدما تظهر بوادر النجاح فإنما بعد وعد الضعاف.
 صاح ما الحر من يثور على الظل
                  ــم وقد ثارت لحقها الأقوام
إنما الحر من يسير إلى الظل
              ــم فيصميه والأنام نيام «۷»
●     إنما تقدسنا الدعوة
وكان أعيان الفقهاء القدماء يميزون مثل هذه المعاني أكثر من المتأخرين، وارجعوا العز الذي عرفه صدر الإسلام إلى وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ثم قالوا إنه «هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمت الفترة وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه» «۸»
قال ذلك الغزالي رحمه الله
فللذي رآه فتش عن المخرج والمستدرك فلم يجد إلا أسلوب الطلائع وراح يحلي الأجر لمن يكون طليعة ويحكر له درجات القرب ويرفع الأبصار إلى ذراها، ويصيح أن أيها الناس «من سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكفلًا بعملها أو متقلدًا لتنفيذها مجددًا لهذه السنة الدائرة ناهضًا بأعبائها، ومتشمرًا في إحيائها:
كان مستأثرًا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدًا بقربه تتضاءل درجات القرب دون ذروتها» «۹»
وأما الذي قررناه من أمر الهجرة فقد سبق إليه الصحابة -رضي الله عنهم -قال
ابن تيمية:
«قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود، ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل، وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة!
فكتب إليه سلمان:
إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس العبد عمله وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا» «۱۰»
فالعمل هو الذي يقدس صاحبة وأفضل العمل: أمر بمعروف ونهي عن منكر، وأفضل الأمر والنهي: ما كان في بلد يحتاج إليه ويثمر فيه، فلا تخدع نفسك بزهد مجرد يقودك إلى الهجرة عن موطن النفع، بل أصغ لابن القيم يشرح لك أمرك حين يقول:
«ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله وأكثر الديانين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلًا عن أن يريدوا فعلها وفضلًا عن أن يفعلوها وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله: من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقل إن ترى منهم من يجمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته ويبذل عرضه في نصرة دينه» «۱۱»
والنبي -صلى الله عليه وسلم- «كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا وأعظمهم عند الله قدرًا» «۱۲»
ولك فيه -صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة.
١ - مقدمة سيد قطب لكتاب الندوي: ماذا خسر العالم – ٢٠
۲ - ديوان الأسرار والرموز – ١٥
٣ - الشوارد لعزام - ۱۷۳
٤ - كتاب «بغداد» لابن طيفور - 133
٥ - الشوارد لعزام - ٣٥٣
٦ - دراسات إسلامية لسيد قطب - ٢٩
٧ - ديوان المثاني لعزام - ۸۰
۸ ۹ - إحياء علوم الدين ٢ - ٣٠٦
۱۰ - مجموع فتاوى ابن تيمية ۱۸ - ۲۸۳
١١ - عدة الصابرين - ۱۲۱
۱۲ - زاد المعاد 2 -38
●     استدراك: أغفلنا الإشارة في الحلقة السابقة إلى أن النص المحصور بين قوسين بعد كلام المودودي هو للمودودي أيضًا من كتابه: الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية - ١٨ 
 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل