; رحيل رجل دعوة.. والرجال قليل | مجلة المجتمع

العنوان رحيل رجل دعوة.. والرجال قليل

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 10-سبتمبر-1996

مشاهدات 13

نشر في العدد 1216

نشر في الصفحة 51

الثلاثاء 10-سبتمبر-1996

عرفته وسعدت به زمنًارغدًا، وعايشته واستمتعت به دهرًاعطرًا، كان رجاء يشع حولي، ورضاء يغمر نفسي، ونعيمًايملأ شعوري، كان حياة تشع على حياتي، وروحًا تتدفق في روحي، وضياء يسري في خطراتي، وقوة تندفع في خطواتي، كان قلبًا مفعمًا بالرجولة والثبات والإخلاص والتفاني، ونفسًا عاطرة بالإيمان والوفاء والحب، وروحًا ربانية النزعة ملائكية الأنفاس، همة تجمعت في رجل، وإخلاص تمثل في إنسان، وصفاء استقر في قلب، وعواطف تجمعت في نفس علم من أعلام التربية، يربي بالقدوة، ويعلم بالموقف ويحاسب بالأخوة، إذا رأيته يملؤك مهابة في تواضع وعزة في أدب، وهمة في يسر وعزمًا في حكمة رجل دعوة، يعطيها كل ما يملك، ويهبها كل ما يستطيع، يعيش بها ويعمل لها، ويضحي في سبيلها بكل مرتخص وغال وجندي عقيدة بمعنى كلمة جندي، فرغم أنه من الرعيل الأول في دعوة الإخوان المسلمون، ورغم أنه من الأساتذة والقادة الأفاضل، تجده المطيع الفاهم والجندي الملتزم والفرد المضحي، لم تغره نفسه وهو السابق المفضال، أو يفتنه عمله وهو المجاهد الفذ، ودائمًا كانت تحدثني نفسي عن طبيعة هذه المعادن النقية، وعن أصالة هذه اللبنات القوية التي حملت دعوة الله في العصر الحديث، وتحملت ما تحملت من عنت وقهر وسجن وتعذيب، وما وهنت وما ضعفت وما استكانت وما افتتنت، وما سوُقت هذه الرجولة، أو زايدت بهذه البطولة، أو افتخرت بهذا العطاء، وإنما وارته في احتساب، وطوته في تواضع وتجاوزته في عمل، وأقبلت على الله بقلب سليم، ونفس صابرة تواقة إلى رضاء الله والجنة، خاشية من عذاب الله والنار.

هكذا كان الأستاذ محمد كمال رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، رجل ونعم الرجال، عاش شبابًا ورجولة وكهولة دعوته، وأقبل على الله حاملًا لها، رافعًا للوائها، ما ساوم عليها أو وهن عن تبعاتها أو منعها شيئًا يملكه أو يستطيعه ويقدر عليه حتى آخر نفس، وآخر حركة، وهذه طبيعة رجال هذه الدعوة ذرية بعضها من بعض ولا عجب فالأستاذ محمد كمال من هذا الصنف ومضى على هذا الطريق، وقد قص المرحوم الشيخ محمد الغزالي وصية الأستاذ الهضيبي فقال: من أيام مات الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان، وبلغتني وصيته: لقد أوصى أن يدفن خفية، لا إعلان ولا مواكب، وطلب أن يوارى جثمانه في مقابر الصدقة!!، وعقدت لساني دهشة، وأنا أسمع العبارة الأخيرة: في مقابر الصدقة، إنني أعرف حسن الهضيبي، وقد أصلحت ما بيني وبينه قبل أن يموت بنحو عامين، في نفس هذا الرجل ترفع وأنفة لا يتكلفها، وهو إذا اعتقد شيئًا استمات فيه دون لف أو مكر، قلت: لم مقابر الصدقة؟ ولم يغب عني الجواب.. لقد كان الرجل مستشارًا راسخ المكانة رفيع الهامة لو اشتغل بمهاجمة الشريعة الإسلامية لنال جائزة الدولة التشجيعية التي نالها غيره، ولو خدم الغزو الثقافي لعاش في شيخوخته موفور الراحة مكفول الرزق، ولكنه خدم الإسلام فتجرع الصاب والعلقم، وحُكم عليه بالإعدام ثم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وطعن مع الدين الجريح، وأهين مع الدين المُهان فأراد أن تصحبه هذه المكانة في منقلبه إلى الله..!! فليدفن في مقابر الصدقة مع النكرات الذين لا يبالي بهم المجتمع، وليدفن مع ناس أسلموا أرواحهم تحت التعذيب في غرفات السجن الحربي وهم رازحون تحت وطأة عذاب تنوء به الجبال، والحق يُقال: إن الأمة المصرية خاصة والأمة الإسلامية عامة يجب أن تراجع نفسها طويلًا قبل يوم الحساب.

هذا الصنف من الناس نوع فريد في زمان النحس، وعظيم في أيام القمامة، وهم الذين أحيا الله على أيديهم اليوم موات الأمة، وبعث بهممهم رمم العقول والأفهام، وأيقظ بأصواتهم مخدري الشعوب هذا الصنف هو الذي قام لله ينادي بشرع الله مضحيًا في سبيله، متحملًاصابرًا محتسبًا مستشهداً دفاعًا عن منهجه، يحكي لي الأستاذ المرحوم محمد كمال عن واقعة عايشها في سجنه عن الشيخ أحمد شريت، فيقول: كان الرجل مريضًا وكنا بجواره، فتعافى قليلًا، ثم غفا غفوة، واستيقظ مبتسمًا، فحمدنا الله على سلامته، وإذا به يقول: أستودعكم الله سألحق بربي بعد ساعة من الآن، لقد جاءني في نومي فلان من إخواني وفلان، وقالا لي: أما زلت في مكانك هذا إنك ستأتي إلينا بعد ساعة من الآن، فأخذنا نقول له: إنك بخير وسيمتعنا الله بك، وما هي إلا ساعة واحدة حتى فارق الحياة والابتسامة على وجهه ليلحق بإخوانه الذين استشهدوا في سبيل دعوتهم مقبلين على الله، أحياءٌ غيرُ أمواتٍ عندَ ربهم يُرْزَقُوُنَ.

إن الأستاذ محمد كمال الذي عاش مع إخوانه جهاد الدعوة ومحنها ولأوائها، وعاين مع من عاين وذاق مع من ذاق حلاوة الإيمان، كان ذا شخصية فذة في شبابه وشكيمة غضة في رجولته، وعقل حصيف في كهولته، كنا في موطننا «ميت غمر» وهو معنا يجلس في وسط عظماء القوم كأنه ملك وسط رعية، أو سلطان بين عوام الناس ويجلس بين أترابه أستاذًافحلًا بين متعلمين وتلامذة، ويقعد مع إخوانه أبناء دعوته أبًا لهم قدوة لصغيرهم، ومثلًا لكبيرهم، كريمًا معطاء سخيًا عفًا نديًا، يحبأن تكون بده العليا في تواضع جم:

أخلاقهُ نُكَتٌ في المجدِ أَيسَرُها ... لُطْفٌ يُؤلِّفُ بينَ الماء والنارِ

لو زرته لرأيت الناس في رجلٍ ... والدهر في ساعة والأرض في دارِ

أبا أحمد.. كم كنت سندًا وعونًا علىالخطوب والأيام، رفيق الدرب، كم كُنت أخًا حانيًاعطوفًا كبير الهمة واثقًا بالله تعطينا: زادًا عند تعثر الخطو، وثقة عند نزول النوائب، ودفعًا عند فتور الهمة، كانت رؤياك تذكر بالله، وحديثك يدفع للتوكل عليه، وهمتك توحي بالثبات على شرعته، فجزاك الله عن الإسلام وعن المسلمين وعنا خير الجزاء وإنا لصابرون.

أَرَى الصَّبْرَ مَحْمُودَاً وَعَنْهُ مُذَاهِبٌ ... فكيف إذَا مَا لَم يكُنْ عَنْهُ مَذْهَبُ 

هو المَهْربُ المُنجِي لمن أحدَقتْ بهِ ... مكارِهُ دهرٍ ليس منهن مَهْربُ 

وسلام الله عليك ورحمته مني ومن إخوانك وأحبابك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الرابط المختصر :