; رمضان والأمة الموعودة بالنصر | مجلة المجتمع

العنوان رمضان والأمة الموعودة بالنصر

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 22-ديسمبر-1998

مشاهدات 9

نشر في العدد 1331

نشر في الصفحة 9

الثلاثاء 22-ديسمبر-1998

ثاني إشراقات رمضان كل عام، فتهفو إليها النفس المؤمنة، وتشرئب وتتسامى بعد قتامة وغفوة، وتهاجر وقسوة، وكأنها معه على ميعاد، ولنفحاته على شوق، تمامًا كما كانت البشرية في سالف عهدها معه على موعد، وإلى فجره وهداه على لقاء؛ لإنقاذ البشرية المعذبة، وردها إلى موازين القسط، وليرسم لها معالم الطريق؛ لحفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، ويهتف بها داعيًا أن تعيش البشرية مستجيبة لأصدق الحديث، وأسمى الآيات، مذعنة لنداء الفطرة، مدركة لصوت الحكمة، متلقية لأسمى التجليات، وأصدق الإلهامات، وموازنة بين متطلبات الجسد، وضرورات الروح.

يأتي رمضان بأسراره الباهرة، وحكمه الغالية، ونفحاته العذبة، وعطائه الدائم، ينتهي الزمان ولا تنتهي عجائبه، وتنقضي الأيام ولا تفنى غرائبه، وكان وحيه ما زال يترقرق في النفوس، يقدم أسراره للعقل؛ ليستجيش خواطره، ويحرك أفكاره، ويستثير حوافز الهمم، ودوافع التقصي في قوى الإنسان الحيوية، وليحول خط التاريخ دائمًا بتحول خط الضمير الإنساني، والذين يعيشون هذه النفحات، ويرتشفون هذه التجليات، هم الذين يصنعون التاريخ، فليس الإنسان هذه الجلة الهامدة، ولا هذا الهيكل الجسدي الفاني الضعيف، وإنما هو البصيرة والفكرة، والهمة والعزم، والقلب والروح الوثابة، والنفس القوية، والغاية الفتية، ورمضان هو الذي يعطي ذلك كله، ولأمر ما نزل فيه القرآن، وبدأت فيه الرسالة، وكان مصدرًا للإشعاع، ومعلمًا للرقي، ومبعثا للهمم، فمن أضاعه فقد نفسه، وتنكب طريقه، وصدق رسول الله ﷺ حين قال: «بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له»، ومن الحسن البصري بقوم يضحكون في رمضان، فقال: «إن الله- عز وجل- جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، والعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته»، نعم فرمضان ينبوع الخير، فمن طمسه حرمه، ومدرسة الفلاح، فمن تلهى عنها رسب في الحياة، وهدم في نفسه صوت الحكمة، وأهدر أسمى التجليات، وأصدق الإلهامات.

والصوم تدريب للنفس على الصبر، وللطبع على الانقياد، والقلب على العزم، وللأمة على بذل الجهد والكفاح، ولأمر ما لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون شهر رمضان هو شهر الجهاد والنصر، والكفاح والفوز، ففي السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان، وكانت أعظم انتصار، وأحسم معركة؛ حيث كانت فاصلًا بين الحق والباطل، وفي رمضان من السنة الخامسة، كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق؛ حيث وقعت بعد رمضان، وفي رمضان من هذا العام، وجهت السرايا لهدم الأصنام، وفي رمضان من السنة الثامنة، تم فتح مكة، واستسلم سادتها بعد طول عداوة وعناد، ودخلوا في دين الله أفواجًا، وتهاوت الأصنام، وفي رمضان من السنة التاسعة، كانت غزوة تبوك بكل ما فيها من دروس وعبر، وفي رمضان من العام العاشر، كانت سرية اليمن.

وفي رمضان من عام ثلاثة وخمسين، تم فتح العرب لرودس، وفي رمضان عام ٩٢هـ انتصر القائد المسلم طارق بن زياد على رودريك في معركة فاصلة، واستقر المسلمون في الأندلس زهاء ثمانية قرون، نشروا فيها الحضارة والهداية.

وفي رمضان عام ٥٨٤هـ أحرز البطل صلاح الدين، انتصارات كبيرة على الصليبيين حتى استخلص منهم معظم البلاد، التي كانوا قد استولوا عليها، وحينما طلب منه أصحابه أن يستريح من الجهاد في شهر الصوم، قال: إن الصوم أعون على النصر، وليس صارفًا عنه، وأصر على أن تدور المعركة الرهيبة في رمضان، وواصل زحفه حتى استولى على قلعة صفد في منتصف رمضان، وهي أعظم معاقل الصليبيين، وفي رمضان عام ٦٥٨ هـ هزم المسلمون جنود التتار في عين جالوت، وسحقوا زحفهم الهمجي، الذي كان يستهدف القضاء على الأمة الإسلامية، وفي العصر الحديث، وفي العاشر من رمضان، ذاق المسلمون في تاريخهم الحديث، أكبر نصر لهم على اليهود في عام ۱۹۷۳م، فليس عجبًا أن ينتصر المسلمون في رمضان، وإنما العجب ألا ينصروا، وليس عجبًا أن يتم للمسلمين النصر والفوز وهم في رحاب الله، وفي شهر القرآن؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله، ومن سأل الله، وجده تجاهه، ومن استعان بالله أعانه الله.

وسيظل رمضان على مدى الأيام، باعث الهمم، ومجدد العزمات، ومربي الرجال، ومجيش الأمة ضد أعدائها، وسيظل مجدد الهوية، ودافع الشخصية المسلمة، وقائد الأمة إلى النصر على الهزائم النفسية والحربية، ويستحيل على أمة يبعثها رمضان كل عام ويحييها القرآن كل سنة، أن تتضعضع لها عزيمة، أو يذهب لها ريح، أو يندثر لها ذكر، ولن يستطيع أحد أن يجفف ينابيع رمضان؛ لأنه قدر هذه الأمة، وروحها، وجسدها، أو يحول بين المسلمين وبين ذكرياته، وإنتصاراته، وإشراقاته الهادرة.

هذه الأمة تحمل قوتها بين جنباتها، ونصرها في قلوبها، وجهادها في شهورها وأيامها، ورمضانها، وقرآنها، وتراثها، فهي إذن الأمة الموعودة بالسيادة، وإن غالبها الأعداء طويلًا، ووعد الله لها لن يتخلف، وصدق الله:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (سورة النور: ٥٥).

ولكن الذي يجب أن نحرص عليه أن نكون لذلك أهلًا، فهل نحب أن نكون، ونعزم على ذلك في رمضان؟ نسأل الله ذلك.

الرابط المختصر :