; روسيا والشيشان بعد اغتيال مسخادوف | مجلة المجتمع

العنوان روسيا والشيشان بعد اغتيال مسخادوف

الكاتب عاطف عبدالحميد

تاريخ النشر السبت 19-مارس-2005

مشاهدات 28

نشر في العدد 1643

نشر في الصفحة 36

السبت 19-مارس-2005

  • هل يفتح رحيل «ياسر عرفات الشيشاني» صفحة جديدة في الصراع؟!

هكذا تعلمت المخابرات الروسية من تكتيكات الاحتلال الأمريكي في العراق، استوعبت كيف تعرض المشاهد المثيرة التي تصيب الناس بالصدمة والترويع، فها هي المشاهد تتوالى من أرض الشيشان، سلم خشبي ينتهي إلى حفرة تحت الأرض، حيث اختبأ الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف كما اختفي الرئيس العراقي السابق صدام حسين، جثة مسخادوف عارية مفقوعة العينين ملقاة على أرض قدرة غارقة في الدماء، مع اهتمام من رتبوا هذا المشهد أن يظل الوجه مميز الملامح بلحية مسخادوف المندية وشعره المصفف، حتى يتأكد الناس أن الصورة للرئيس الشيشاني وليس لأحد غيره.

تدافعت الأسئلة في أدمغة الناس بعيد انتشار الخير: كيف تمت عملية الاغتيال؟ وهل هناك من خيانة في صفوف المقاومة؟ ما حجم ما كسبته روسيا وما فقدته الشيشان؟ وما مستقبل المقاومة الشيشانية؟ وهل ينتهي خيار التفاوض بلا رجعة في مسار القضية؟ وأين المسلمون مما يحدث؟

يعود بنا اغتيال الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف إلى مشهد العام 1869م، حينما قضى جيش روسيا القيصرية على أكبر حركة للجهاد الشيشاني نحو الاستقلال فتم أسر الإمام شامل فاقد حركة المقاومة الجسورة، وأحسن استقبال الأسير بل سمح له أن يؤدي فريضة الحج، فغادر موسكو إلى كييف ثم القسطنطينية فمصر وصولًا إلى الأراضي المقدسة، ووافته المنية في المدينة المنورة عام 1871م، حيث كانت مفاهيم القتال مختلفة، وكان القياصرة أهل عنصرية، وكانت الشيشان ميدانًا للمعركة، أما أهلها فكانوا يعرفون لدى الروس بالمقاتلين الشجعان وليسوا إرهابين، كما يسمهم إعلام روسيا اليوم.

لم يعد الصراع اليوم جيشًا في مواجهة جيش، بل جرائم حرب تقوم بها روسيا في الشيشان مقابل عمليات ثأرية يتم فيها استهداف المدنيين في وسائل المواصلات والحفلات والأسواق، مع استنكارها من دول العالم. نسخة مما يجري في حالة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حتى سميت الشيشان بفلسطين القوقاز.

حتى أسلوب الاغتيال الروسي المسخادوف جاء محاكاة للنموذج الإسرائيلي لاصطياد القيادات الشيشانية لتوجيه ضربات قاتلة لحركة المقاومة. ويوسع أي مراقب للصحف الروسية خلال السنوات الماضية أن يلحظ مناداة بعض المسؤولين الروس بضرورة تبني السياسة الإسرائيلية القائمة على تصفية قيادات حركات المقاومة لإضعاف بنيتها تمهيدًا لتصفيتها.

بل إن اغتيال المخابرات الروسية للرئيس الشيشاني الأسبق سليم خان بندرباييف في العاصمة القطرية الدوحة في مثل هذه الأيام من العام الماضي اعتبره البعض تقليدًا عرفيًا للاغتيال الإسرائيلي لكوادر فلسطينية خارج الحدود.

لماذا يتم التخلص من مسخادوف الآن؟

هناك عدة أسباب للتخلص من رجل شبهته الصحافة الغربية بياسر عرفات الشيشاني الذي ترك البندقية في ربع حياته الأخير، وجلس أمام عدوه للتفاوض نحو حل سلمي. ورغم ما في هذا التشبيه من بعض التجاوزات «أهمها أن مسخادوف ظل على اغتياله حاملًا للبندقية، وأن روسيا لم تغتله لاستبداله بمنافسين أكثر تفهمًا كما هو في الحالة الفلسطينية» فإن الرجل كان الأقرب للتفاوض إذا ما قورن بزملائه المتشددين، وإن أردنا الدقة فإن التخلص من مسخادوف يرتبط بالمشاهد التالية:

-أن الوضع الداخلي الروسي يقول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصل إلى موقعه الحالي على خلفية الحرب في الشيشان، وقد أعيد انتخابه مرة ثانية وأخيرة في مثل هذا الشهر من العام الماضي، الآن أمام الرئيس الروسي ثلاث سنوات على فترة رئاسته، ومن المهم له أن ينهي هذه السنوات بنجاح ولو ظاهريًا قائم على القضاء على قادة المقاومة وجعل القضية الشيشانية بلا أب شرعي، بعد أن تم القضاء على كافة الرؤساء الشرعيين، فقد اغتيل أول رئيس للشيشان – وهو الجنرال جوهر دوداييف – في أبريل من عام 1996 ثم اغتيل سليم خان يندرباييف في فبراير عام ٢٠٠٤ ثم أخيرًا أصلان مسخادوف في مارس ٢٠٠٥ ويمكن أن يعتبر ذلك نجاحًا لحكم فلاديمير بوتين من منظور اللعبة السياسية الكبرى في الداخل الروسي.

-يمثل اغتيال مسخادوف حرقًا لآخر ورقة شرعية أمام العالم الذي لن يعرف بعد الآن شخصًا ما كان يشغل منصب رئيس الجمهورية الشيشان، ولن يتقدم أحد للمطالبة بسلطة شرعية أو تنفيذ اتقافات كان قد وقعها كتفًا يكتف مع الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين في عام ١٩٩٧.

-أن أشهر القادة الشيشان بعد مسخادوف وهو شامل بساييف ينظر إليه لدى عديد من الأطراف الدولية كإرهابي دولي؛ خاصة أن ذاكرة الناس ما زالت تحتفظ بمشاهد مذبحة بيسلان في سبتمبر من العام الماضي. إذًا نحن أمام حالة فراغ في السلطة الشرعية للقيادة الشيشانية، وهو واحد من أهم المكاسب التي حققتها روسيا بعملية اغتياله.

 ما طرح الآن من اختيار رجل مغمور هو عبد الحليم سعيد اللايف رئيسًا للشيشان، أن يكون له الأثر المطلوب لإبقاء البعد الشرعي في المطالبة بالعودة إلى رئاسة جمهورية الشيشان، وفي ظني أن الدور الذي سيلعبه أحمد زكاييف وزير الثقافة السابق في حكومة مسخادوف واللاجئ الآن إلى العاصمة البريطانية لندن سيكون أكثر أهمية من رئيس الشيشان الجديد.

هل ستموت المقاومة؟

لست ممن يقولون إن اغتيال أصلان مسخادوف سيقضي على عنفوان المقاومة الشيشانية، فهذه المقاومة - من خلال رصدي لنشاطها - قد قضى على عنفوانها بالفعل خلال السنوات الثلاث الماضية؛ لأسباب عديدة بعضها مرتبط بالأوضاع الدولية والحملة المالية على الإرهاب وبعضها مرتبط بالمطاردة الروسية لها في كل الدول التي تسعى إليها، وتوثيق علاقاتها بهذه الدول باتفاقيات اقتصادية وأمنية ودبلوماسية، وبعضها مرتبط بانهيار عزيمة المدد الداخلي في الشيشان، نتيجة الحملة العنصرية الشرسة التي تقوم بها القوات الروسية تجاه الشعب الشيشاني.

المصطلحات التي نوردها هنا عن حملة عنصرية وإبادة جماعية وتطهير عرقي لا نقولها يدافع عاطفي أو خطابي؛ فهذه هي الصورة الحقيقية التي تنقلها جماعات حقوق الإنسان الروسية وبعض الصحافيين الروس الذين ما زالت ضمائرهم حية وفي مقدمتهم الصحفية الشهيرة آنا بوليتكوفسكايا «انظر المراجع للاستزادة في نهاية المقال».

أما عن قدرة المقاومة الشيشانية على البقاء بعد مسخادوف فلا بد أن نفرق بين مستويين:

-ميدان الصراع المسلح داخل جمهورية الشيشان، وهنا نحن نتحدث عن جيش الدولة عظمى أمام عدة آلاف من المقاتلين المطاردين في الجبال والغابات وأصبحوا اليوم في جيوب منعزلة محصورة.

-توجيه المقاومة لعمليات انتقامية داخل المدن الروسية، وهذه ستستمر عدة أعوام مقبلة وعلى فترات متباعدة؛ دون أن يغير ذلك من موازين القوى في شيء. ولا يجب أن ننتظر أن تؤدي هذه العمليات إلى إجبار روسيا على الرجوع لطاولة المفاوضات؛ فروسيا ليست إسبانيا التي قلب فيها تفجير قطارات مدريد الحكومة رأسًا على عقب، السلطة في روسيا لا تهتم كثيرًا بوقوع عشرات القتلى. فالمحاسبة البرلمانية شبه معدومة، وحتى لو نجح المقاومون الشيشان في الثأر لمسخادوف فلن يثني هذا الجيش الروسي من احتلاله للشيطان وتحويل المدن والقرى إلى مساكن أو الاعتقال في سجون يعتبر سجن أبو غريب مقارنة بها فندقًا «خمس نجوم» على حد تعبير أسامة عبد الحكيم في دراسة له عن سجن «تشرنوكوزوفا» الشهير الذي تمارس فيه أقسى أنواع التعذيب في التاريخ، «انظر المراجع للاستزادة».

ما البديل السياسي لحركة المقاومة؟

يلح كثيرون على أن حركة المقاومة الشيشانية ستدخل منعطفًا حرجًا باغتيال صاحب فكرة التفاوض المغتال أصلان مسخادوف، وفي ظني أن هذا مجانب للصواب. فروسيا فلاديمير بوتين لیست روسيا بوريس يلتسين، وكان واضحًا لمن يرقبون الأوضاع الداخلية الروسية منذ تسلم بوتين رئاسة روسيا في مطلع عام ٢٠٠٠ أن خيار التفاوض قد شطب من أجندة السياسة الروسية تجاه القضية الشيشانية، واستبدل به خيار القهر والإخضاع لصالح تنشيط الجيش المترهل الساعي إلى الثأر من هزيمته أمام الشيشان عام ١٩٩٦.

البديل السياسي كان في حياة مسخادوف وما زال قائمًا بعد اغتياله تطرحه حركة المقاومة الشيشانية، وتنشر بنوده على موقع حركة المقاومة على الإنترنت بثلاث لغات «روسية، إنجليزية وتركية». ويقول إن المقاومة مستعدة للتفاوض مع الروس إذا ما توافرت الشروط التالية:

1-أن تكف روسيا من حربها في الشيشان وما ترتكبه من قتل وتدمير واغتصاب، ليتم بعدها الرجوع إلى اتفاقية السلام والتعاون المشترك التي وقعها الرئيس بوريس يلتسين والرئيس الشيشاني مسخادوف في ١٢ مايو/ أيار ۱۹۹۷ كنقطة بداية لتنظيم العلاقة بين الجانبين. «لا يعني اغتيال مسخادوف هنا أن الأمر لم يعد شرعيًا بالمعنى القانوني، فيوريس يلتسين خرج من السلطة تلاحقه لهم الفساد وورثت عنه روسيا كل تعهداتها الدولية».

 2-تفكيك القاعدة العسكرية الروسية في موزدوك بإنجوشيا وخروج القوات الروسية من جمهورية الشيشان. 

3-إنشاء منظمة الأمن والتعاون القوقازي تضم الشيشان وروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان، بمراقبة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والولايات المتحدة. وتشكل هذه المنظمة قوات حفظ سلام ترصد الوضع في الشيشان التأكد من اختراق أي من الجانبين لشروط السلام.

4-تكوين منطقة تخوم «منطقة متسعة العدة كيلومترات وليست حدًا فاصلًا» تعزل الشيشان عن روسيا بما يتراوح بين ۵۰ و۱۰۰ كم يرصد فيها المراقبون خروقات الاتفاق من كلا الجانبين.

من يقولون إن اغتيال مسخادوف قد ألقى بالشيشان في ركن مظلم منعزل أن تخرج منه، لديهم بعض الحق، لكن ليس لأن مشروع السلام في الشيشان مات مع مسخادوف، بل لأن روسيا فلاديمير بوتين غير مستعدة لهذا الخيار من حيث المبدأ سواء عاش مسخادوف أو اغتيل.

 فما طرحه مسخادوف قبل اغتياله وما هو مطروح اليوم بعد اغتياله من العودة للتفاوض كان متاحًا من قبل، بل وكتب عنه رئيس وزراء روسيا السابق ووزير خارجية الاتحاد السوفيتي الأشهر يفجيني بريماكوف في كتابه «في قلب السلطة: مذكرات سياسية» ونشرت فحوى الفكرة، الليموند الفرنسية. وتقوم فكرة التفاوض على منح الشيشان صلاحيات فدرالية واسعة تجعلها القرب إلى الاستقلال ولكن مع الإبقاء عليها داخل المركب الفيدرالي الذي «يشكل الفيدرالية الروسية». تقوم فكرة الفدرالية على أن يكون للشيشان برلمانها الخاص ونظامها الإداري والقضائي المستقل. مع وجود ممثل عام للحكومة الروسية إلى جانب الحكومة المحلية، ولا يكون للجيش الروسي وجود في الجمهورية، وفي المقابل لا تقوم الشيشان ببناء جيش إلا بعدد رمزي، مع وجود نظام مالي ومصرفي مستقل وعلى أن تمثل الشيشان في المحافل الدولية كما كانت فنلندا تمثل في القرن التاسع عشر في شخص القيصر الروسي وليس في صورة ممثل مستقل عنها.

ولكن المفاهيم القابعة اليوم في عقول ساسة الكرملين لا تقبل بخيار استقلالي ولا فيدرالي، فالشيشان أكثر أهمية من مجرد «مكان مزعج مليء بالإرهابيين» على حد تعبيرهم، هي أكبر من خاصرة روسيا الجنوبية التي يقف على أعتابها الأمريكيون في جورجيا وتمر بأرضها أنابيب النفط بعوائدها الفلكية المنتظرة ومنها يمكن أن تنتشر عدوى الانفصال أو تأثير الدومينو كما يروق للأوروبيين أن يشبهوها. 

وإذا كانت هناك كلمة ختام فستكون لرصد ما كان متوقعًا. فقد جاء النقد من بلجيكا والمملكة المتحدة ودول البلطيق أكثر مما جاء من العالم الإسلامي الغارق حتى أذنيه في مشكلات عديدة أحدثتها المأساة العراقية والمأزق السوري، وتصدير الثورة الأوكرانية إلى لبنان، وجدل الإصلاحات السياسية، ناهيك عن الملاحقة اللاهثة لما يجري للشعب الفلسطيني.

لا يوجد الآن مكان للشيشان على صفحات الاهتمام. هذا إذا لم نقل إن الفضائيات العربية في سعيها التنافسي لنقل حوادث القتل والتدمير في كل مكان قد أصابت شعور الناس ببلادة لم يكن ليصل إليها أذكى علماء الحرب النفسية من أعدائنا ولهم أن يقدموا إليها الشكر على ذلك!

مصادر للمراجعة:

للانتهاكات الروسية في الشيشان بشهادة صحافيين روس راجع:

-Politkovskaya, Anna (2001) A Dirty War: A Russian Reporter in Chechnya. Published by Harvill Pr.

-David Hearst. Anna Politkovskaya, Russian ‘s whistle blower. The Guardian 16 March 2002.

- Politkovskaya, Anna (2003) A small corner of Hell: Dispatches from Chechnya _ published by the University of Chicago Press.

أسامة عبد الحميد. «فندق أبو غريب وسجن تشيورناكوزوفا» صفحة المعرفة بموقع الجزيزة نت. بتاريخ 30/5/2004.

-عاصف عبد الحميد. «أنا بوليتكوفسكيا.. شاهد على الجحيم» صفحة ثقافة وفن بشبكة إسلام أون لاين.نت. بتاريخ 19/6/2004.

ولمراجعة رد المقاومة الشيشانية على اغتيال الرئيس أصلان مسخادوف راجع شبكة القوقاز سنتر www.kavkazcenter.com.


الرابط المختصر :