العنوان سنة الله في ابتلاء الأمم.. الحلقة الرابعة
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر الأحد 15-ديسمبر-1991
مشاهدات 20
نشر في العدد 980
نشر في الصفحة 38
الأحد 15-ديسمبر-1991
سؤالان بعد التحرير
الله الذي لجأنا إليه وقت الأزمة هو ذاته الإله
بعد التحرير
سؤالان للفئة المُعرِضة:
والله تعالى يسأل من كان على السفينة من الذين أعرضوا عندما نجاهم إلى
البر، السؤال الأول: ﴿أَفَأَمِنتُمۡ أَن يَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ ٱلۡبَرِّ أَوۡ
يُرۡسِلَ عَلَيۡكُمۡ حَاصِبٗا ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ وَكِيلًا﴾ (الإسراء:68).
والخطاب موجه لتلك الفئة التي نكثت عهودها مع الله، وعادت إلى
معاصيها، وقست قلوبها، وطغت وبغت.
يخاطبها الرب سبحانه وتعالى مخاطبة منطقية، يسألهم هل أنتم في أمان
وضمان من عقاب الله بمجرد نزولكم اليابسة؟ والله بهذا يريد أن يوصل لهم حقيقة
إيمانية بديهية، ولكن الران إذا غطى القلوب أفقدها الرؤية. هذه الحقيقة تقول: إن
الله تعالى الذي لجأتم إليه وأنتم على ظهر السفينة والأمواج تعبث بها يمنة ويسرة،
وهي كالجبال، ودعوتموه بأن يخلصكم من العاصفة، وينقذكم من الأمواج التي أحاطت بكم،
فاستجاب لكم، وأنقذكم بقدرته سبحانه وتعالى، هو ذاته الإله الذي يستطيع أن يأمر
الأرض بالانشقاق فتبتلعكم، فهو قادر على إهلاككم في البحر كقدرته على إهلاككم في
اليابسة؛ وذلك لأن كل ما على الأرض والبحر وما بينهما ملك له يتصرف به كيفما يشاء
ومتى ما يشاء، إنه على كل شيء قدير.
فالإله الذي لجأ له أهل الكويت عند هجوم الغزاة، هو ذات الإله الموجود
والحي الذي لا يموت بعد التحرير، ولكن العذاب الثاني الذي يعقب الإعراض يقول تعالى
في نهايته: ﴿ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمۡ وَكِيلًا﴾ (الإسراء:68). فهل يستطيع جيش
التحالف أن يوقف الخسف في الأرض، أو يستطيع بكل ما يملك من التكنولوجيا أن يوقف
الرياح العاتية المليئة بالحصى الصغار؟ فإذا كان الله قد قدّر تسخير جيوش العالم
للوقوف مع أهل الكويت المظلومين في البلاء الأول، فهل سيوقف أحدًا في البلاء الآخر
الذي يعقب الإعراض، والإصرار على المعاصي من البعض؟
السؤال الثاني: ﴿أَأَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً
أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا
كَفَرْتُمْ ۙ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ (الإسراء:69).
وهنا يطرح سؤال آخر للمعرضين، ولغير المستفيدين من الأزمات، وهو
احتمال عودتهم للإبحار في سفينتهم، واحتمال عودة الرياح العاتية مرة ثانية، ولكن
من نوع آخر وهي الريح القاصف. يقول الشوكاني: "القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدة، من قصف
الشيء يقصفه: أي كسره بشدة" (49). ويكون بعد ذلك
الغرق الذي لا عودة بعده.
وهذا يدعونا نحن أهل الكويت للتفكير، ولنصيحة المعرضين بأن ينتبهوا
لهذا الاحتمال، فقد تعود الأزمات مرة ثانية، وقد يتكرر الهجوم مرة أخرى؛ سواء من
هذا البلد أو من بلد آخر، وقد يكون البلاء القادم من نوع آخر تمامًا، كما هو الحال
بالنسبة لتغير نوعية الرياح. ولكن في هذه المرة يعقب الله تعالى بعد الإهلاك:
﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾.
أي ثائرًا يطالبنا بما فعلنا. قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار
ما نزل بكم. فإذا كان الله قد رقّق قلوب البشر في أنحاء العالم ليرثوا علينا، وعلى
مصابنا، فلن يسأل عنا أحد بعد هذه العقوبة الثانية.
هذان سؤالان للمعرضين ليتفكروا بما سيحدث جراء هذا الإعراض، ونكث
العهود التي قطعوها مع الله تعالى أثناء الأزمة.
المرحلة الثالثة: فتح أبواب الرزق
هذه هي المرحلة الثالثة في سنة الله تعالى في الأمم عند ابتلائها، وهي
مرحلة تخص تلك الفئة التي لم تدرك أهداف البلاء، ولم تستفد مما أصابها، فلم تعمل
بمقتضى هذه السنة، وبما يريده الله منها عند ابتلائها.
يقول تعالى في شأن هذه الفئة، وعن هذه المرحلة: ﴿فَلَوْلَا إِذْ
جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ (الأنعام:43-44).
يقول ابن كثير: "أي فهلا إذ
ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا، ﴿وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي ما
رقت ولا خشعت، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من
الإصرار والمعاندة والمعاصي، ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ﴾ أي أعرضوا
عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم، ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾
أي فتحنا عليهم أبواب الرزق في كل ما يختارون، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم" (51).
فمما يريده الله تعالى عند ابتلاء الأمم التضرع إليه عند رؤية قدرته
عليهم وانكشاف ضعفهم أمامه، وهذه هي النتيجة الطبيعية التي يقوم بها أصحاب الفطرة
السليمة، أما الذين فسدت فطرتهم، فإن أهواءهم تغلب فطرتهم؛ وذلك لأنهم لم يتخذوا
الله إلهًا لهم بل اتخذوا أهواءهم هي الآلهة، لذلك يقول تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾ (الجاثية:23). ثم غطى الران قلوبهم حتى غدت كالحجارة،
بل أشد قسوة، قد انسدت جميع المسامات فيها، فلم يعد هناك مدخل لدخول العبر
والمواعظ المسموعة أو المشاهدة، وفسدت جميع أجهزة الاستقبال عندهم فأصبحوا
كالأنعام بل هم أضل: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ
وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة:7).
فعندما وصلوا إلى هذه المرحلة، فتح الله عليهم أبواب الرزق من كل ما
يحبون ويتمنون، وهذا هو استدراج من عند الله تعالى، وهو في ذات الوقت فرصة للعودة
إليه، والتفكر بما أقدموا عليه. وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تمر بها أمة من
الأمم؛ ذلك لأن إقناع الناس بها من أصعب الأمور، والشيطان يزداد اشتداده عليهم في
هذه المرحلة؛ ليجعلهم في قناعة تامة من أنهم غير مخطئين، وغير مقترفين ما يستحق
العقوبة الإلهية، ولو كانوا كذلك فلماذا يفتح الله عليهم هذه الأبواب من الرزق؟
أليس هذا علامة من علامات حب الله تعالى لنا؟ وهذا يجعلهم في إصرار مبالغ فيه على
رد نصح الدعاة والمخلصين بالإقلاع عن المعاصي والقضاء على مظاهر الفساد، ﴿فَأَمَّا
الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ (الفجر:15). أي لولا أنني أستحق ذلك لما أكرمني الله تعالى.
هذا ما يقوله عقلهم وتفكيرهم الباطني، ولذلك يتصرفون هذا التصرف المعوج ويصرون
عليه.
ويذكر الله تعالى هذا الصنف من الناس الذين يغترون بالفرص التي يعطيهم
الله تعالى، وعدم معاقبتهم على معاصيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ
النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ
يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا
اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ﴾ (المجادلة:8). فهم ها هنا يحتجون بصدق أعمالهم وصوابها لتأخير عقوبة
الله تعالى لهم، وهو خداع نفسي يعرفون خلافه.
والله تعالى يهدد هذه الفئة التي لم تنتبه لهذه المرحلة بقوله:
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ۚ فَتَمَتَّعُوا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
(النحل:55). يقول الشوكاني: "أي لكي يكفروا
بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى كان هذا الكفر منهج الواقع في موضع الشكر
الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم، وهذا غاية في العتو والعناد ليس وراءها
غاية" (56).
- (44) نعمان 32.
- (45) فتح
القدير 4/245 بتصرف.
- (47) فتح
القدير 3/340.
- (49) فتح 3/245.
- (51) تفسير ابن
كثير 2/2 بتصرف.
- (56) فتح
القدير 3/169.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل