العنوان شخصيات في الميزان لماذا مدحه النصارى والشيوعيون؟ علامات استفهام كبيرة..
الكاتب د. إسماعيل الشطي
تاريخ النشر الثلاثاء 17-سبتمبر-1974
مشاهدات 17
نشر في العدد 218
نشر في الصفحة 15
الثلاثاء 17-سبتمبر-1974
سئل ما هو الحكم المثالي؟
فأجاب: أن يحكم الشعب نفسه بنفسه!
لولا حسن الظن بالناس لقلنا في الأفغاني وتلميذه محمد عبده الكثير.
هذا ما قاله أحد أساتذتي الفضلاء، وهو يتحدث عن دور الأفغاني وعبده وأثرهم في
الحركة الإسلامية..
ولكنني وجدت في هذا الكثير أمورًا خطيرة.. بل أكثر من خطيرة.. أمورًا لا نملك إلا الإفصاح عنها.. ومنها لا نملك إلا أن نحكم على تأثير هذين الرجلين في الحركة بأنه تأثير سلبي أضعف مسارها، بل إن حالة التردي التي وصلت إليها ما يسمى بالمجتمعات الإسلامية كانت بسببها مباشرة.. لذلك كان من الخطأ أن يحشر هذين بين مصاف أبطال إسلامنا الحاضر كمحمد بن عبد الوهاب والسنوسي ومولانا السلطان عبد الحميد.
وقبل بحثي في سيرة الأفغاني.. وقبل تنقيبي عن خلفيات حركته.. كان في نفسي إحساس وشعور يستهجن كل أولئك الرجال الذين ينالون اهتمامًا بالغًا من الإعلام الحاضر.. ويبرزون بتعمد بالغ على صفحات التاريخ..
فالإعلام الحاضر معروف بسعيه إلى إهدار القيم الإسلامية ومشهور بتشويهه للحركات الإسلامية ورجالها.. ما الذي جعله يتوقف عند هذا الرجل وتلاميذه؛ ليبرزهم بدون عیب ولا خطأ؟؟ على الرغم من أنهم رجال دين!!
لقد نال الأفغاني وتلامذته نصيبًا وافرًا من الاهتمام الإعلامي في الصحافة والإذاعة والتلفزيون.. وسطرت سيرتهم في كتب التربية والتاريخ بأنهم الأبطال المجددون خلفاء خالد ابن الوليد وصقر قريش وصلاح الدين.. وأضفى عليهم الكتاب والمؤرخون هالة وهيلمانا.. وتوقف النصارى واليهود عند سيرتهم وتحدثوا عنهم كأبطال عالميين.. وأشاد الشيوعيون والملحدون والعلمانيون بهم وجعلوهم ثوارًا كبقية الرفاق.. وأما المستشرقون الحاقدون على الإسلام فإنهم لم يكتموا فرحتهم وفخرهم واعتزازهم بهم.
هذان الرجلان رجلا دین.. وتلك الفئات المذكورة تحمل مقتًا وكرهًا شديدًا للإسلام ورجاله ترى ما الذي حبب هذين الرجلين إلى تلك النفوس النتنة، وما الذي جعل تلك الفئات تشذ عن قاعدتها؟
ولماذا حسن البنا لم ينل الإعجاب؟.. وهو الذي أدهش العالم ببطولات الإخوان في فلسطين.. وهو الذي أثر في الشعب المصري بدرجة جعلت رئيس الوزراء آنذاك
«محمد حسين هيكل» يهتف بالبنا قائلا: اجعلني في جيشك الجرار..
ولماذا المودودي لم ينل الإعجاب؟.. وهم يعرفونه.. ويعرفون قوته.. بدرجة تجعل کسينجر لا يتحدث عنه إلا إطراء وإعجابًا ويصفه بالحنكة السياسية والكياسة والذكاء.
وذلك في كتابه عندما كان مدرسًا.. لماذا تتغافل وكالات الأنباء تأثيره الجماهيري في كلمات الإعلام؟؟
ولماذا السنوسي والخطابي لم ينالا الإعجاب؟ ولماذا الرافعي؟ ولماذا سيد قطب؟؟ لماذا؟.. أسئلة تدور في الأذهان عند ترى الأقزام ينفخ فيها لتصبح عمالقة.. والأبطال لا يذكرون.. ولكي نعرف الجواب.. ونفهم السبب.. لا بد أن نعرف ما هو الافغاني ومن هم تلاميذه!!
* أصل مجهول ونسب مجهول:-
الأفغاني مختلف في أصله ونسبه.. فيقال إنه فارسي الأصل أفغاني النشأة.. ومنهم
عبده أول من ذكر هذا في أول ترجمة كتبت لجمال الدين فتناقله عنه مترجموه من بعده.. وشك آخرون في هذا الكلام.. وقالوا إنه فارس الأصل أفغاني النشأة.. ومنهم مصطفى عبد الرازق.. ونشر الكاتب العراقي عبد الكريم الدخيلة في مجلة «الرسالة» وجريدة «الرأي العام» العراقية سنة ١٩٤٤ ما يؤكد أن الأفغاني من أصل فارسي.. ويدلل بإثبات میرزا غلام حسين- أستاذ اللغة الفارسية في الجامعة الأمريكية-.. ويحتج بقرابته ونسبه الموجود في قرية«أسد آباد» الفارسية وبعض أقاربه الموجودين بالنجف.. وكذلك أكد هذا الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي وحسين آغا.. يقول قدري قلعجي- الذي أنقل منه هذه الفقرة-: أنه تحقق من ذلك في رحلة قام بها إلى إيران، ويقول:«وجميع ما ذكرت قد يدعم رأي القائلين بأن جمال الدين كان إيراني الأصل.. وإنه انتسب إلى الأفغان؛ لأمر هام يتعلق برسالته الإصلاحية الكبرى..
فقد أراد السيد نشر هذه الرسالة في أقطار إسلامية سنية المذهب، ولم يكن من العوامل المؤاتية لنجاحها صدورها عن عالم شيعي النزعة وواضح أن مذهب السنة هو الشائع في الافغان، بينما يسود فارس المذهب الشيعي»
بينما يؤكد شكیب أرسلان أن مساءلاته للوجهاء الأفغان، دلت كلها على نشأة الأفغاني في أفغانستان..
ومهما اكتنف الغموض أصله إلا أن نشأته كانت في أفغانستان، وهذه النشأة كذلك يكتنفها الغموض.. أما عن نسبه فيقول محمد عبده في ترجمته: «ينمي نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي نسبه إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب- کرم الله وجهه-».
وعندما بحثت عن هذا المحدث المشهور لم أجد له ترجمة، فالمشهور لدى الناس هو أبو عيسى محمد الترمذي صاحب الجاه.. والمعروف في علم الرجال اثنان آخران هما: أبو الحسن أحمد الترمذي- المعروف بالترمذي الكبير-، وأبو عبد الله محمد بن علي الترمذي- المشهور بالحكيم الترمذي-..
ولا يوجد بينهم من يسمى بعلي الترمذي.. ولو تجاوزنا وقلنا أنه خطأ من محمد عبده.. فلا يوجد من بين هؤلاء المعروفين بالترمذي من ينتهي نسبه بآل البيت.. فمن أين التقى نسب الأفغاني بنسب آل البيت؟؟ وكيف نجمع نسبته بالترمذي ونسبته بآل البيت؟؟
*عقيدته ومذهبه:-
يقول الأفغاني: «إنني شديد الإيمان بديني أؤمن بعقلي وليس للعقل نهاية، وأؤمن بمشاعري إيمان تصوف، ينتهي بي إلى وحدة الوجود».
ويقول رشيد رضا في «تاريخ الإمام»:
وإننا ندعم ما كتبه الأستاذ الإمام- عبده- على رسوخه وقوته بما كتبه أديب بك إسحق الكاتب المشهور وكان من تلاميذ السيد جمال الدين وأفراد حزبه في زمنه ص ۳۸، ماذا يقول أديب إسحق: «وغلبت عليه مذاهب الحكماء فداخله في ذلك بداءة بدء شيء من التصوف، فانقطع حينا بمنزله يطلب الخلوة لكشف الطريقة، وإدراك الحقيقة.. حتى صار له في القوم كثير من الأتباع والمريدين.
كل ذلك وهو دون العشرين سنًا.. ثم خرج من خلوته مستقر الرأي على حكم العقل وأصول الفلسفة القياسية.» ص ٣٩
ومن «تاريخ الإمام» ننقل ما قاله أحد تلامذة الأفغاني- وهو سليم بك العنحوري عن أستاذه وسفره إلى الهند-: «وفر إلى الهند وهنالك أخذ عن علماء البراهمة والإسلام أجل العلوم الشرقية والتاريخ وتبحر في لغة «السانسكريت» أم لغات الشرق، وبرز في علم الأديان حتى أفضی به ذلك إلى الإلحاد، والقول بقدمية العالم زاعمًا أن الجراثيم الحيوية المنتشرة في الفضاء هي المكونة بترق وتحوير طبيعيين ما نراه من الإجرام التي تشغل الفلك وأن القول بوجود محرك أولي حكيم وهم»
وكتب سليم العنحوري ترجمة فيها غرائب كثيرة نوردها حسب الفقرات، وقد اطلع محمد عبده على هذه الترجمة، عندما كان مقيمًا في بيروت واجتمع بالكاتب وطلب منه أن يخطئ نفسه فيما وصفه الأفغاني بالإلحاد وسكت عن بقية ما ذكر في الترجمة، وبادر سليم عنحوري بتخطئة نفسه في مسألة الإلحاد فقط.. وهذا كله موجود في «تاريخ الإمام» ونعود إلى عقيدة الأفغاني فنراها يهيمن عليها العقل والفلسفة كما صرح هو بنفسه.. وينتهي بعقيدته بالقول بوحدة الوجود.. وعندما رحل إلى دولة الخلافة.. ظهر في أول خطبة ألقاها تأثير هذه العقيدة على أفكاره.. مما أدى بشيخ الإسلام يعلن بتكفيره وآثاره جرائد الدولة عليه حتى طرد من دوله الخلافة..
أما عن مذهبه فتلميذه محمد عبده يصر على أنه سني حنيفي حنفي شديد التمسك بأهداب مذهبه.. بينما يقول الشاعر العراقي أحمد صافي النجفي: أن حسين آغا بن الحاج محمد حسن آغا المعروف بأمين الضرب- أي أمين صك النقود- أخبره بأن جمال الدين أقام في ضيافة أبيه ودرس عليه العربية وكان يومذاك شابًا ولا يزال يحتفظ بكراريسه..
ويقول الصافي، حدثه أحد مشايخ النجف: أن الشاعر المجتهد محمد سعيد الحبوبي
كان يحدث عن الأفغاني قائلًا: لقد كنا ندرس معًا علم التصوف عند الحاج عباس قولي بالنجف..
وإن صح هذا الكلام.. فمنه نتبين أن الأفغاني درس العلوم على شيوخ الشيعة خلاف ما قاله محمد عبده، ويقول عنه سليم في ترجمته: «ثم جاء مصر وكان قد سبق مغرف في الأستانه رياضها المشهور:«وزير المعارف» فأكرم مثواه إجلالًا لعلمه وأنزله حجرة في الجامع الأزهر وعين له راتبًا رابيًا مع وظيفة التدريس بعد أن محضه في النصح بأن يلزم خطة الشرع الأنور والدين الحنيف فلبث في الجامع حينًا من الدهر يفي فروض الصلاة ويواصل الأنفال والأوراد ويواظب على قشف الصوم مستمسكًا بشعائر أهل السنة» تاريخ الإمام ص ٤٥
* مؤسس المحفل الماسوني:-
بتأسيس محفل ماسوني للشرق تابع للمحافل الفرنساوية..
وكان قد انضم إلى الماسونية عام ۱۸۷۸ وذلك من خلال المحفل الإسكتلندي الموالي لانجلترا.. وتقدم في مراتبها المختلفة تقدمًا سريعًا، وجعل يقفز هذه المراتب قفزًا.. حتى أصبح من الرؤساء بعد وقت قصير.. وعندما وجد المحفل الإسكتلندي لا يعارض سياسة الدولة نهض خطيبًا فيهم قائلًا: «كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة وعجيبة، لكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل بين اسطونتي المحافل الماسونية.. ما معنى الحرية والمساواة والإخاء ودك صروح الظلم والعتو والجور؟ ما الماسونية التي تريدونها؟ أما نحن معشر الماسون فيؤلمني أنني الآن ما عرفت لنفسي بصفتي ماسونيًا، ولا لمطلق الماسونية تعريفًا يجعل لها صورة في الذهن.. أول ما شوقني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير خطير حرية ومساواة وإخاء.. فحصل لي من كل هذا وصف للماسونية وهو همة العمل وعزة نفس وشمم واحتقار الحياة في سبيل مقاومة الظلم».
والحق أن الحوار الذي تم كان نتيجة خلاف بين محافل الماسونية في العالم وتنافسها وتنازعها.. ذلك مما أدى جمال الدين إلى تأسيس محفل ماسوني تابع للمحافل الفرنسية التي كانت على خلاف مع المحافل الإنكليزية.. وبلغ أعضاؤه في فترة وجيزة ثلاثمائة عضو جعل له واجهة سياسية تسمى بالحزب الوطني نتكلم عنه فيما بعد.. وكان الأفغاني ينتقد المحافل الأخرى بشدة قائلًا: «لا أرى أبعد عن الحق من هذا القول، فالماسونية على شكلها هذا وتقاليدها ليست فقط قديمة العهد، بل هي لم تزل في المهد، وإذا أصر أبناؤها على الوقوف عند حد رموز، أكثرنا لا يفقه مغزاها ولا المراد من وضعها فإنها ستختنق في المهد ولا تدرج منه.. أما ماسونيتكم أيها الإخوان اليوم، فلا تتجاوز کیس أعمال وقبول أخ يتلى عليه من أساطير الأولين ما يمل ويخل في عقيدة الداخل ويسقط مكانة الماسونية من عينيه» ويقول أحد كبار رجال الماسونية في مصر في كتاب «فضائل الماسونية»: «وقد ظهرت الماسونية في سورية في مظهر الإخلاص والمحبة أثناء الحوادث العرابية سنة ۱۸۸۲ فإن الإخوان المصريين والمهاجرين الذين جاءوا سورية قابلهم إخوانهم بالترحيب العظيم، ودعوهم إلى محافلهم ومنازلهم وكان الأفاضل محمد عبده وإبراهيم بك اللقاني وحسن بك الشمسي وجماعة المرحوم جمال الدين الأفغاني وغيرهم يحضرون معنا في محفل لبنان ويخطبون فيشنغون أسماع السوريين بخطبهم النفيسة وأحاديثهم الطلية، ونال الأستاذ الشيخ محمد عبده مرتبة البلح والصدف من المندوب الأمريكي الذي حضر إلى المحفل اللبناني»
وهذه الحقائق يثبتها كل مؤرخي الأفغاني على السواء..
* الماسونية واتجاهاته السياسية:-
تعاليم الماسونية كانت منطبعة كثيرًا في أغلب اتجاهات الأفغاني السياسية وخاصة في مصر، وقد جعل الحزب الوطني واجهة سياسية للمحفل الماسوني.. وقد وضع جمال الدين برنامجًا لهذا الحزب تبدو فيه تعاليم الماسونية بصورة ما ويتلخص في النقاط الآتية:-
١- إبقاء مصر على علاقتها الودية بالباب العالي على أن تحتفظ باستقلالها التام.
٢- إلغاء نظام المراقبة الثنائية.
٣- إلغاء الامتيازات الأجنبية والمساواة بين المصريين والأجانب في دفع الضرائب
والخضوع للقوانين.
٤- تعميم التعليم ونشر الثقافة.
٥- تكوين مجلس شورى النواب.
٦- إطلاق حرية المطبوعات والحريات السياسية عمومًا.
٧- الحزب الوطني الحر حزب سیاسی لا ديني فقد جمع بين رجال ينتسبون لشتى
المذاهب والأديان.
من هذا الحزب انتشرت الموجه العلمانية وتردد للمرة الأولى الشعار الوطني المعروف «مصر للمصريين» وأخذ ينادي بالفرعونية لأول مرة ويتهم المسلمين والعرب بالظلم والاستبداد قائلًا: «إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد..
وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء غير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين.. تسومكم حكوماتهم الحيف والجور.. وتنزل بكم الخسف والذل وأنتم صابرون.. بل راضون.. وتنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عرق جباهكم بالمقارعة والسوط وأنتم في غفلة معرضون.. فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حياة.. وفي رؤوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية.. لما رضيتم بهذا الذل والمسكنة.. ولما صبرتم على هذه الضعة والخمول.. ولما قعدتم على الرمضاء وأنتم ضاحكون.. تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين.. وكلهم يشق جلودكم بمضغ نهمه.. ويهيض عظامكم بأداة عسفه.. وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت.. انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار ثيبة ومشاهد سیوة وحصون دمیاط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم».
وبهذا بذر الأفغاني أول بذرة للقوميات وجعل حزبه صورة لها.
* الماسونية واتجاهاته الفكرية:-
يقول الأفغاني: «رجعت إلى أهل جرم الأرض وبحثت في أهم ما هم فيه مختلفون فوجدته «الدين» فأخذت الأديان الثلاثة وبحثت فيها بحثًا دقيقًا مجردًا عن كل تقليد منصرفًا عن كل تقيد مطلقًا للعقل سراحه..
فوجدت بعد كل بحث وتنقيب وإمعان أن الأديان الثلاثة الموسوية والعيسوية والمحمدية على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية.. وإذا نقص في الواحدة شيء من أوامر الخير المطلق يجمع كل المؤرخين للأفغاني أنه قال استكملته الثانية».. ويقول: «وعلي هذا لاح لي بارق أمل كبير أن تتحد أهل الأديان الثلاثة مثل ما اتحدث الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها.. وإن بهذا الاتحاد يكون البشر قد خطا نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة» ويقول: «وأخذت أضع لنظريتي هذه خططًا.. وأخط أسطرًا وأحبر رسائل للدعوة».
ويقول الأفغاني: «وفي هذه الآية «ودين الحق ليظهره على الدين كله» ما يفهمنا أن هناك بعضًا من كل.. فالأديان في مجموعها هي الكل وأجزاؤها الموسوية والعيسوية والإسلام فمن كان من هذه الأديان كلها على الحق فهو الذي يتم له الظهور والغلبة؛ لأن الظهور الموعود به الدين.. إنما هو دين الحق كما قلنا وليس دين اليهود ولا النصارى ولا الإسلام؛ إذ أبقوا أسماء مجردة.. ولكن من عمل من هؤلاء بالحق فهناك ولا ندري ما هو الحق في نظره الذي إذا عمل به أحد الأديان أظهره الله على الدين کله؟
وينتهي جمال الدين إلى الاعتقاد بأن الدين قسمان: قسم عبادات وقسم معاملات.. فالعبادات: يؤديها الإنسان بمعزل عن كل أحد فلا يعارض غيره بها ولا غيره يعارضه إذ لكل وجهة موليها.. والله رب العالمين لا رب اليهود فقط ولا النصارى فقط ولا المسلمين فقط.. أما المعاملات: فهي شرع بين العموم يحض أبناء الطوائف كلها على العمل لخير وطنهم متكاتفين متعاونين.
وسئل ما هو الحكم المثالي للشعب؟
فأجاب:- أن يحكم نفسه بنفسه.. ولن يتأتى ذلك إلا إذا تعلم وعرف حقوقه وواجباته وحرياته ومارسها وحرص عليها.. وهذا هو سر الصراع القائم بيني وبين الحكام.. وعندما سئل عن المرأة، قال:- ولا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور..
وهكذا نراه يعمل ويخطط لهدف الماسونية وهو وحدة الأديان، وسنرى كيف يتعاون مع النصارى واليهود تعاونًا ملفتًا للأنظار.. وهكذا نراه قد فرق الدين إلى عبادات ومعاملات.. وهكذا نراه أول من طالب الشعب ليكون إلاهًا لنفسه ويشرع ما يشاء لنفسه ويحكم نفسه.. وهكذا نراه يحرص على السفور..
* الماسونية واتجاهاته الخلقية:-
يقول محمد عبده- في ترجمة الأفغاني-:«بقي علينا أن نذكر له وصفًا لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله وهو.. إنه كان في مصر يتوسع في إتيان بعض المباحات كالجلوس في المتنزهات العامة والأماكن المعدة لراحة المسافرين وتفرج المحزونين.. لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار» ويستطرد قائلا:«وأي غضاضة على المرء المؤمن في أن يفرج بعض همه بما أباح الله له».
ويقول سليم العنحوري في «تاريخ الإمام»: «وكان من ديدنه أن يقطع بياض نهاره في داره حتى إذا جن الظلام.. خرج متوكئًا على عصاه إلى ملهى قرب الأزبكية يدعى «قهوة البوسطة» ويقول: «فيقفل إلى داره بعد أن ينقد صاحب الملهى كلما يترتب له في ذمة الداخلين في عداد ذلك المجتمع الأنيق».
الأمر يفوق غرابة من ذهاب رجل دين لشرب المحرمات- على حد زعم الأفغاني- ويغادر الأزهر فاتخذ له في حارة اليهود بيتًا ما لبث أن صار منتدى العلماء والأدباء، يقول علي مظهر- أحد تلامذة الافغاني-: «إن يعقوب بن صنوع شاعر وكاتب وزجال وابن نكتة ويتقن عدة لغات ويعرف التشخيص.. ويفكر أفكارًا هزلية .. أما «أبو نضارة» فهذا اسم المجلة التي عاونه مولانا على إصدارها في عهد الخديوي اسماعيل»
وكان يجيب على سؤال وهو ما علاقة اليهودي يعقوب بن صنوع بالأفغاني؟ ويقول سليم: وبعد أن ذهب المنشئ الكاتب أديب إسحق إلى الإسكندرية قصد تمثيل الروايات تحت رئاسة الفاضل المغفور له سلیم نقاش سنحت عوارض بإلغاء التمثيل فأصبح أديب خالي الوفاض.. بادي الانقضاض.. فبعث به المرحوم حنين خوري إلى القاهرة مصحوبًا بكتاب« وصاة إلى جمال الدين».. فأحسن هذا لقياه لما توسمه فيه من أمارات الذكاء ومخايل النجابة، ولزمه ملازمة اللام للألف.. وأقبل عليه إقبال الهائم العاني الكلف فحصل له امتياز صحيفة اسمها «مصر».. واتخذ له دكانه بباب الشعرية- وهو حي اليهود- هيأ له فيها من أدوات الطبع بالحرف البولاقي المشهور مما قوي معه على إصدار تلك الصحيفة.. فكانت مودعة فصولًا وأمالي منسوجة بيراع جمال الدين ومنشورة باسمه: «المزدهر بن وضاح» صارت الصحيفة شأنًا مذكورًا ثم رأى أن ثغر الإسكندرية أقرب لاصطياد الأخبار.. فوفق بين أديب وسليم وأوعز إليهما بنقل الإدارة إليها بعد أن مكنها من نوال امتیاز آخر لصحيفة يومية دعاها «التجارة» ثم أومأ إلى كاتبيه الشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني أن يخدما تينك الصحيفتين قلمًا وسعيًا ما استطاعا إلى ذلك سبيلا» ويتكلم سليم عن نفسه: «ولما شخص المؤلف- أي سليم- إلى القاهرة عام ۱۸۷۸ تعرف به وانتفع بصحبته ولازمه حينا من الدهر في أوقات اجتماعية وخلوته.. وكان ممن ساعدوه- أي الأفغاني ساعد سلیم- على الوصول إلى الخديوي إسماعيل والتمكن منه.. وشوقوه إلى الاندماج في سلك الإخباريين- أي الصحفيين- فنال امتیاز صحيفة دعاها «مرآة الشرق» ومطبعة سماها «الاتحاد» وكان قد أمر زعيم تلامذته الشيخ محمد عبده أن يقرظ كتابه «كنز الناظم».
هكذا نرى الأفغاني يمكن النصارى من أجهزة الإعلام ويصرف النقود ويفتح المطابع ويحصل على الامتيازات ليسلمها لليهود والنصارى.. ويجعل من ممثل مسرحي فاشل صحفيًا مرموقًا!!
* مؤامرات واغتيالات:-
حياة هذا الرجل غريبة.. كلها مغامرات ومؤامرات فهو لا يدخل بلدًا إسلاميًا إلا ويجد حفاوة بالغة.. ولكن بعد حين.. يطرد شر طردة.. وهذا هو في أفغانستان في بادئ أمره كان مقربًا ومحترمًا ولكن بعد أحداث دامية يشك فيه ويطرد إلى الهند..
وهذا هو في مصر يدخلها معززًا مكرمًا.. حتى يصبح من أهم رجال الدولة.. ويتجمع المثقفون حوله ويكون حزبًا.. يقول أديب: «ويظهر للسيد جمال الدين أن الخديوي اسماعيل مخلوع لا محالة فكشف الغطاء عن مقاصده السياسية وأخذ يسعى في إنفاذ أغراضه، فلقى المسيو تريكو قنصل جنرال فرنسا ومراسل التيمس وكلها بلسان حزب كبير» وطالبهما بالمساعدة في عز اسماعيل وتعيين ابنه توفيق الذي هو عضو في محفل الأفغاني.. وفكر بالتخلص من الخديوي اسماعيل بأية وسيلة ولو كانت الاغتيال.. واعترف محمد عبده بأن السيد جمال الدين كان حريصا على خلع الخديوي وأنه اقترح عليه أن يقتل اسماعيل، وكان كل يوم يمر بمركبته على جسر قصر النيل.. يقول عبده: «ولكن كل هذا كان كلامًا نتهامسه فيما بيننا.. وكنت أنا موافقًا الموافقة كلها على قتل إسماعيل».. وعند تولي توفيق الحكم نجده لا يطمئن للأفغاني فیطرده من مصر على الرغم من أنه من تلاميذه .
ثم يذهب إلى لندن ليستقر فيها فترة.. وبعدها ينتقل إلى فرنسا.. وأكد الكاتب الأمريكي س. د. ولش في كتابه «الحركات الحديثة» أنه سافر إلى أميركا قبل سفره إلى إنكلترا وأنه كان يريد التجنس بالجنسية الأمريكية إلا أنه لم يفصل..
وفي فرنسا يؤسس جمعية سرية للغاية ويصدر جريدة «العروة الوثقى» التي يسلك فيها مسلكًا جديدًا تبدو عليه سمات إسلامية صحيحة.. أما الجمعية السرية فكانت ذات منهج سياسي ونظام داخلي شدید وكل من انتظم فيها يقسم يمينًا مغلظة على الإخلاص لمبادئها والتضحية في سبيل أهدافها بكل عزيز ونجده يسافر من جديد إلى لندن بدعوة من تشرشل وسابسري للتشاور في أمر المهدي الذي استفحل في السودان..
وبعد مدة يسافر إلى إيران ليحتل أهم المراكز، ولكن بعد مدة يسافر إلى موسكو ومنها للعاصمة بطرسبرج ليحاضر في محافلها.. ويمكث في روسية أربع سنوات.. حقبة من حياته تكاد تكون مجهولة ولا ندري ما الذي جعله يمكث كل هذه المدة عند صديقه عم القيصر وفي دولة تحارب دولة الخلافة؟ لا يزال السبب مجهولا إلى اليوم؟
وبعدها يعود إلى إيران ويمكث زمنا ليعلنها حربًا شعواء وبلا هوادة ضد الشاه.. ويحرض ضده العلماء.. وكتب ضده مقالات مخزية تحمل بين طياتها نفسا محبة
للانتقام . . وذهب إلى إنجلترا يهاجم الشاه ويقول: «إنه اختار عاصمة الإنكليز للطعن فيه لأجل أن يحقر أمره في عين الشعب الإنكليزي» مما جعل مولانا السلطان عبد الحميد يطلب منه الكف عن الوقيعة بالشاه..
فيجيب: لم يكن في نيتي أن أترك الشاه حتى أنزله في قبره.. ولكني من أجلك
سأعفو عنه..
ويضرب بوعده هذا في عرض الحائط ليدبر مؤامرة لاغتيال الشاه مع رجل فارسي يدعى ميرزا رضا.. وينفذ ميرزا الخطة ليطعن الشاه هاتفًا: خذها من يد جمال الدین.. وعندما وصله الخبر هلل وأظهر سروره وامتدح القاتل..
ولخطر هذا الرجل وكثرة مؤامراته وضعه مولانا السلطان تحت رقابته.. وكان
حريصًا ألا يغضبه لمعرفته بأساليبه.. وبالرغم من أنه أفشى أسرار السلطان لمراسل جريدة التيمس.. وبالرغم من تصریحه بوجود الديناميت في بيته.. وبالرغم من شتمه للسلطان، ووصفه بأنه سل في رئة الدولة.. إلا أن السلطان لم يغضبه . . وعندما فتش بيته للبحث عن الديناميت غضب الأفغاني ولجأ إلى السفارة الإنجليزية.. حتى مات بالسرطان والغريب أنه في أخريات حياته كان يلازمه ويرتب أمره مسيحي اسمه جورج کوتش..
من غرائب هذا الرجل التي تطوي تساؤلات أنه أرسل تلميذه الرحالة الروسي عبد الرشيد التتاري في مهمة سرية محملًا إياه تقريرًا منه إلى جمعية سياسية سرية في عاصمة روسيا رئيسها عم القيصر، وقال له: «اذهب بهذه الرسالة وأوصلها إلى الغراندوق فلان واعلم أنك إما أن تقتل وإما أن تفوز وتغنم» فأوصلها فقام الغراندوق وقعد لها ثم أعاده بها إلى بلاد اليونان ليطبعها فيها باللغة الروسية ويرسلها إليه.. وعرض عليه من المال ما شاء فلم يأخذ إلا القدر الضروري هذا وكانت آنذاك حرب قائمة بين الدولة العثمانية وروسيا.
إنها حياة كلها مؤامرات واغتيالات ومغامرات، وأسرار وخفايا.. لا تليق برجل يعد مصلحًا.
* واخيرًا :-
لقد جاء الأفغاني والناس في نفور من الثقافات الغربية وفلسفتها وآدابها.. فحطم الأفغاني هذا النفور وكون جيلًا ملبسًا بالثقافة الغربية..
ولقد جاء الأفغاني والناس لا تعرف إلا الوحدة وأوجد النعرة الإقليمية وأسس حزبًا يتمثل هذه الفكرة..
ولقد جاء الأفغاني والناس لا تعرف إلا، لا إله إلا الله على الرغم من الشرك الذي عم المجتمعات.. فأوجد فكرة حكم الشعب بالشعب وطالب بالبرلمانات ومجالس الشعوب وهكذا نرى الأفغاني مهد للغرب وثقافته في فترة كان الغرب محتاجًا لذلك.
ويقول النصارى« فيليب حتى، وإدوارد جرجس، وجبرائيل جبور»: «أن الوحدة الإسلامية هي الأمر الذي يجب أن يسعى لتحقيقه المسلم قبل الوحدة العربية وكان الصراع داخليًا كما كان خارجيًا وكان الجو الفكري في مصر في آخر القرن التاسع عشر قد أصبح ملائمًا لاستقبال الأفكار الجديدة وإنمائها وذلك بتأثير الكتابات والخطب التي كان يذيعها المصلح الحر الشيخ محمد عبده، وكان قد بلغ أعلى مركز ديني في البلاد وكان قد تتلمذ على يد جمال الدین».
وقالوا «ويعد جمال الدين الباعث الرئيسي الأول للروح المصرية في الإسلام».
ويقول «المستر بلنت» في التاريخ السري لمصر: «ولما كان مقيمًا بالأستانة مهد بتهييجه المتواصل للحركة التركية الصغيرة الموفقة التي قامت سنة ١۹٠۸واستفحلت هذه الحركة حتى انتهت بإعلان الدستور العثماني»
وأخذ الغربيون يمجدون هذا الرجل وكتب عنه الأمريكي لوثروب استوارد، والدكتور تشاراز أرمز، وكذلك برنار ميشيل، والمستشرق بلانت، والفيلسوف رنان، ومستر براون، والمستشرق الألماني بروكلمان، والفرنسي رشفور، والكندي ماكلوري، والمجري غولد تسيهر، . . وهكذا مجده الشيوعيون والنصارى.. وهكذا حبوه وعز عليهم أن يكون قبر صديقهم هذا مهجورًا سنوات طوالًا في الأستانة حتى جاء الأمريكي مستر كرین فشیده وأظهره.
هذا عن الأفغاني.. ولقد ضغطت المعلومات بصورة شديدة.. ولو كتبنا عنه بالتفصيل لكان الأمر أكثر وضوحًا ونسأل الله التوفيق والعافية.
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل