; صناعة المصطلح.. «الإرهاب» نموذجاً | مجلة المجتمع

العنوان صناعة المصطلح.. «الإرهاب» نموذجاً

الكاتب أ.د. عبد الحميد الحسامي

تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-2017

مشاهدات 25

نشر في العدد 2110

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 01-أغسطس-2017

حين نتأمل التكوين اللغوي للكلمة (مصطلح) نجد أنها تحيل على عملية توافق بين أفراد مجموعة بشرية على اصطلاح شيء ما لإطلاقه على معنى ما، إنه اتفاق على وزن «افتعال»، وهي صيغة صرفية من دلالاتها التشارك بين مجموعة في أمر ما أو شيء ما؛ فالمصطلح إذن تقتضيه الحاجة الاجتماعية بين أفراد مجموعة اجتماعية للتعبير عن مستجَدّ معين، يواجه هذه المجموعة فتصطلح على تسميته، ويكون ذلك عقداً لغوياً لتحديد ماهيته أولاً، وتحديد مدلوله في الذهن لدى أبناء المجموعة اللغوية ثانياً.

إذا نظرنا إلى طبيعة المصطلحات نجد أنها قد تأخذ بعداً عاماً يتصل بطبيعة اللغة بشكل عام وطبيعة نشأتها في المجتمعات الإنسانية؛ إذ يرى فريق من العلماء بأنها تواضع واصطلاح، بعكس من يرى أنها إلهام وتوقيف؛ أي أن البشر تواضعوا/ اصطلحوا على تسمية الأشياء بمسميات معينة محددة حتى تأخذ وضعها في التفاعل والتخاطب اللساني، وتتشكل في أذهان المجتمع.

أما في المستوى الخاص، فالمصطلح مرتبط بنشأة العلوم وتطورها؛ حيث إن كل جديد في المعرفة لا بد أن يتحصل على تسمية (مصطلح) شأنه شأن كل مولود بشري تقتضي ولادته أن نصطلح عليه بـ»دال/ اسم» يكون هوية له؛ وحينما تستقر العلوم وتكتمل فإن من علامات استقرارها ونضجها اكتمال جهازها المصطلحي؛ ولذلك قال الخوارزمي: إن المصطلحات مفاتيح العلوم.

ويعد المصطلح في شتلات المعرفة كافة ضرورة حتمية لنقل المعارف وتبادلها بين أبناء المجتمع الواحد، وبينه وبين المجتمعات الأخرى؛ ولذلك تضطر المجتمعات ذوات اللغات المختلفة أن تقوم بعملية أخرى تقتضي نقل المصطلح عبر الترجمة إلى اللغة الخاصة بها لتحقيق التعامل مع هذا المصطلح؛ ومن ثم التواصل والتفاعل مع المجتمعات الأخرى؛ وهنا تحدث إشكالات وإرباكات كبيرة غدت معروفة لدى المؤسسات المتخصصة بنقل المصطلح وتسكينه في البيئة/ البيئات الجديدة أو الثقافات المختلفة؛ وهي مسألة تتعلق بالحوار الثقافي وعلاقة المجتمع الناقل بالمجتمع المنقول إليه، أو لنقل بعلاقة الثقافة المصدّرَة للمصطلح بالثقافة المستورِدة للمصطلح.

لحظتا التقاء متفاوتتان

وهنا يمكن أن نشير إلى أن الأمة العربية الإسلامية قد التقت مع الثقافات العالمية الأخرى في لحظتين تاريخيتين مهمتين؛ اللحظة الأولى في نهايات العصر الأموي وفي العصر العباسي، واللحظة الثانية في التاريخ المعاصر عقب حملة «نابليون بونابرت» في عام 1798م، وعلى الرغم من أنهما لحظتا التقاء بالآخر نجد بينهما بوناً شاسعاً، ففي اللحظة الأولى كانت الأمة العربية الإسلامية في لحظة تفوق حضاري، تعي ذاتها وتعي الآخر، كانت في موقع يمكنها من الانتقاء، وتحديد طبيعة الالتقاء؛ ومن ثم صياغة المصطلح أو نقله وتطويعه من موقع التفوق والاختيار وفهم الذات والآخر في الآن نفسه.

أما اللحظة الراهنة – فللأسف - تتدفق علينا منجزات الآخر دون أن يكون لنا مشروع واضح المعالم لاستقبالها أو تطويعها لحاجتنا الثقافية أو المادية؛ ومن ثم كان للمصطلح حضور كبير لم نستطع ملاحقة حركة تدفقه، أو استيعابه، أو مواجهته، يتدفق علينا دون استئذان، بالكيفية التي يريدها صانعه شأنه شأن المنتجات الأخرى التي يفرض شروط استهلاكها علينا بمنطق القوة، أو الإغراء الاستهلاكي في مجتمع غدا فيه العالم قرية صغيرة.

سلاح المصطلح

لكن هناك ميداناً آخر  لنشأة المصطلح وصناعته هو ميدان الأيديولوجيا والصراع الفكري بين مكونات داخل المجتمع الواحد، أو الصراع بين الثقافات والمجتمعات المتباينة؛ هذا الميدان هو الذي يأخذ فيه المصطلح قدراً كبيراً من الالتباس والتوجيه المؤدلج، والمراوغة، وفيه تتشكل الهوة أو الهوات بين الدال والمدلول، بعكس المصطلح في السياق العلمي في العلوم البحتة (كالطب والهندسة والرياضيات، وسواها) والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ينشأ المصطلح في هذا الميدان؟ وكيف يتشكل؟ وكيف يتم تصديره؟ 

إن الصراع بين الرؤى والأفكار التي تقتضيها المصالح تؤدي إلى استخدام كل طرف لأسلحته في مواجهة خصمه، وهنا يصبح المصطلح سلاحاً مثله مثل كل الأسلحة المادية التي لا تعرف الأخلاق ولا تعترف بالمبادئ؛ إنه سلاح أخطر من الأسلحة المادية لأنه يتسلل إلى بنية الذهن عبر الآلة الإعلامية (أياً كان مستواها) ويشكل القناعات، ويوجه القراءات للظواهر والنصوص والأفراد، ويتحكم بسلوك الأفراد.

ولأنه مرتبط بالموقف الفكري أو السياسي لمن أنتجه، أو لمن يستخدمه، فإنه يظل سلاحاً مراوغاً غير قارّ ولا ثابت؛ لأن الموقف السياسي/ الفكري يظل متغيراً، وغير ثابت، إنه نسبي بالطبع؛ ففي منطق السياسة: من كان عدوي اليوم قد يصبح صديقي غداً، والعكس بالعكس.

لا نستطيع أن نقول: إن صناعة المصطلح الفكري/ السياسي مرتبط بأمة دون أخرى أو بثقافة معينة دون سواها؛ إنه مرتبط بالإنسان الذي ينزع إلى نفي أخيه الإنسان من أجل المصالح؛ إنها بنية النفي التي رأيناها لدى ابنَيْ آدم؛ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27}) (المائدة).

وهي تمتد في الثقافات المختلفة، وفي المجتمعات في كل العصور، وفي الحقول المختلفة في الأدب والنقد، وفي المذاهب الفقهية والسياسية، وفي حقل الاقتصاد، لكنه يغدو في الحقل السياسي أكثر رعونة وإغراء وإغواء، بل وأكثر إرهاباً.

إنها ظاهرة مرتبطة بتعدد المذاهب الدينية - في كل الأديان - وبتصارع الرؤى السياسية في كل المجتمعات دون استثناء، لكن يمكن القول: إن الأمة الغالبة تحاول فرض شروطها على الأمة المغلوبة وفق المعيار الاجتماعي، ومن أدوات فرض شروط الهيمنة «المصطلح»، وهو ما نلحظه في اللحظة الراهنة من تطويع المصطلحات، وإطلاقها من قبل القوة المادية الغربية في مواجهة الدول المستضعفة؛ وحين تريد أن تقوم بعملية ابتزاز سياسي أو مادي أو عسكري فإنها تسبق كل ذلك باستخدام سلاح المصطلح؛ هنا يغدو المصطلح عجينة تتشكل أو تُشَكَّلُ/ تُصْنَعُ للمصلحة؛ وإذا كانت الموجهات لهذه المصلحة موجهات نفعية لا تتحكم بها قوانين، ولا تخضع لضوابط دينية أو أخلاقية فإننا نصبح أمام مصطلح «براجماتي» خطير يمثل سلاح رعبٍ، كما هي الحال مع مصطلح «الإرهاب» الذي لم يعد دالاً على معطاه اللغوي بوصفه كل عمل عدواني تجاه الآخرين خارق نطاق القانون، ولكنه يصبح مصطلحاً طيعاً في يد القوي، لاستخدامه متى شاءت وكيف شاءت وأين شاءت في مواجهة من تشاء.

تساؤلات مسكوت عنها

هنا نصبح أمام معضلة حقيقية؛ إذ إن ما ينبغي أن يتم تحديده أولاً قبل توظيفه، لضمان صدق استخدامه وأخلاقية توجيهه؛ نجده يستخدم قبل تحديد هويته؛ إنها فوضى الحياة وطغيان الأقوياء، وقد ينجم عن ذلك أضرار ونتائج تجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، وتجعل البريء إرهابياً، والمجرمَ حَملاً وديعاً.

فمن هو الإرهابي إذن؟ ما مواصفاته؟ وما الفعل الذي إذا ارتكبه يغدو إرهابياً؟ أو ما الأفكار التي إن اعتنقها وعمل بموجبها يغدو إرهابياً؟ ما السلوك الذي إذا ارتكبته جماعة ما أو دولة ما يجعلها أو يؤهلها لأن تكون موسومة بالإرهاب؟

إننا حين نناقش هذه الأسئلة ونثير كوامنها تجعلنا نوقن بأن المصطلح أصبح في اللحظة الراهنة منتَجاً مصنوعاً تتم صناعته في مؤسسات متخصصة؛ بغية تحقيق الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتقوم بترويجه مؤسسات الإعلام المتخصصة؛ سواء أكان ذلك متعلقاً بمصطلح الإرهاب أو بمصطلحات أخرى في السياق السجالي الذي نشهده اليوم في المشهد السياسي العالمي الذي تسعى فيه القوى الكبرى إلى تفتيت وتفكيك الهويات وإعادة صياغة العالم بما ينسجم مع عولمة الحياة وتفكيك الهويات، واستغلال موارد البشرية لصالح القوى الكبرى.

إنه ما لم تتحدد طبيعة مصطلح الإرهاب، ومفهومه بدقة لا يُخْتَلَفُ عليها، فسيظل مفهوم الإرهابي فضفاضاً، يستخدمه كل من تسول له نفسه نفي أخيه الإنسان، فيلبسه هذا المصطلح، ويرهبه بدلالاته المخيفة، فيصبح مصطلح الإرهاب إرهاباً في الوقت نفسه.

الرابط المختصر :