العنوان ضريَبة العلم الصدع بالحق على كل حال
الكاتب أويس القرني
تاريخ النشر الثلاثاء 11-مارس-1975
مشاهدات 16
نشر في العدد 240
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 11-مارس-1975
إن الله سبحانه وتعالى -تجلت حكمته- ما وهب الناس شيئًا إلا وكتب عليهم زكاة وضريبة يؤدونها عن تلك الهبة. فأصحاب المال يؤدون زكاته، وإن وهبك الله شيئًا من الصحة والعافية طالبك بما لم يطالب به المريض والحكام مطالبون بضريبة يؤدونها عن مسئولياتهم تجاه شعوبهم.
وكما للمال والصحة زكاة فكذلك للعلم زكاة وخراج أو كل ضريبة وجزية يؤديها العلماء عن علمهم تجاه الناس بمختلف مراتبهم ومستوياتهم.
إن الله قد كرم العلم ومدحه وكرم أهله وحامليه ومدحهم حتى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- «العلماء ورثة الأنبياء» فدل ذلك على عظیم مرتبتهم وأهمية مكانتهم وكبير شرفهم فهم حماة الدين وزعماء، تصلح الأمة بصلاحهم وتفسد بفسادهم وتضلل بضلالهم. قال تعالى ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر:9) ولا خير في علم ما لم يقد صاحبه إلى معرفة الله -عز وجل- والخوف من غضبه والرهبة من عذابه ومراقبته في السر والعلن، والقيام بحقه حق القيام من أداء الطاعات واجتناب المحارم والمنهيات قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. (الزمر:9)
والله سبحانه وتعالى قد أخذ على العلماء العهد والميثاق بأن يبينوا الحق للناس ويتبعوه وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر لا تأخذهم في ذلك لومة لائم وألزمهم ضريبة علمهم قال تعالى ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ (آل عمران:187)
وقال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (البقرة:159) وتوعدهم بمضاعفة العذاب إن هم تخلوا عن واجبهم وتهربوا من دفــــــع الضريبة المفروضة عليهم. وكما میزهم على الناس بعلمهم في الدنيا فكذلك يميزهم بالعذاب الشديد في الآخرة إن هم فرطوا في الأمانة الملقاة على عاتقهم وفي الحديث «إن الله يعافي الأميين ما لا يعافي العلماء» وما ضلت أمة من الأمم إلا وكان بدء ضلالها من علمائها فإنه إذا ضل العلماء ضل الحكام حيث لا يجدون مـن يأمرهم بالمعروف إن هم صدفوا عن الحق، ولا من ينهاهم عن المنكر إن أتوه وبضلال الحكام يضل عامة الناس إذ إن الأمر قوامه بصلاح الحكام وانفراطه بفسادهم وفي الحديث:
«سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فنهاه فقتله.» وقد كان سلفنا رضوان الله عليهم من علماء الأمة أشد الناس تمسكًا بالحق وأبعدهم عن باطل، كانــــــــوا لا يخشون في الحق إلا الله -عز وجل- وكانوا يقومون إلى من ظلم من الحكام يعظونهم ويزجرونهم ويأمرونهـم وينهونهم حتى يثوبوا إلى الحق. وقد لاقوا ذلك العنف والضيق والعذاب ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾. (آل عمران:146)
وضريبة العلم المطلوبة من العلماء أيضًا، أن يكونوا أول العاملين بما علموا وأن لا يأمروا بمعروف حتى يأتوه ولا ينهوا عن منكر حتى ينتهوا عنه وإلا عرضوا لعذاب الله وسخطه ومقته عن أبي هريرة -رضي لله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «يجيء الرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه – يعني معدته وأمعاءه - فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطوف به أهل الذر فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم المنكر وآتيه» وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
«مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال قلت: من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» وهنا لطيفة أنبه عليها وهي ليس المراد من ذلك، أن المرء لا يأمر بمعروف قط حتى يكمل في نفسه ويفعل كل معروف وينته عن كل منكر جملة، إذ إن هذا مما لا طاقة لبشر به فكل بنو آدم خطاء وعلى ذلك يتكل كثير من الناس فيتعللون به من النفور عن تأدية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذا أردت أن تفهم ذلك فاسمع كلام أبي الفداء الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟﴾ (البقرة:44) قال رحمه الله الغرض إن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركه له بل المراد
ذمهم على تركهم له. فإن الأمر بالمعروف هو نفسه معروف وهو واجب على السالم وإن لم يفعله لكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف عنهم كما قال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ (هود:88)
ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف قال مالك عن ربيعة سمعت سعید ابن جبير يقول «لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر» قال مالك: صدق من ذا الذي ليس فيه شيء؟ اه ابن كثير.
قلت: لكن على العالم أن يتوخى العمل بكل ما علم وأن يحسن قصده ونيته ويبتغى ثواب كل ذلك عند الله وهذا إنما أوردته لما رأيت من إغفال المسلمين تأدية هذا الواجب وتعللهم بشتى العلل الساقطة فحصل بذلك ضرر عظيم وفتنة وفساد كبير.
والله أسأله التوفيق ومنه العون وعليه التكلان.
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل