العنوان جريمة الغرب الكبرى ضد مسلمي "البوسنة والهرسك".. الدور الفرنسي
الكاتب د. محمد الغمقي
تاريخ النشر الثلاثاء 15-يونيو-1993
مشاهدات 9
نشر في العدد 1053
نشر في الصفحة 30
الثلاثاء 15-يونيو-1993
فرنسا حليفة الصرب وخنجر في ظهر المسلمين
عندما اندلعت الحرب في "البوسنة والهرسك" ظن كثير من المسلمين أن القوى الأجنبية الغربية منها بالخصوص ستتدخل لإيقاف المجزرة ضد مسلمي "البوسنة" على يد الصرب وحتى الكروات؛ انطلاقًا مما عرف عن الغرب من شعارات واحترام حقوق الإنسان، وبالنظر إلى وقوع هذه الحرب في قلب القارة الأوروبية وعلى مرأى ومسمع من المجموعة الدولية.
لكن مع مرور الوقت تبين للجميع أن الغرب تعمَّد حتى اليوم عدم التدخل في "البوسنة"، وغض الطرف عن استفحال تردي الوضع هناك، مرتكبات بذلك جريمة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلًا.
وتعتبر "فرنسا" من أكبر الدول المعنية بما يحدث في "البوسنة" عبر سياستها الدبلوماسية والعسكرية التي واكبت تطورات الوضع عن كثب، ويجدر التساؤل عن طبيعة الدور الفرنسي في إطار الموقف الغربي العام؟ إن إلقاء نظرة تاريخية على العلاقات الفرنسية اليوغسلافية والصربية بالتحديد يساعد على فهم الخلفية التي تُحكم مواقف المسؤولين الفرنسيين من الأحداث الجارية في "البلقان".
علاقات تاريخية:
وتعود هذه العلاقات إلى بداية هذا القرن، وتطورت بتطور الأوضاع السياسية في المنطقة، وقد وجد الفرنسيون في الصرب الحليف الإستراتيجي هناك؛ لوجود قواسم مشتركة من حيث العداء للإمبراطورية العثمانية، ومعارضة التوسع الألماني قديمًا وحديثًا، وبلغ التحالف بين الطرفين إلى حد التبادل الثقافي والاقتصادي، وأقيم نصب تذكاري في "بلغاريا" يخلد الصداقة الفرنسية- الصربية.
انطلاقًا من هذه المعطيات التاريخية يتبين مدى تقارب الطرفين الفرنسي والصربي، ولهذا لم تكن الانتقادات والاحتجاجات عن التجاوزات الصربية سوى ذر للرماد في العيون.
وقد اتجهت سياسة "فرنسا" المتعلقة بالقضية البوسنية في اتجاه محكوم بدافعين: الأول إثبات حضورها الإستراتيجي كدولة أوروبية قوية، والثاني محاصرة المد الإسلامي في منطقة "البلقان" ومنعه من التحول إلى كيان إسلامي في قلب القارة الأوروبية.
ففيما يتعلق بالمسألة الأولى: وظفت "فرنسا" بشكل كبير عضويتها الدائمة في مجلس الأمن من ناحية ودورها في المجموعة الأوروبية من ناحية أخرى من أجل فرض تصوراتها وسياستها، فعلى مستوى الهيئة الدولية نشطت فرنسا في إقناع بقية الأعضاء في مجلس الأمن للخروج ببعض القرارات تخدم المصالح الغربية والفرنسية، منها بالخصوص من بين هذه القرارات إرسال «القبعات الزرقاء» أي قوات أممية احتلت "فرنسا" نصيب الأسد فيها؛ حيث نشرت جنودها البالغ عددهم خمسة آلاف في "يوغسلافيا" - سابقًا- منهم ألفان وخمسمائة في "البوسنة والهرسك" وحدها، ويتداول أن نسبة كبيرة من هؤلاء ينتمون إلى أصل مقدوني صربي من الحاملين للجنسية الفرنسية.
وحول تواجد هذه القوات ودورها تكفي الإشارة إلى تصريح تلفزيوني لوزير الدفاع الفرنسي السابق «بيار جوسك» الذي برر عدم التفكير في عمليات ردع مسلحة ضد الصرب في الوقت الحاضر بعدم استعداد الرأي العام الفرنسي لإرسال أبنائه الفرنسيين من أجل التقاتل والموت في قضية لا تخضهم، وانحصر دور القوات المتواجدة في الدفاع عن نفسها من ناحية وحماية المناطق الآمنة حسب التصريحات الرسمية.
ومعلوم أن مجلس الأمن أصدر قراره «رقم 824» بإقامة هذه المناطق باسم حماية المسلمين من الاعتداءات الصربية، وأضافت "فرنسا" منذ فترة قصيرة اقتراحًا لهذا القرار يسمح للقبعات الزرقاء التابعة "للأمم المتحدة" باستعمال الأسلحة لحماية هذه المنطقة.
مناطق آمنة:
وحسب عدة ملاحظين فإن فكره مناطق آمنة ليست سوى خطة خطيرة؛ لحصر ما تبقى من السكان المسلمين في "البوسنة والهرسك" في مناطق وتجمعات معزولة من السلاح وعن محيطها الخارجي تحت حماية أجنبية فرنسية بالدرجة الأولى نظرًا للنسبة المرتفعة للحضور العسكري الفرنسي وتكريس الهيمنة الصربية.
وقد دافع وزير الخارجية الجديد «ألان جوباي» عن هذه الاستراتيجية بتصويرها الحل الأقل خطورة، ورأى أن فشلها يعين تحريض البلدان غير المنحازة على الدعوة إلى رفع الحظر على الأسلحة، وفتح الباب أمام كل أنواع المزايدات المؤدية لانسحاب القوات الأممية التابعة للمنظمة الدولية واستحال الصراع وتدويله.
ويتداخل الدور الفرنسي كقوة دولية كبرى وقوه أوروبية ذات وزن من أجل تحقيق نفس الأهداف المذكورة أعلاه فإلى جانب عضويتها في مجلس الأمن فإنها أصبحت شريكًا كاملًا في منظمة الحلف الأطلسي دون تواجد عسكري فيها، وذلك منذ شهر كانون الأول ديسمبر الماضي؛ حيث يمثلها في هذه المنظمة رئيس المهمة العسكرية «الجنرال بايليسون»، وتتمتع بحق النقض.
ومعلوم أن هذه المنظمة قد أعدت مخططًا كاملًا لتطبيق خطة «فانس وأوين» بإعداد حوالي تسع كتائب لنشرها في المناطق العشرة المستقلة كما هو متوقع؛ أي حوالي 75 ألف رجل.
وقد طرحت المنظمة خيارات للتدخل مثل العقوبات عن طريق الجو على المواقع العسكرية الصربية، ورفع الحظر عن الأسلحة لقائد مسلمي "البوسنة"، وإقامة مناطق أمنة؛ لكن حسب وزير بريطانيا «دوغلاس هيرد» فإن كل هذه الخيارات موضوعة على الطاولة؛ إلا أن المنظمة تؤكد بأنه بدون قرار من مجلس الأمن وبدون موافقة السلطات السياسية في الحلف الأطلسي؛ فإنه لا يتم إقرار شيء من هذه الخيارات، وهذا يعني أنه يكفي أن تستخدم "فرنسا" حق النقد؛ لكي يعطل كل تدخل جدي.
التباكي على "البوسنة":
وقد أثبتت تحركات المسؤولين الفرنسيين أن الهدف الرئيسي الثاني «منع قيام كيان إسلامي في قلب القارة الأوروبية كان حاضرًا في أذهان هؤلاء، وأكبر المعطيات الدالة على ذلك زيارة «ميتران» المفاجئة إلى "البوسنة"، وقد صحبت هذه الزيارة حملة إعلامية دعائية، تشيد ببطولة الرئيس الفرنسي ودوره في البحث عن سلام حقيقي بين كل الأطراف المتنازعة، وتبين فيما بعد بأن هذه الزيارة قد قلبت موازين القوى لصالح الصرب، في الوقت الذي كانت القوات الإسلامية على وشك السيطرة على مطار "سراييفو" العصب الرئيسي في الصراع، وكانت هذه الزيارة بمثابة طعنة الخنجر في ظهر المسلمين في "البوسنة"؛ حيث أعطت الضوء الأخضر للصرب للمضي في مجزرتهم ضد المسلمين بمباركة غربية.
وكل التحركات التي تبعت هذا الحادثة الفاجعة كانت من قبيل الظهور بمظهر الحريص على إنقاذ الوضع هناك، وفي هذا الإطار تعددت الزيارات الرسمية وغير الرسمية تحت ستار «إنساني»، وأكثر الشخصيات الرسمية الفرنسية تحركًا «برنارد كوشنار» الوزير السابق المكلف بالعمل الإنساني، وهذا الرجل ذو انتماء يهودي مفضوح، ولعب دورًا خطيرًا في تشكيل رأي عام يميل إلى التدخل الإنساني على التدخل العسكري، عبر التنظيم لما يسمى بحق التدخل الإنساني، والقيام بضجة إعلامية حول جمع المساعدات والتبرعات المادية والمالية لضحايا الحرب في "البوسنة"، واتضح أن هذه المساعدات ذهبت إلى الكروات وإلى الصرب، ولم يصل منها إلى المسلمين إلا ما قل ونذر؛ لذر الرماد في العيون، كما أن الحملة الإعلامية حول تبني بعض الأطفال ضحايا الحرب جاءت لكسب الرأي العام، وفي نفس الوقت كان التركيز يدور حول تاريخ "سراييفو" المجيد والتعايش بين مختلف الجنسيات والقوميات والديانات فيها والتسامح الذي كان سائدًا بين هذه الأطراف، وكل هذه المعاني كانت محور كتابات وحوارات عديدة عبر وسائل الإعلام، تبرز رموزًا فكرية يهودية الأصل على رأسها الفيلسوف «هنري برنارد ليفي» الذي تصوره وسائل الإعلام على أنه حامل لواء السلام، كما أطنبت هذه الأخيرة في الدعاية لجولة «سيمون قابل» رئيسة البرلمان الأوروبي سابقًا والوزيرة الحالية إلى البوسنة وحديثها عن آلاف النساء المغتصبات.
طعنة في الظهر:
كل هذه الضحايا الإعلامية والتباكي على مآسي المسلمين استطاعت أن تحتوي تحمس بعض الأطراف من جمعيات وشخصيات مستقلة لفائدة التدخل العسكري، ورفع الحظر عن الأسلحة لقادة المسلمين مثل «جون فرانسوا دنيو» ،كما نجحت هذه الحملة في تغطية سياسة التحالف مع الصرب على أرض الواقع، وأكبر حدث في هذا الصدد مقتل نائب رئيس الحكومة في "البوسنة" في الوقت الذي كان عائدًا من "جنيف" وتحت حماية القوات الفرنسية، وتؤكد العديد من المصادر منها القوات البريطانية المتواجدة على الساحة بأنه كان بإمكان القوات الفرنسية منع ارتكاب هذه الجريمة.
من جهة أخرى شاهد العالم كيف تم عزل المسلمين المدافعين عن أعراضهم ووطنهم من أسلحتهم تحت إشراف القوات الأممية، في الوقت الذي تشيد فيه الأوساط الرسمية والإعلامية ببطولة الجنرال ماريون الفرنسي بتمكنه من إيصال بعض المساعدات إلى المسلمين، وتصويره بالتمرد على الوضع القائم والمحطم للصمت الدولي عن مأساة البوسنيين. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل استقبل الرئيس الفرنسي المسؤول الصربي في قصر الإليزيه على طريقة كبار الرؤساء، بحجة الحوار من أجل إقناع الطرف الصربي بالتراجع عن إصراره على موقفه، وكانت خلاصة اللقاء أن المسؤول الصربي الذي لا تخفى على أحد مسؤوليته في الجرائم المرتكبة ضد المسلمين اعتذر عن عدم قدرته على التدخل؛ لأن الكلمة الأخيرة للشعب الصربي.
التقسيم:
وتشير عدة أوساط دبلوماسية إلى الدور الفرنسي في عملية تقسيم "البوسنة"، عبر تحركات في الكواليس في بروكسل وجنيف وواشنطن.
وتصب هذه التحركات في التخويف من رفع الحظر عن الأسلحة لفائدة المسلمين وعدم توفير ممرات أو مواقع استراتيجية، يتمكنون من خلالها استرجاع قواتهم، وبناء دولة على شكل الكيان الذي أقامه العثمانيون في المنطقة منذ قرون، وتخشى "فرنسا" من جهة أخرى أن تضيع المبادرة من يديها في منطقة حساسة في قلب "أوروبا"، خاصة مع عودة "ألمانيا" إلى قوة منافسة وقريبة جغرافيًّا وسياسيًّا إلى شعوبها من أصل يوغسلافي، وفي المقابل فإنها غير مستعدة لكي تخسر حليفًا استراتيجيًّا متمثلًا في الصرب؛ مما يفسر الخروقات في الحظر الاقتصادي المفروض على "بلغاريا"، رغم الدعوة إلى تجديد الخناق عليها؛ لإجبارها على التنازل عن موقفها، وبدأت ترتفع بعض الأصوات في "فرنسا" تتحدث عن تعصب المسلمين وتشددهم وإصرارهم على الذهاب إلى آخر المطاف في المعركة، بعد أن رفضوا خطة التقسيم، وأصروا على رفع حظر الأسلحة عنهم.
والسؤال المطروح: إذا كان الدور الفرنسي مطابقًا لطبيعة العقلية السياسية الغربية والفرنسية منها بالخصوص في تعاملها مع القضايا الإسلامية، فأين الدور العربي والإسلامي المطابق لفلسفة الإسلام القائم على نصرة المظلوم والتضامن.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الشيخ حسين كفازوفيتش مفتي البوسنة والهرسك لـ«المجتمع» (2 - 2): النظام الشيوعي فشل في اختراق مسلمي البوسنة
نشر في العدد 2107
797
الاثنين 01-مايو-2017