العنوان في ظل التكنولوجيا الحديثة علاقتنا الإنسانية بين الاختصار والإلغاء
الكاتب نبيل فولي محمد
تاريخ النشر السبت 23-فبراير-2002
مشاهدات 11
نشر في العدد 1490
نشر في الصفحة 40
السبت 23-فبراير-2002
دور الآلة في الأصل هو تكملة الجهد البشري، وزيادة طاقة العمل الذي تؤديه الآلات الطبيعية للإنسان، بدأ كانت أم عينا أم رجلاً... فالمكبر البصري آلة تبصر العين من خلالها ما لا تقدر على رؤيته مباشرة، إما لبعد مكانه أو دقة حجمه، والمحراث يد آلية ضخمة تقوم عن اليد البشرية بحرث الأرض وتقليبها، والحاسوب (الكمبيوتر) يؤدي عن العقل الإنساني- وبمعونته ووفقاً لقواعده - دور الحافظة المستعدة دائماً لتقديم ما تختزنه من معلومة.
وهناك نوع من الآلة لا يقرب الإنسان من الشيء لكي يدركه، ولكنه يقرب الشيء المدرك ذاته من الإنسان ليطلع عليه ويتعامل معه من قريب، وأمثلة ذلك الواضحة هي: الحاسوب، والتلفاز، والمذياع والفيديو، وربما الصحيفة والكتاب.
تلك الآلات تقرب للإنسان سبلاً كثيرة جداً للتسلية والترفيه، والأصل في الترفيه أنه "تخول"؛ أي عمل يتخلل الأعمال الأخرى الجادة، يستعيد الإنسان من خلاله نشاطه، كما قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة؛ مخافة السام علينا"، فلو كان الأمر كله جداً لا هزل فيه، وتشديداً لا تيسير فيه وقواعد فقهية وعقائدية لا موعظة معها . لسئمت الروح من سيطرة العقل وحده، ولفر الناس إلى حياة أخرى تخاطب العقل، وتناجي الروح، وتلبي حاجة البدن.
حقوق شرعية
المشكلة أن آلات التسلية هذه أخذت مساحة من يوم الإنسان المعاصر أوسع بكثير مما ينبغي, وعندنا في العالم الإسلامي تستخدم هذه الآلات للتسلية أكثر من استخدامها في الحصول على المعلومة وإنتاجها.
ومن نتائج هذا الخلل: أن آلة التسلية طغت على العلائق الإنسانية، وزحفت عليها تنتقص من أطرافها شيئاً فشيئاً؛ فتختصر بعضها وتهمشه وتضيق مساحته، وتلغي البعض الآخر تماماً.
وفي زمن غير بعيد: كانت الزيارات العائلية وغير العائلية عنصراً مهماً في تعاملات المجتمع المسلم، فلا يمر على الأسرة المسلمة بضعة أيام إلا وهي في زيارة قريب أو عيادة مريض، أو إجابة دعوة.
وهذه -في أصلها- حقوق شرعية، ربما ساعد على اختفائها بسهولة (أمام زحوف وغارات كثيرة جرت عليها تحت عنوان "التمدن") أنها لم ينظر إليها كحقوق شرعية، ولكن كعادات وتقاليد اجتماعية، مع أن نصوص الإسلام تؤكد أنها أمور شرعية، وأنها مما ينبغي على المسلمين فعله، ومما يثاب عليه المسلم ثواباً كبيراً إن فعله، فمثلاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «حق المسلم على المسلم خمس رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس»، (رواه البخاري ومسلم)، وفي الحديث الصحيح: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن ادم، مرضت فلم تعدني! قال: يا رب, كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم نعده؟! أما إنك لو عدته لوجدتني عنده" (رواه مسلم).
الهاتف والتلفاز
إن صوراً كثيرة لهذا الخلل تبصرها في حياتنا، وهذه نماذج كاشفة لهذا الأمر:
الأول: الكثيرون يكتفون عند السؤال عن أقاربهم وأصدقائهم برفع سماعة الهاتف، ومحادثتهم بشكل عاجل يؤكد وجود القطيعة أكثر من وجود صلة.. وهذا في الحقيقة اختصار مميت للعلاقة الإنسانية، فما كان لقاء الناس بالناس لأجل سماع أصواتهم والاطمئنان على سلامتهم فحسب بل هو نمط للاحتكاك بين البشر، يصل الأجيال بعضها ببعض، ويقدم به الكبير قدوة للصغير على أن الحياة ليست صلات لأجل المنافع المادية وحدها. كما أن التقاء الأجساد وتراني الوجوه وتصافح الأيدي وتعانق القلوب، يعطي اللقاء حرارة لا يمكن أن يوفرها الهاتف. ثم إن من تكتفي بالسؤال عنه بكلمات الهاتف- وإن طالت- قد يُخفي عنك من حاله أكثر مما يُعلمك.
الثاني: من صور تسخير التلفاز للناس: الأعمال المسلسلة ذات الحلقات المتعددة (والكثير منها للأسف تافه)، فهذه تستلزم متابعة يومية لفترة تتراوح عادة بين عشرين يوماً وشهر كامل وتتسبب هذه المتابعة في إلغاء الزيارات الاجتماعية وغيرها من أعمال البر في مواعيد إذاعة المسلسل، مما يعني أن أفضل وقت يمكن أن تزور فيه الناس (وهو الوقت الذي يختار لإذاعة هذه الحلقات حيث يتجمع أكبر عدد من أفراد الأسرة في المنزل) هو وقت انشغالهم أو انشغالك بهذا المسلسل أو ذاك والعجيب أن كل مسلسل جديد تبدأ معه مأساة جديدة من الفضول الذي يسوق الناس سوقاً لمعرفة ما ستنتهي إليه قصة حب معوج أو حكاية ثأر يحكمه غضب الجاهلية.
إن التلفاز آلةجبارة تسخر الإنسان حين يحولها إلى جهاز للتسلية بلا ضابط بل تدوسه بقدميها حقيقة إذ تستهلك وقته، وتحرق أيام حياته حرقاً، "و الوقت هو الحياة". وأما حين يكون التلفاز آلة للعلم والمعرفة في الدرجة الأولى (وهذا متاح بالفعل) فسيبدو في حياة صاحبه ألة مسخرة وخادمة له.
مثل هذه الأعمال المسلسلة تلغي أو تختصر الكثير من الصلات الاجتماعية، فيقل أو يختفي الكثير من أعمال البر والخير، وتهن صلات الناس بعضهم ببعض.
الثالث: نرى من الناس من يصل غيره, لكن التلفاز يسيطر على المجلس، فترى الجهاز على أحد المناضد وعيون الضيف وصاحب البيت مسلطة عليه، محملقة فيه، وكأن هذا الزائر أتى ليزور الآلة، لا ليزور صاحب البيت، وهذا اختصار وجور بين على البعد الإنساني في صلة بعضنا ببعض.
والسؤال: هل ستفلح قيمنا الإسلامية في إعادة الرشد إلى مجتمع المسلمين؟
بالتأكيد: نعم، ولكن قبل ذلك ينبغي أن نعيد قيمنا الإسلامية نفسها إلى مواضعها وأماكنها الراسخة في العقلية المسلمة والحس الجماعي الإسلامي، وهذا يحتاج إلى بناء واعٍ طويل عميق ومتأن.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل