; في ظِلالِ النبوَّة.. نخبة من المؤمنين بين يدي إمامهم يتحدثون | مجلة المجتمع

العنوان في ظِلالِ النبوَّة.. نخبة من المؤمنين بين يدي إمامهم يتحدثون

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 04-مايو-1971

مشاهدات 30

نشر في العدد 58

نشر في الصفحة 8

الثلاثاء 04-مايو-1971

 نخبة من المؤمنين بين يدي إمامهم يتحدثون عن:

النشأة الطاهرة.. ميلاد أمَّة.. صلابة العقيدة... النور الذي نسخ الظلام

 

الأستاذ المديني: النشأة الطاهرة

يركز الأستاذ أحمد المديني مدير إدارة المساجد على ظاهرة تفرد بها رسولنا دون غيره من الرسل.. ظاهرة أنه كان بشرى للناس ذكرت في الكتب السماوية السابقة.. وهي ظاهرة تثبت أن الحياة كلها كانت تستعد لمجيء النبي المحمد الذي يختم مراحل نزول الوحي إلى الأمة.. وتطرد رسالته -زمانًا ومكانًا- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. كما ركز الأستاذ المديني على النشأة الطاهرة والسيرة المتألقة التي كان يحياها الرسول قبل البعثة.. إرهاصًا بالنبوة.. وإعدادًا لتلقي الرسالة العظمى

يقول الأستاذ المديني:

إذا اعتادت أمم الأرض أن تحتفل «بذكرى» زعيم من زعمائها أو أكابرها؛ فإنه مهما بلغ أثر جهده «أو نفعه» فلا يعد وأن يكون محليًّا أو قوميًّا، والاحتفال بذكراه لا يتعدى يومًا أو أيامًا معدودة.

أما ذكرى خير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله فهي دائمة؛ يرددها المسلمون في كل حين في الصلاة والسلام عليه. توددوا إليه بالمحبة والتسليم وتقربوا إليه –تعالى- بمضاعفة الحسنات وشتان ما بين الثريا والثرى.

وكما يقول الشاعر

على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم

ولذا فإن معشر المسلمين يتحتم عليهم أن يرفعوا الرءوس عالية، وأن يفخروا بكل اعتزاز بأن مثلهم الأعلى ورسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام... ولم يأت لأمة واحدة أو مكان معين أو زمان محدود، بل أكرمه ربه كما أكرم أمته؛ بأن خصه –سبحانه- من بين رسله وأنبيائه بأن يكون رسولًا للعالمين: إنسهم وجنهم، سواء منهم العرب والعجم إلى يوم الدين.

ولعل هذا من بعض ما اختصه الله به؛ بأن توج الرسالات وختمها برسالته الباقية الخالدة، قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ﴾ (الأحزاب: 40) وجعله رحمة للعالمين: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107) ولكنه ليس معنى هذا أن يظن إنسان أن هذا الاختصاص والاختيار الآلهي أنه جاء وليد الصدفة، فالله يخلق ما يشاء ويختار.

«الله أعلم حيث يجعل رسالته» فإذا كان الإنسان المتعلم يتباهى بأنه تلقى تعليمه في كلية كذا وجامعة كذا، فإنه عليه الصلاة والسلام قد سبقهم إلى ما هو أسمى منه؛ إذ تلقى الوحي من الله عز وجل: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ، ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ﴾  (العلق : 1 : 3) ولنمعن النظر ونتدبر قليلًا:- إذا كانت تلك تربية الإنسان، وكان ذلك تعليمه؛ وهو القاصر المحدود من كل ناحية، فكيف إذا كان الذي ربى الرسول وعلمه هو علام الغيوب، وهو الإله المحيط بكل شيء علمًا، وهو الذي أعده لأمر جلل ورسالة عظمى.

لذلك فإن العناية الإلهية إذا كانت قد تعهدت موسى وعيسى -عليهما السلام- من بعد ولادتهم، فإنه -عليه الصلاة والسلام.. قد تعهده ربه بعنايته منذ أن بشر به في كتبهم قبل ولادته بقرون طوال.

ولم يكن الرسول كأحدنا يقول في صغره: أبي أبي، بل قال: ربي ربي، فلم يتعلق قلبه منذ صغره بأب أو أم؛ بل كان تعلقه بربه وخالقه، فاستمد منه العون، وصفت نفسه الطاهرة منذ الصغر، وأخذ يخلو بعد أن ترعرع، خلوات ربانية بغار حراء، لا تشغله مغريات الحياة وبهرجها، تاركًا الأهل والأقارب، مقبلًا على هذا التبتل على دين أبيه إبراهيم عليه بالحنيفية السمحة التي لا تشوبها شائبة طاهرة نزيهة، يستمدها مما جلبه ربه عليه من الأخلاق الكريمة الفاضلة؛ مما دعى قومه بأن يلقبوه في جاهليتهم "بالأمين" قبل مجيء الوحي إليه، نظرًا لما عهده فيه من الرشاد، فلقد جنبهم في مواقف عديدة الكثير من الكوارث والحروب الطاحنة، التي كادت أن تدور رحاها لأبسط الأسباب كعادتهم في الجاهلية، ومن أبرز وأشهر تلك المواقف: حله لإشكال حمل الحجر الأسود إلى موضعه عند إعادة بناء الكعبة، فحقن بذلك -وغيره- كثيرًا من الدماء، وكف الجاهلين عن قطع الأرحام، وما يجره من خراب للبلاد والعباد، ولعل هذه لمحات يسيرة وقليل من كثير -يعجز المقام عن ذكرها- كانت إرهاصات قبل نبوته وومضات من نور نبوته المرتقب؛ حتى أضاء الله به ظلمات الشرك وبددها على يديه، وصدق الله العظيم:

قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ﴾ (المائدة: 15)  ﴿[1]

فاللهم وفق المسلمين للاقتداء والاهتداء برسولهم الكريم، وردهم إليك ردًا جميلًا يا رب العالمين.

 

الأستاذ الداعوق: ميلاد أمَّة

ويرد الأستاذ/ محمد عمر الداعوق هذه الأمة لأصولها الحقيقة ونشأتها الأولى؛ إذ يربط بين ميلاد محمد -الذي سيصبح رسولًا- وبين النشأة الحقيقية لهذه الأمة..

النشأة التي ما كانت تتم أبدًا لولا الوحي الذي نزل على الرسول، والذي أحيا به الرسول أمة بعد موت: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ﴾ (الأنعام: 122)

في هذا المعنى الجليل كانت كلمة الأستاذ الداعوق:

لما كان العالم يتخبط قبل أربعة عشر قرنًا في ظلمات الشرك والجهالة، والأمم تعيش عيشة الضواري، متخذة شريعة الغاب دستورًا، والبغي والعدوان قانونًا، ولما كان تنازع البقاء بين بني الإنسان هو المنهاج السوي عند هذه السائمة التي تدب على رجلين، وكان القدوة الصالحة فيهم هو الأقسى قلبًا والأغلظ كبدًا والأظلم معاملة.

أقول لما كان كل هذا الشر المستطير، كان لا بد لهذا العالم -كسنة من سنن الوجود- من سراج منير يضيء على فترة من هذه السرج، التي خلت من قبل، يضيء للبشرية طريق العلم والتوحيد، ويهديهم إلى الحياة الإنسانية الكريمة، ويضع لهم قانونًا عادلًا شعاره: «لا ضرر ولا ضرار» «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» «أحب لأخيك ما تحبه لنفسك» فيعرفهم ما عليهم من واجبات، وما لهم من حقوق، ثم يكون هو نفسه القدوة الصادقة والأسوة الحسنة لكل هذه الخصال الخيرة والأخلاق الكريمة؛ التي تعمر بها الأرض، ويسعد بها الإنسان، ويرضى عنها الرحمن.

أجل لما كان لا بد للعالم من هذا المعلم الهادي إلى الطريق القويم؛ خلق الله جل شأنه وسط هذا الظلام الدامس طفلًا، ولكن ليس كالأطفال، واقتضت حكمته أن يكون يتيمًا ليتولاه هو بعنايته وليضعه على غيه، فيربيه بوحيه ويؤدبه بكلماته، ثم يرسله إلى الناس كافة، وللعالمين رحمة، ولجميع الخلق بشيرًا ونذيرًا، وللمؤمنين به سراجًا منيرًا..

أرعاه الغنم ليعلمه رعاية الأمم، ثم شغله بالتجارة ردحًا من الزمن؛ ليدرس أخلاق الناس وأمراضهم الاجتماعية، ثم زوجه النساء ليقيم به دعائم الأسرة المثالية، ثم فرغه بعد ذلك بضع سنين للتأمل والتحنث؛ حتى يصل من طريق التفكر في خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة، إلى معرفة خالقه الذي أتقن كل شيء؛ ليوحده ويعظمه ويكبره.

فخرج بعد هذا صقيلًا لماعًا مهذبًا كامل الصفات، يضرب المثل بصدقه وأمانته، وبدرًا ساطعًا يلجأ إليه في الليلة الظلماء -كيوم وضعه الحجر الأسود في مكانه وحسم الخلاف بين القبائل- ثم أرسله على رأس أربعين سنة وقد اكتمل عقله وكبر قلبه، ونضج فهمه وتبلور تفكيره؛ فأفحم البلغاء، وبذ الفصحاء، وأرضى الحكماء، وجبر الفقراء، فحاربه لذلك الكبراء والزعماء، وأغروا به السفهاء والأشقياء، فأصابه من ذلك بلاء وأي بلاء، غير أن الذي بعثه جل وعلا آتاه صبرًا جميلًا، وحلما مبينًا، وصفحا كريمًا، ثم زوده بشجاعة نادرة وجرأة تخوّله لأن يحارب العالم وحده، ويكافح في سبيل رسالته لا يكلف إلا نفسه؛ فكان أن أحبه الناس آخر المطاف حبًّا جمًّا، وآمنوا برسالته إيمانًا صادقًا عميقًا، حتى فدوه بالمبهج والأرواح، فكان خطابهم له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هدانا الله بك بعد إذ كنا ضلالًا، وربانا بعد أن كنا شذاذًا، فأمرنا تجدنا وابتلينا تخبرنا، وأمنا نتبعك، لا نرغب بأنفسنا عن نفسك، ولا نبخل بأموالنا عن نشر دعوتك، ولا بأرواحنا عن الجهاد في سبيل ربك.

فقرت عينه بهم، وأسس دولته بهمهم ووطد أركانها بجهودهم، ففتحوا البلاد وجاهدوا في الله حق الجهاد، حتى فدوه بالمهج والأرواح، وملأوا العقول حكمة وعلمًا، وملأوا الناس رحمة وبرًّا..

هذه هي الأمة التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس، اتخذوا نبيهم إمامًا في الدين والخلق، وقائدًا في المعارك والحروب، وأسوة في الأقوال والأفعال؛ فأفلحوا في الدنيا وفازوا بالآخرة.

فمولده إذن مولد أمة، وحياته خير مدرسة، وأقواله الحكمة البالغة، وأفعاله السنة الكاملة، وشخصيته الأسوة الكريمة الحسنة، التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وأظهر جهله وأضاع عقله.

وهكذا أكمل الله به بناء الأديان، وأتم به مكارم الأخلاق، وختم به الرسالات السماوية.

-صلى الله عليك وسلم- يا رسول الله؛ ما دامت السماوات والأرض، وجزاك عنا خير ما جزى به نبيًّا عن أمته، وجعلنا ممن اتخذوك أسوتهم وجعلوك قدوتهم، وتشرفوا بالتخلق بأخلاقك الكريمة وأعمالك الحكيمة، وامتثلوا لأوامرك الربانية؛ حتى يحشرهم ربهم تحت لوائك يوم القيامة، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

 

الأستاذ أحمد عبد القادر: لا مساومة على العقيدة

ويتناول الأستاذ/ أحمد عبد القادر؛ وكيل المعهد الديني، جانبًا جد مهم -ولا تستقيم حياة المسلم إلا به- من سيرة الرسول -عليه الصلاة والسلام.. جانب الاستمساك بالعقيدة.. والرفض الحاسم لكل مساومة عليها.. أو إغراء بالتخلي عنها، فيقول الأستاذ أحمد:

مما لا شك فيه أن لقوة الإيمان أثرًا كبيرًا في حياة الأمم والأفراد.. وإنه ما من أمة قوي إيمانها وسلمت عقيدتها واشتدت صلتها بالله؛ إلا كان النجاح حليفها والعظمة عنوانها.. وبارك الله مسيرتها على طريق الحق والخير، والمجد والعزة، وفي سيرة المسلمين العطرة منذ أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله أحاديث عن عظمة الرجال، وقد خلد التاريخ بطولتهم، لما امتازوا به من إيمان قوي، وعقيدة فتية، ويقين ثابت بأن القوة ليست في سوط يرفع، ولا أسلحة تشهر، دون أن يكون لها من يقين حاملها وعقيدة صاحبها دافع تشق به طريقها، وتذود به عن العزة والكرامة، وإن قوة العدد والعدة واستعداد الجيوش وتدريبها ليس يجدي، إلا إذا صاحب ذلك عزيمة قوية تحفز المقاتلين إلى أن يخوضوا المعارك، وهم أعظم ثقة بالله وبأنفسهم ما داموا ينشدون إحدى الحسنيين: إما النصر، وإما الشهادة في سبيل الله.

أقوى.. سلاح

ونحن نعلم من تاريخ ديننا أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نهض بدعوته ولم يكن معه سلاح يحارب به، ولا ذخيرة تحمل الناس على الخضوع له إلا قوة العقيدة والفناء في الدعوة، استطاع من أول يوم أن يقف وحده في وجه كتائب الشرك، وأن يملي عليهم كلمات البطولة والصمود.. يوم قال كلمته الخالدة: «يا عم.. والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته؛ حتى يظهره الله أو أهلك دونه»

ما كان يملك دبابة ولا طائرة ولا صاروخًا ولا قنبلة.. وإنما كان يملك إيمانًا يذيب الحديد والنار.. كان يملك العزم المصمم الذي لا يتردد.. كان يحمل بين جنبيه عقيدة تستعلي على الأزمات وتتحدى المساومات... حينما حاولت قريش أن تمزج التهديد بالرجاء، وأن تجرب أسلوب الإغراء.. هداها التفكير الى أن تقدم رشوة إلى رسول الله، لعلها تزلزل يقينه وتحطم عقيدته؛ فأرسلت إليه عتبة بن ربيعة يقول له: يا بن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا، سودناك علينا حتى لا يقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا، ملكناك علينا، وإن كان هذا الوحي الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.

لا!!

وبهذا العرض السخي، حسب عتبة أنه قريب من النجاح، ولكنه يُفاجأ بما ليس في حسابه؛ حيث أخذ الرسول يتلو آيات من القرآن الكريم جعلت عتبة يرجع إلى قومه، بوجه غير الذي جاء به، ويقول لهم في حماسة وتهدج صوت: إني سمعت منه قولًا ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.. وهكذا، ارتفع النبي الأكرم بعقيدته فوق المغريات والمساومات.

وبمثل هذه المواقف، خالطت بشاشة الإيمان قلوبًا شرحها الله للهداية وملأها بعقيدة انطلق بها المؤمن يجتاز حدود الزمان وسدوده، وقد هانت بين يديه الشدائد وذللت الصعاب، حتى أننا لنجد صورًا من التضحيات مشرفة يعجز التاريخ عن أن يجد لها مثيلًا في صحائفه.. نجد بلالًا -رضي الله عنه- يرفض المساومة في عقيدته ويتعرض لتعذيب لا طاقة له به، فكان يخرجه أمية بن خلف المشرك في وقت الظهيرة ويطرحه على رمال مكة الملتهبة الساخنة، ويضع على صدره صخرة عظيمة عساه أن يرجع عن دينه، فيجمع بلال بقايا أنفاسه ويردد كلمة التوحيد قائلًا: أحد، أحد، وهذه سمية تصون عقيدتها وتدفع الثمن حياتها، وقد ماتت بضربة فاجر يئس من إغرائها بالكفر بعد الإيمان، وهكذا من جامعة العقيدة تخرّج أبطال باركت السماء إيمانهم ونصروا دين الله؛ فنصرهم، عاشوا في دنيا الناس أعزة كرامًا، وفارقوا الحياة يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.

وإذا كان من حق رسول الله علينا أن نحتفل بذكرى مولده.. فليس ذلك بخطب تقال أو بأناشيد تذاع، إنما الاقتداء به في صبره وثباته، في رفضه المساومات، واستعلائه في قوة على كل ضيم ومذلة وخاصة في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا المسلمة.

 

الواقع.. والمثل

ولا يفوتني أن أذكر المسلمين بهذا الظرف العصيب الذي واجه الرسول -والمؤمنون معه- يوم أن حاصرت الأحزاب المتآمرة مع اليهود للمدينة المنورة وفي وقت بلغت القلوب فيه الحناجر، يعرض عيينة الفزاري والحارث بن عوف بأسلوب المساومة أن يرجعا بقومهما وأن يخذلوا الأحزاب على أن يكون لهم ثلث ثمر المدينة، فيقوم سعد بن معاذ يقول: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟؟ والله لا نعطيهم إلا السيف؛ فأشرق وجه الرسول الكريم مستريحًا لإيمان أصحابه وعزة نفوسهم، وقال لعيينة والحارث: انصرفا فليس عندنا إلا السيف؛ وتقدم المسلمون عن قلب واحد وواجهوا الأعداء صفًّا واحدًا، حتى رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، فما أحوجنا اليوم إلى هذا الإيمان نستعيد به مجدنا وكرامتنا.. وما أحوجنا إلى عقيدة كهذه تحارب خلف المدفع والدبابة والطائرة، وتوحد بين القوى المسلمة المتفرقة، ليمكنهم أن يرفضوا كل مساومة، وليقولوا في عزة للأعداء الغاصبين.. انصرفوا فليس عندنا إلا السيف، يومئذ توافينا ذكرى المولد ونحن سادة الدنيا.. ويومئذ نستحق بشارة القرآن الكريم: ﴿وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ (الصف: 13)

الأستاذ الحسيان: النور الذي نسخ الظلام

وانتقل الأستاذ/ هاشم الحسيان بفكره وشعوره إلى الفترة التي كان النور فيها يتقدم رويدًا رويدًا.. بينما يتراجع الظلام.. وتنحسر حلكته باستمرار.. وبعد أن يوجز تلك الفترة، يحيا مع الرسول في هداه الذي جدد الحياة، ومنحها المعنى والطعم والضياء، كتب يقول:

هل يستطيع أي فرد منا أن يتبين طريقه.. ويهتدي إلى هدفه في ليل حالك مقيت.. هل يستطيع الإنسان أن يمتد بصره إلى أكثر من راحة يديه.. مهما بلغت قوة إبصاره إذا كان السواد القاتم يغطي ما حوله.. هكذا كان يعيش الناس في جزيرتنا العربية قبل مولد رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه.. كانت حياتهم أشبه بالظلام الذي لا هدف من ورائه.. كانوا منغمسين في طريق الفساد الذي لا نهاية له.. والظلم الشائع في كل بقعة من ذلك المكان.. تسوقهم أهواؤهم العارمة إلى طريق الضلالة، وتقودهم رغباتهم إلى هوة سحيقة لا قرار فيها.. كل لا يعرف حقوقه.. لا يدرك واجبه تجاه أهله وأمته.. لا يرى لنفسه مبدأ وهدفًا في الحياة.. كان الكل منهم يدور حول نفسه وهو لا يدري بأي اتجاه يسير.. وقد كان صغيرهم قبل كبيرهم يبحث عن منفذ النور يوصله إلى غاية.. يأخذ بيده إلى هدف ومعنى.. لكن الظلام أبى أن يولى إلا بعد أن يأخذ منهم مأخذه؛ حتى يلقنهم درسًا ويسقيهم عذابًا على أعمالهم المنكرة وتماديهم في ظلمهم لبعضهم البعض.. فرض عليهم القصاص ولكنهم لم يتمكنوا من صده.. لأنهم مذنبون بحق الجميع.. وعندما بلغ السيل الزبى.. بشر الخالق الكريم أسرة عبد المطلب بقدوم مولود وسيم تشرق من خلال وجهه السمح شمس الحياة.. لتبعث الحق والأمل والعدل في نفوس الآخرين.. الذين ظلوا قرونًا طويلة يرزحون تحت وطأة الجهل والانجراف وراء تيارات لا نهاية لها.. بشرهم -جل وعلا- أنه من نور قلب هذا الطفل الطاهر النفس سيشع نور الإيمان؛ الذي سيمحو كل ظلام وجهل، ويعيد للنفوس الميتة حياتها.. وكان ذلك اليوم العظيم.. الذي أطل فيه ذلك المولود الجميل.. الذي تنم أساريره عن الحب والمودة والخير.. أطل على أمته بنوره الوضاء، ورسم الفرحة والسعادة على وجوه كل من حوله.. إذا بدأوا بمقدمه يتحسسون طريقهم.. ويعرف كل واحد منهم حقه وواجبه.. ويرى أمامه مسلكًا آمنًا يسير فيه.

وأعطى الحياة معنى

جاء محمد بن عبد الله إلى هذه الدنيا منذ أربعة عشر قرنًا ليوطد في أرضها العدالة.. عدالة السماء السمحة... ويبدد عنها الظلم والغبن في حق الفقراء والمستضعفين.. ويسعى بكل ما أوتي من قوة وهبها له الخالق -سبحانه.. وبما يتمتع به من إيمان عظيم.. وعقيدة فذة إلى إبعاد عنصر التفرقة بين هذا وذاك.. لأن الله -سبحانه وتعالى- خلق البشر سواسية، كما جاء في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ﴾ (الحجرات: 13).

 جاء الرسول الكريم ليجعل الناس أمام الله كلهم متقاربين في الحق والواجب.. قدم -صلوات الله وسلامه عليه- إلى هذه الأمة ليدعوها إلى الإيمان بإله واحد لا شريك له في هذا الوجود.. له كل ما في الوجود وهو على كل شيء قدير.. لقد اختاره الله -سبحانه وتعالى- من بين عباده الآخرين.. ونزع من نفسه كل ما يمت إلى الشر بصلة، وغرس مكانها كل معاني الخير والبر.. اختاره من بين بني البشر ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين.. لأنه حفظ العهد.. وتمسك بالعقيدة، ورسخ الإيمان في أعماق نفسه الطاهرة.. لهذا أصبح رسولًا للعالمين.. وهاديهم إلى طريق الحق والعدل.. يدعوهم إلى الكفاح دائمًا وأبدًا في سبيل الله والعمل النافع الذي يعود بالخير على كل الناس.. يدعوهم في كل لحظة للجهاد في سبيل مقاومة كل عنصر من عناصر البغي والطغيان المتأصلة في أرواح الكثيرين ممن فقدوا الصواب في طريق حياتهم.. لقد استطاع الرسول الكريم بفضل حلمه ورحابة صدره أن يأخذ بأيدي الكثيرين إلى ما هو خير للآخرين.. لم يكن -صلى الله عليه وسلم- يطمع من وراء أي تصرف من تصرفاته الحصول على مال أو جاه.. أو أن يمجده الآخرون، بل كان له هدف سام؛ هو هداية الناس إلى الصراط المستقيم.. هكذا نشأ الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه.. نشأ ذو خلق رفيع.. ونفس طاهرة زكية منذ نعومة أظفاره.. وقد وصفه الخالق العظيم -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ﴾ (القلم: 4)

لقد وطد الخالق العظيم في نفس هذا الإنسان المثالي في دنيا الحياة كل المعاني والقيم الإنسانية الحقة.. وثبت في قلبه تعاليمه السمحة.. وجعله قدوة حسنة لكل صغير وكبير في مجتمعه بقوله تعالى: ﴿ لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ﴾ (الأحزاب: 21).

 لقد أصبح محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولًا للخالق العظيم في مجتمعه الذي عاش وترعرع فيه.. وداعية خير وهداية لبني قومه.. الذين عاشوا قرونًا طويلة في التيه والضلال.. وراء تيارات شتى لا نهاية لها.. تجرفهم إلى هوة سحيقة أينما ساروا أو اتجهوا.. وقوله -سبحانه وتعالى: ﴿ لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ﴾ (آل عمران: 164).

إن هذا خير دليل على أن الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- رسول هداية.. ومبشر بالبناء والإصلاح والتعاون بين الناس.. واتباع طريق الحق.. والعدل والإحسان في معاملة الناس فيما بينهم.. والترابط بين بني البشر؛ حتى يصبحوا كالبنيان المرصوص.. أو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تألمت له جميع الأعضاء.

الكفاح الشريف

وخاض الرسول الكريم المعارك الضارية والحروب القاسية من أجل نصرة دين الله.. دين الحق.. من أجل انتصار راية الإسلام فوق كل راية.. حتى يجعل من كل مسلم على أرضه يعيش فعلًا كإنسان لا فرق بينه وبين أي إنسان آخر.. يعيش حرًّا كريمًا عزيزًا لا ينافسه منافس.. لا يهضم حقه، ولا يهدر كرامته أحد، أو يمس بيته وأهله بسوء؛ لأن الدين الذي جاء مبشرًا به وهاديًا إليه؛ إنما هو دين عدل وحق ثابت، لا رياء ولا مكر ولا زيف ولا خداع فيه.. دين ناصع البياض لا تشوبه شائبة.. من أجل هذا كله نشأ الفتى الطاهر القلب، الذي أصبح من بعد رسولًا للعالمين.. نشأ بسيطًا في حياته.. دمث الخلق.. طيب الصفات.. لين الجانب.. سمح المعاملة والرد على إساءات الآخرين بالإحسان.. فأحب الناس وأحبوه، ووثقوا به أيما ثقة، وأصبح مأمون الجانب ولذا لقبوه «بالأمين» لأنه أمين في معاملته.. في كلامه.. في سلوكه.. في كل خطوة من خطواته.. وبهذا الأسلوب الطيب انتشرت دعوة الإسلام على يديه في كل شبر من العالم، وأصبح للدين الإسلامي مكانة عظمى.. ومنزلة عليا.. في شتى رقاع الأرض.. وفق الله الجميع إلى طريق الخير وهداهم إلى الصراط المستقيم.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل