العنوان قبرص: مخططات إزالة الوجود الإسلامي
الكاتب ظفر الاسلام خان
تاريخ النشر الثلاثاء 07-أكتوبر-1997
مشاهدات 734
نشر في العدد 1270
نشر في الصفحة 36

الثلاثاء 07-أكتوبر-1997
كان الحادي والعشرون من ديسمبر عام ١٩٦٣م موعدًا مع المؤامرة الكبرى ضد المسلمين، حين جرى ذبح عشرات الألوف من المسلمين بالجزيرة فاندلعت حرب أهلية بين المسلمين الأتراك والنصارى اليونانيين، وانهارت الحكومة القبرصية وجاءت قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة للمحافظة على أمن الجزيرة والحيلولة دون التدخل التركي، وهي لا تزال موجودة هناك إلى هذا اليوم على «الخط الأخضر» الذي يفصل بين شطري قبرص منذئذ، وكذلك أحجم المسلمون عن المشاركة منذئذ في الحكومة القبرصية التي يسيطر عليها النصارى اليونان وبدؤوا يديرون المرافق بأنفسهم في الجزء الخاضع لهم، ونتيجة هذه المذابح والحرب الأهلية اضطر ٢٥ ألف مسلم إلى النزوح من القرى المشتركة ومن المناطق الخاضعة لليونان واللجوء إلى القرى الإسلامية بالشمال.
وقد أمكن تنفيذ هذه الخطة بإحياء تعاون مكاريوس مع الإرهابي اليوناني العقيد غريفاس «قائد الإيوكا»، ولم يعرف العالم وجود هذه الخطة لإبادة الجنس التركي بالجزيرة إلا في ٢١ من أبريل ١٩٦٦م حين نشرتها جريدة باتريس اليونانية، وقد وضعت هذه الخطة بالتشاور مع ضباط الجيش اليوناني الذين كانوا يعملون في الجيش القبرصي بطريقة سرية غير مشروعة.
وكان مكاريوس يراهن على التدخل العسكري اليوناني والتأييد الأمريكي في صورة الضغط على لندن وأنقرة، وكافأت اليونان العقيد غريفاس بترقيته إلى رتبة لواء ثم أرسلته إلى قبرص ليتسلم من الجيش قيادة الجزء اليوناني، وتوجه الجيش القبرصي اليوناني متسلحًا بأوامر مكاريوس فحاصر المناطق التركية في الجزيرة ولكن روح المقاومة التركية لم تحمد بالرغم من الحصار وقلة المواد الغذائية.
وهنا أخبرت تركيا حلفاءها في الحلف الأطلنطي بأنها تعتزم إنزال القوات على الجزيرة لمساعدة المدنيين الأتراك، وكان هذا يعني الحرب بين تركيا واليونان فخرج الرئيس الأمريكي ليندون جونسون باقتراحه في ٥ من يونيو ١٩٦٤م بضم قبرص إلى اليونان ما عدا شبه جزيرة كارباس التي اقترح أن تتحول إلى قاعدة عسكرية تركية، وأن يحق للأتراك في المناطق الأخرى من الجزيرة أن يغادروها وأن يحصلوا على تعويضات، وكانت تركيا حين انضمت إلى الحلف الأطلنطي سنة ١٩٤٧م قد أعطت للولايات المتحدة حق التدخل في قضايا تتعلق بمصيرها.
مذابح القرى:
ومع كل هذه التطورات استمرت مذابح الأتراك في القرى، وفي يونيو ١٩٦٧م قدمت أنقرة إنذارًا إلى اليونان التي كانت تحكمها في ذلك الوقت حكومة عسكرية، وخاف العقداء «الكولونيلات» من أن يواجهوا هزيمة في تراقيا على أيدي الجيش التركي فتقهقروا واسترجعوا الجنود اليونانيين المرسلين إلى قبرص، أما الأتراك القبارصة فعملوا على تقسيم الجزيرة من الناحية الفعلية، وكانت قبرص تحكم حتى ذلك الحين تحت «نظام الملة» العثماني الأصل، أما الآن فكان التقسيم جغرافيًا بدلًا من أن يكون طائفيًا.
ولم يكن الأتراك يرغبون في هذا الحل لأنه كان مضرًا بهم من الناحية الاقتصادية، فقد جرى طردهم من أراضٍ زراعية جيدة وأجبروا على النزوح إلى الحي التركي بنيقوسيا أو اللجوء إلى شمال الجزيرة، وحتى قبل الحرب الأهلية كانت هناك ٦١٩ قرية في قبرص منها ٣٩٣ قرية يونانية و١٢٠ قرية تركية و١٠٦ قُرى مشتركة بين الطائفتين كانوا يعملون معًا بصورة عامة.
وكان اللاجئون الأتراك الذين أجبروا على النزوح عن أوطانهم معدمين فقد تركوا مزارعهم، ولم تكن الضرائب التي تجبى في الجزء التركي من الجزيرة تكاد تكفي حتى لنفقات إدارة ذلك الجزء من البلاد.
وهكذا قررت الجالية التركية رفض الاعتراف بشرعية الحكومة القبرصية اليونانية بسبب تحيزها الواضح ضدها.. واستمر هذا الوضع إلى أن قام ممثلو الطائفة القبرصية بانتخاب برلمان خاص بهم سنة ١٩٧٠م لإدارة شمال الجزيرة حيث كان المسلمون يتمركزون.
ولم يكن العقداء في أثينا- شأنهم شأن أمثالهم في البلاد الأخرى- يملكون حسن التصرف والحنكة والدبلوماسية. فدبروا انقلابهم في قبرص للإطاحة بمكاريوس وأحلوا محله نيكوس سامبسون الذي كان يبدو ممثلًا من ممثلي أفلام الجريمة الأمريكية، وهكذا قام الحرس الوطني اليوناني، الذي أنشئ خرقًا للدستور القبرصي وكان يقوده ضباط يونانيون، بانقلابه على مكاريوس في ١٥ من يوليو ١٩٧٤م. وهرب مكاريوس من البلاد وقضى الشهور الستة التالية في المنفى.
وبدأ الحرس الوطني اليوناني يذبح المسلمين كلما وحيثما وجد ظهرهم مكشوفًا، وهكذا تمت تصفية السكان المسلمين في مدن مورتغا وطشقند «دوهني» وأنديلار، وأثلار.. فقد قُتلوا بواسطة الرشاشات ورميت أجسادهم في خنادق ومقابر جماعية، وهنا غزت تركيا أرض قبرص في أغسطس ١٩٧٥م استنادًا على حقها في التدخل بمقتضى معاهدات زيوريخ.. وهكذا تم تقسيم الجزيرة منذئذ بصورة عملية.
وبدا لبعض الوقت أن رئيس الوزراء التركي «بلند أجاويد» سيحذو حذو سلفه الجبان عصمت إينونو، إلا أن الضغط من قِبل نجم الدين أربكان والعناصر الإسلامية في الوزارة التركية آنذاك دفعه إلى العمل والمبادرة في نهاية الأمر، ولو كان التدخل التركي قد تأخر حتى أيام قلائل لكانت قد جرت تصفية المزيد من الأتراك، أما لو تأخر عدة أسابيع لما كان الجنود الأتراك سيجدون من ينقذونهم.
صمت الإعلام العالمي:
وكانت هذه المذابح تجري على قدم وساق وسكت عليها الإعلام العالمي وشاركه في ذلك الإعلام العربي تحت التأثير العلماني والاشتراكي آنذاك، وخصوصًا أن مكاريوس كانٍ من زعماء عدم الانحياز! وأتذكر أن صديقًا لي بجريدة الأهرام- هو الأستاذ حسن فؤاد- زار الجزيرة موفدًا من جريدته لتقصي الحقائق وعاد بتفاصيل
المجازر الرهيبة وصور المقابر الجماعية التي رميت فيها جثث المسلمين بعد ذبحهم وأراني تلك الصور في حينها ولكن شيئًا من ذلك لم ينشر في جريدته التي كان لا يزال يرأسها- بطل حرية الكلمة وصاحب «بصراحة»- محمد حسنين هيكل.
ويتمثل هذا النوع من الضحايا في الآثار الثقافية الإسلامية التي هدمها اليونانيون اندفاعًا من جنونهم وكراهيتهم للمسلمين. فقد هدموا أو دنسوا ما لا يقل عن (١١٧) مسجدًا في هذه الجزيرة الصغيرة نسبيًا، ومنها مسجد تاريخي يعود إلى القرن الهجري الأول، وهو «تكية أم حرام». والتي تعرف أيضًا بـ«خالة السلطان» لأنها تضم قبر خالة النبي ﷺ، والسيدة «أم حرام» المدفونة هنا هي خالة الرسول من الرضاعة وكان يناديها بـ«الأم» حيث إن أمه «آمنة» كانت قد توفيت في صباه.
وكانت خالة النبي صلى الله عليه وسلم هذه قد اصطحبت زوجها عبادة بن الصامت حين بعث معاوية أسطولًا لفتح جزيرة قبرص سنة ٢٨ هـ- ٦٤٨م في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت هذه أولى الحملات الأربع والعشرين لفتح هذه الجزيرة والتي توجت بفتحها تمامًا سنة ١٥٧١م حين أخضعها السلطان سليم الثالث للإمبراطورية العثمانية.
وقد استشهدت خالة الرسول ﷺ حين سقطت عن بغلتها فدفنها زوجها حيث سقطت على شاطئ بحيرة مالحة بالقرب من مدينة لارنكا الأثرية، وهذه المقبرة، التي تقع وسط أشجار النخيل، تعتبر من أجمل مناطق الجزيرة.
وقد أنشأ العثمانيون تكية ثانية بالقرب من هذه المقبرة للطريقة المولوية بعد فتحهم للجزيرة «وهناك تكية أخرى بنيقوسيا» والأرض التي تقع عليها هذه المقبرة يحتلها العسكر اليونان منذ سنة ١٩٦٤م، وكانوا قد حولوا المسجد لأغراض عسكرية، ثم دمر اليونانيون المقبرة عندما كانت الحرب الأهلية في أوجها بعد أن حاولوا حرقها ونهبوا تحف المقبرة ومنها سجاجيد لا تقدر بثمن وتحف فنية نادرة، وكان يسمح للمسلمين بأن يزوروا هذه المقبرة حتى سنة ١٩٧٤م تحت إشراف اليونانيين، وحتى مفاتيح المقبرة كانت بأيدٍ يونانية، ولم يكن يسمح لإمام المسجد بأن يسكن هناك، أما الآن فيقع المسجد في القطاع اليوناني من الجزيرة ولا يسمح للمسلمين بالزيارة أو التعبد هناك.
وهناك مسجد أثري آخر في الجزيرة يعود أصله إلى عصر الصحابة وهو الآخر يقع تحت الاحتلال اليوناني العسكري، وهذا هو مزار «مقام» عمر بـ«غرنه» حيث يرقد أوائل المجاهدين المسلمين وإلى جانبهم توجد قبور بعض مجاهدي الفترة العثمانية، ومن دوافع الأسف أنه لا تعرف الآن أسماء المدفونين بهذه المقابر بسبب اختفاء النقوش عن قبورهم.
ويقع مقام عمر على شاطئ البحر على مبعدة ٤ أميال من كيرينيا في القطاع اليوناني، وكانت القوات اليونانية المسلحة قد احتلت هذا المكان ونهبته ودنسته، وهو الآخر في حالة خراب، وقد أعلن اليونان أنها منطقة عسكرية وذلك لكي لا يتمكن المسلمون ولا حتى إمام المسجد من زيارتها.
ومقام عمر محظوظ لأنه لا يزال قائمًا بعد، وإن كان في حالة خراب، أما مساجد أخرى كثيرة فلم تكن محظوظة مثله، وعلى سبيل المثال هاجم القبارصة اليونانيون الجامع الجديد بـ«كتمة» في مديرية «باتوس» بقذائف المورتار والبازوكا، وألحقوا به أضرارًا جسيمة بما فيه هدم منارته وهجموا على المسجد في مرحلة لاحقة ودمروه بعد نهبه ثم أحرقوه، ولم يكتفِ القبارصة اليونانيون بهذا القدر من التخريب بل امتدت أياديهم لتدمير كل آثار الجامع الجديد فجاءوا بالبلدوزرات وهدموا كل ما تبقى من المسجد وحولوا المكان إلى مربض للسيارات «انظر كتاب: أو كتائي أوكسوزوغلو، اضطهاد الإسلام بقبرص».
ومن أهم معالم قبرص الإسلامية مسجد بيرقدار بنيقوسيا، ويضم هذا المسجد قبر بطل إسلامي كان أول من تسلق أسوار المدينة حين فتحها العثمانيون سنة ١٥٧١م وكان هذا البطل هو حامل الراية- أو «البيرقدار» بالتركية- وقد دفن في نفس مكان استشهاده ثم أنشئ مسجد على الموقع ليحيط بمقبرته.
وبسبب هذا الماضي وهذا التاريخ المجيد ظل هذا المسجد مثار الحقد اليوناني، وفي سنة ١٩٦٣م وضع اليونانيون متفجرات تحت منارة المسجد لكي يتدمر المسجد تلقائيًا بسقوط المنارة عليه.. وخلال الحرب الأهلية التي اندلعت بعد ذلك ظل هذا المسجد هدفًا لعديد من الهجمات المتكررة، وكان من السهل الهجوم على هذا المسجد لأنه يقع في حي يوناني من المدينة، وبعد أن هاجمه القبارصة اليونانيون مرارًا بقذائف المورتار جاءوا فنهبوا سجاجيده الثمينة وغيرها من تحفه ودنسوا نسخ القرآن وغيرها من الكتب الدينية، وفي مرحلة لاحقة أكمل اليونانيون خطتهم فهدموا بناية المسجد بالبلدوزرات ثم حولوا المكان إلى مربض للسيارات.
وهكذا قد خلا الجزء الجنوبي من قبرص من معظم مساجده ومقابره وسكانه المسلمين تحت سمع العالم وبصره في القرن العشرين، وبعد كل هذا لا يتحدث الإعلام الغربي عن هذه المجازر والإبادة بل يكتفي بتسليط الأضواء على «الاحتلال» التركي للجزيرة متناسيًا أنها جزيرة تركية أصلًا وأن بريطانيا ضمتها بالغش وأنه كان لتركيا حق التدخل فيها بمقتضى اتفاقيات دولية ألغاها مكاريوس من جانب واحد.. كما يتجاهل هذا الإعلام المظالم التي ارتكبت في حق المسلمين الأتراك بالجزيرة، الأمر الذي حتم التدخل التركي قبل أن يباد القبارصة المسلمون عن آخرهم.
إن قبرص تمثل واحدًا من انتصاراتنا القليلة في عصر الهزيمة والاندحار اللذين نعيشهما منذ عهد الاستعمار وفي ظل الاستعمار الجديد.. لقد رضينا بسياسة «اللاعنف» والانهزام.
وفي هذه الظروف كانت الخطوة التركية لإنقاذ إخواننا في قبرص درسًا ونورًا للآخرين حول كيفية التصرف مع أعداء لا يراعون حدودًا ولا مواثيق ويرتكبون في حقنا كل أنواع الظلم والقهر.. نحن لا ندعو للعنف والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، ولكننا لا نقبل في الوقت نفسه أن يستبيح الآخرون حدودنا وأعراضنا ودماءنا ثم لا نرد عليهم خوفًا من أن نوصم بالعدوان والإرهاب.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

