العنوان قبرص وخطة عنان
الكاتب طه عودة
تاريخ النشر السبت 28-فبراير-2004
مشاهدات 20
نشر في العدد 1590
نشر في الصفحة 36
السبت 28-فبراير-2004
يمكن القول إن الشعب التركي يعيش حاليًا تحت تأثير الصدمة والذهول من تطورات الأحداث في قبرص؛ إذ لا يزال عاجزًا عن فهم ما يحصل وكيف تم التوصل إلى قرار بشأن القضية، وهم يتوقعون الأسوأ في أن يبدأ كل من زعيمي قبرص الشمالية التركية رؤوف دنكطاش والجنوبية اليونانية تاسوس بابادوبولوس بنقاش حاد على المفاوضات لإعاقة الحل.
القبارصة اليونانيون كانوا يتوقون شوقًا إلى بدء المفاوضات على أساس الخطة التي اقترحها كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، أما الأتراك فبينما كانوا يتململون ويتمتمون بضرورة تعديل الخطة انبرى رئيس وزرائهم أردوغان فجأة بعد زيارته لأمريكا للضغط على رؤوف دنكطاش من أجل دفعه للجلوس إلى مائدة الذئاب.
إذا أردنا تقييم خطة كوفي عنان باختصار فإنه يمكن تشبيهها بمرض الإيدز، بيد أنه عندما يبتلى الإنسان بهذا المرض فإن الموت يبقى مصيره عاجلًا أم اجلًا؛ إذ قد يتمكن الأطباء من تمديد فترة العلاج، لكنهم أبدًا لن يتمكنوا من إنقاذ حياة المريض من الموت المحتم الذي ينتظره.
خطة عنان تشبه مرض الإيدز، بل هي أخطر بكثير لأن هذه الخطة رغم أن علاجها قابل للتمديد، إلا أنها تحتم على الأطباء «الأطراف المعنية» قتل قبرص الشمالية التركية حتى واحد من مايو القادم لتبقى حجة الاستفتاء تزمع إجراؤه بلا معنى.
فسواء ربح القبارصة الأتراك الاستفتاء أو أن خطة عنان -التي تقوم أولًا وأخيرًا على منح قبرص لليونانيين- ستنفذ بحذافيرها.
لكن من جعل هذه الخطة شبيهة بمرض الأيدز؟ بالطبع هم اليهود لأنه كما بات معلومًا للجميع فإن الولايات المتحدة هي التي تتوق أكثر بكثير من اليونانيين إلى شل قدرات تركيا في قبرص الشمالية، وسحب يدها من هذه الأرض، بل إن الولايات المتحدة بعد اجتياح تركيا لقبرص في عام ١٩٧٤ حاولت جاهدة إبعاد الحكومة التي كان يشارك فيها نجم الدين أربكان الذي كان آنذاك زعيم حزب السلامة، ونائبًا لرئيس الوزراء؛ ليتسنى لها قطع اليد التركية من قبرص، لأنها كانت تؤمن بأن استبعاد أربكان من الحكومة والبرلمان سيدفع الأحزاب الأخرى إلى التهاون في المسألة القبرصية بالطريقة التي ترغبها.
ولكي تتخلص الولايات المتحدة من أربكان وحزبه مارست أشد أنواع الضغوط على حكومة بولنت أجاويد وسليمان ديميريل الائتلافية في يونيو عام ١٩٧٧ ودفعتهم إلى إجراء انتخابات مبكرة، وبسبب هذه الانتخابات انخفض عدد مقاعد حزب السلامة من (٤٨ إلى ٢٤) مقعدًا في البرلمان، ولكنها مع ذلك لم تتمكن من إخراج هذا الحزب الإسلامي من البرلمان، ولهذا السبب فقد سلطت أجاويد عليه لشن الحرب عليه.
ولماذا التهجم على حزب أربكان من أجل إستبعاد الجيش التركي من قبرص التركية لتأمين الأمن الإسرائيلي؟ فجزيرة قبرص تقع شرق فلسطين ونسبة لموقعها الإستراتيجي المهم فإنها تشكل خطرًا حقيقيًا على «إسرائيل» من الشرق.
وليس بمستغرب أن اليهود هم السبب الأساسي وراء المؤامرات حول قبرص الشمالية، وهذه ليست نظرية مؤامرة، بل حقيقة إستراتيجية واضحة للعيان، ولا سيما أن لفاعليات الإستراتيجية التي بدأنا نشهدها في الفترة الأخيرة في منطقتنا هي من صنع صهيوني وإن جاءت من خلف الستار الأمريكي.
ولا يخفى أن اليهود وظفوا الماسونيين في حملة للقضاء على حزب الرفاه الإسلامي، وقد اعترف الوزير الأسبق طلعت هالمان بشكل علني في ٣٠ أبريل ۱۹۹۷ بتأثير من الماسونية بضرورة إبعاد حزب الرفاه من المعترك السياسي.
اليهود لم يوفروا وقتًا أو جهدًا للقضاء على كل من يملك نظرة إسلامية في السياسة التركية، والنتيجة أنهم نجحوا في إبعاد حزب الرفاه من الخريطة السياسية، وهما الآن يدفعون حزب العدالة والتنمية لمتابعة السياسة على الخط الإسرائيلي.
في عام ١٩٩٤ حين كان عبد الله جول وزير الخارجية التركي الحالي عضوًا في حزب الرفاه قال: نحن اليوم أمام خيانة عظمى وفضيحة كبرى في المؤامرات المركبة حول قبرص، وهو الأمر الذي يؤكد أننا كنا على حق عندما قلنا إن تركيا منذ سنين طويلة محكومة ومدارة سياسيًا عبر التلفونات؛ مما أفقدها اعتبارها بشكل كامل على المحور الدولي، ينبغي على رئيس الوزراء أن يدفع الآن ثمن المكالمات السرية المناهضة للدولة التي يجريها مع القوى الخارجية والمساومات التي يقوم بها على حساب تركيا وشعبها مخطئ، هو إذا ظن أنه بالتهاون في مسألة قبرص وبالضغط على السيد رؤوف دنكطاش سوف يتمكن من تقديمها على طبق من ذهب إلى القوى الخارجية؛ إذ لا يمكن أن يتهاون هو أو يتخذ قرارات شخصية حول قبرص بأوامر أمريكية أوروبية بالنيابة عن البرلمان والأمة التركية، نحن نتابع إجراءات هذه الحكومة عن كثب فإذا حاولت أن تتخلى عن الأرض التي أخذناها بدماء شهدائنا في سبيل استرضاء ومغازلة بيل كلينتون أو غيره فإنها ستدفع الثمن غاليًا جدًا، فأين هذه الكلمات مما يحدث الآن؟
إقامة دائمة في قبرص:
المسؤولون الأمريكيون في لجنة الأمن القومي مازالوا يتبنون موقف عدم الثقة والأمان من الجانب التركي في قبرص لهذا فقد رأوا أن الطريق الوحيد لإذهاب مخاوفهم وضمان أمنهم يكون عن طريق الوجود العسكري المباشر في قبرص، وبذلك فإنهم سيحققون مصالح أكبر، ويحصلون على ضمانات أوفر لتقوية الشوكة الأمريكية سياسيًا وجيوإستراتيجيًا في البحر المتوسط.
بالنسبة لهؤلاء المسؤولين الأمريكيين، فإن واشنطن ترى في قبرص أهمية إستراتيجية خاصة؛ نظرًا لموقعها المميز في الشرق الأوسط، وقربها من منابع الطاقة وإفريقيا والقوقاز، وللأهمية الأمنية التي تحملها بالنسبة لمعابر الطاقة مثل خط باكو - جيهان.
في هذا المضمار يقول الكاتب الصحفي في جريدة زمان حسن أونال إن وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون ترغب بنقل قواتها الموجودة في قواعدها بأوروبا الغربية إلى قواعد في أوروبا الشرقية مثل بولندا وبلغاريا ورومانيا؛ نظرًا لتمتع هذه الدول بقوة تحرك أفضل بالنسبة لها، ولهذا السبب فإن واشنطن تواصل المباحثات مع تركيا من أجل استخدام قاعدة إنجرليك وربما قاعدة تركية أخرى إلى جانبها، والهدف من ذلك زيادة سرعة التدخل خصوصًا في القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وبمعنى آخر تأسيس حزام أمني أمريكي للرد المباشر والسريع على أي عمليات ضدها، ولهذا السبب بالذات فإن الولايات المتحدة تستعد لطلب قاعدة عسكرية في قبرص أملًا في أن تكون هي الدول الراعية لهذه الجزيرة، وبذلك فإنها ستكون قد نجحت في التمهيد لوضع أرضية سياسية لها من جهة مقابل ربحها دورًا قياديًا وكأنها تمتلك زمام الكلمة مثل بقية زعماء الجزيرة في أي خلافات قد تنشأ على طاولات المفاوضات.
نفهم من ذلك أن مسألة قبرص قد أنتهت بالفعل بالنسبة لتركيا مع زيارة أردوغان إلى أمريكا، وما الاجتماع الذي دعا إليه كوفي عنان في نيويورك إلا مجرد مناسبة لإعلان ما تم الاتفاق عليه من خلف الأبواب المغلقة.