العنوان قصة الأسبوع- ثرثرة عَلى المَاءُ
الكاتب الشيخ عبد العزيز عطايا
تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1978
مشاهدات 26
نشر في العدد 413
نشر في الصفحة 32
الثلاثاء 26-سبتمبر-1978
سيارته على جانب الطريق، تحت مصباح مضيء، أما هو فقد تركها ومشى على سجادة من الرمل الناعم النائم تحت قدميه، الممتد حتى ساحل البحر. ما أن بلغ الساحل حتى وقف هناك وحده يحدق في الماء رغم الظلام الذي غطاه، ثم رقى ببصره إلى النجوم المنتشرة في الفضاء.
آه.. أينها النجوم، أنت عيون الليل، وأنت سر من أسرار الكون. بل ومعجزة من معجزات الخالق العظيم، هل يفكر الإنسان في نفسه؟ هل يفكر فيما حوله؟ ينتهي التفكير إلى حقيقة واحدة هي سبحان الذي خلق.
راح يحدق في جوف الليل سارحًا سابحًا على جناحي الفكر والخيال، صاعدًا هابطًا فوق هضاب الليل، وبين صفحة السماء وسطح الماء، وكان يقرأ سطور کتاب يود لو حل رموزه، ولكن الرموز تزداد تعقيدًا.
ويمد بصره لعله يجد تفسيرًا سهلًا، أو تأويلًا مقبولًا، غير أنه يحس بحيرة، شد ما ألهب الليل شوقه إلى المعرفة! ويرتد البصر بلا شيء، يعود ويحدق في الماء، ويصغي إلى همهمة البحر وهمسه وموسيقاه، وتتضاعف الحيرة في نفسه، ما هو إلا إنسان محدود التفكير.
جلس متربعًا على الرمال، عقد ذراعيه فوق صدره، أرسل بصره إلى بعيد، أعطى أذنيه للحن البحر الخافت، بدأ كتلميذ صغير جالس أمام معلمه الكبير. إنها ساعة من ساعات الصفاء والارتقاء، تسمو فيها نفسه الظمآنة إلى نهر الثقافة الكونية. لا ينقذه من حيرته إلا أن يحرك لسانه ويسبح بحمد ربه؛ ليطمئن قلبه، ويقنع عقله بأنه جزء من الوجود الذي لا يفهمه بتفكيره المحدود، وأنه لفي تسبيحه وتأمله إذ أحس بأصابع تهز كتفه؛ فزع وفك ذراعيه، التفت ونهض بشيء من الخوف، رأى الشخص الذي اقتحم خلوته، وانتزعه من عالمه، عرفه؛ فقال:
- يعقوب، أجننت؟ أما كان ينبغي أن تنبهني بطريقة أحسن؟ بدلًا من هذا التسلل والتطفل.
ضحك يعقوب بملء فمه، انفجر ضاحكًا بعد أن صار مستحيلًا أن يخزن الضحك في نفسه مدة أطول؛ فقال له:
- يعقوب، أنت مجنون حقًا، بدأ يعقوب يقهقه بصوت كالرعد أخذ يضحك وفمه ووجهه وجسمه كله، اهتز جسمه الضخم كما يهتز البرميل الممتلئ عند مرور الريح.
رقصت بطنه أمامه مع ثدييه، مهرجان من الضحك والرقص؛ فقد كان يعقوب يضرب الأرض بقدميه وهو يكرر، ثم قال بعد ذلك:
- هذا ما توقعت يا صالح، أن أضحك هكذا حتى أرفس الهواء..
صدقني ما رأيت أعجب منك.
- أعجب مني.
- نعم، أقص عليك ما حدث.
رأيت سيارتك واقفة هناك على جانب الطريق؛ فأوقفت سيارتي خلفها ونزلت وجئت أبحث عنك حتى لمحتك جالسًا هنا، كان منظرك مثيرًا للضحك، أنت جالس حاضن نفسك، متربع محدق في البحر، لو كنت مكاني ما استطعت أن تمسك نفسك عن الضحك، ولكني أمسكت نفسي، ولما وضعت يدي على كتفك؛ لتنتبه لوجودي، قمت بطريقه فجرت الضحك رغم أنفي، ألست معذورًا؟
- بلي أنت معذور ومجنون.
ومشى فمشى معه يقول:
- أنا مجنون يا صالح، ومليون مجنون؛ لأني جئت.
ابتسم صالح أخيرًا وقال بلهجة غير حادة:
- كنت منسجمًا مع الجلسة الهادئة، قطعت حبل التفكير والتسبيح، على أي حال وجودك يجعلني أسألك لماذا خلقنا الله؟
قال يعقوب بلا تفكير:
- لنتمتع بهذه الحياة
- لا، لا، أنت تفكيرك يدل على أنك تحب الدنيا.
- وهل أنت تكرهها؟
- أنا أحب الدنيا من أجل أن أقدم فيها ما بنفسي في يوم القيامة، لا أحب الدنيا مثلك من أجل الدنيا ذاتها.
- دعني أحب الدنيا بمذهبي، ولا تجر.
سار صالح على مهل وقال:
- إلى أين كنت ذاهبًا؟
أشار بیده إشارة تاهت في الهواء لم تدل على أي اتجاه، ورفع ثوبه قليلًا واقترب أكثر من الماء؛ ليمشي فيه، وقال:
- كنت ألعب بالماء والرمل وأنا طفل، والآن العب بالمركب في البحر، وبالسيارة في البر.
- هل اشتريت مركبًا؟
- نعم، وكنت ذاهبًا إليها قبل أن ألقاك، وإنها قريبة منا الآن، نسير نحوها.
قال صالح مفكرًا:
- بصراحة أنا حزين؛ لأنك تركت التعليم إلى الوظيفة، اختصرت الطريق بعد المرحلة المتوسطة، وذلك؛ لأنك طمعت في المرتب والانطلاق إلى المتع.
مسح يعقوب بطنه بیده كأنه يقيس حجمها وقال:
- طول عمرك يا صالح فالح، هذا رأيك في نفسك، ورأيي أنا العكس، ما فائدة مواصلة التعليم؟ قل لي، الشهادة، الحياة عندي نقود تحصل عليها وننفقها، وقد توفر ذلك بدون متاعب التعليم.
- قال صالح وفي ذهنه مقارنة:
- كنا معا في المدرسة، وأنت الآن موظف في إدارة الكهرباء، وأنا في الشهر المقبل أضع قدمي على عتبة الجامعة.
اندفع يعقوب قائلًا:
- نهاية الجامعة.. ما هي؟
- قد لا تكون لها نهاية محددة؛ لأن الجامعة نفسها تفتح أبواب العلم، والمعرفة والتقدم.
- لا تريد أن تعترف أن نهايتها شهادة نقدمها للحصول على المال، وقد فعلتذلك من أقصر الطرق. تعال إلى المركب، قد وصلنا إليها.
وطبل على صدره فرحًا، وصعد قبله إلى المركب، ولما ركب صالح وجد نفسه داخل مركب جديد جميل حقًا. راح يتفرج ويتجول في كل مكان- منه. قال يعقوب:
كنت هنا أمس مع بعض الأصدقاء، أبحرنا إلى جزيرة فيلكا، ما أروع البحر في الليل يا صالح! أمس أكلنا وشربنا، واصطدنا أيضًا. عدنا مع الفجر ومع كمية ضخمة من السمك.
وأشعل مصباحًا معلقًا بعمود عند المؤخرة وقال:
- فيه قليل من الوقود. ظل هذا المصباح يعمل طوال الليل، سهرنا تحت نوره،
ظهرت معالم المركب واضحة تحت ضوء المصباح الضعيف، وشاهد صالح أجزاء المركب بصورة تدعو للإعجاب، ورأى قشور البرتقال وبقايا الطعام وأدوات الصيد محشورة في صندوق. انحنى يعقوب ودخل حجرة صغيرة واقعة أسفل الصدر، ورجع يحمل حبات من البرتقال والتفاح وضعها على أحد المقاعد الخشبية وأكرم ضيفة وصديقه القديم، قضم صالح تفاحة وقعد يحدق حوله.
دفع يعقوب فصوص برتقالة في فمه ثم قال:
- كنت في طريقي إلى المركب؛ لأنقل الأشياء إلى السيارة.
- بكم اشتريت هذا المركب؟
- بأكثر من ألف دينار، أتنوي شراء مركب مثله؟
بإذن الله، بعد التخرج من الجامعة، حين أجد الوقت وأجد المال.
واستطرد بعد لحظة تردد:
- ما رأيك يا يعقوب في أن تبحر وتجرب المركب؛ لأراه في البحر؟ إذالم يكن ذلك يضايقك.
- ما رأيك أنت في نزهة ليلية الآن؟.
- أتطلب رأيي؟ وهذا شيء أتمناه.
شرع يعقوب بخفة وقوة ورشاقة غريبة رغم جسمه الضخم، كأن الشحم واللحم يساعدان على تكوين الطاقة اللازمة للنشاط المطلوب. وإذا به ينزل إلى الصخور ويفك الحبل ويعود صاعدًا بسرعة مذهلة، ويقلع مدة قصيرة. وظل صالح جالسًا وقد ولاه ظهره، وأمسك يعقوب عجلة القيادة يوجهها بخبرة لا يستهان بها حتى خرج إلى عرض البحر. صادف خروجه مرور مركب؛ فصاح يحييه، وطرح رأسه إلى الوراء وراح يغني يفتح فمه ويغلق عينيه ويصرخ في الفضاء. ارتسمت ابتسامة على وجه صالح ولكنه لم يأخذ بصره من الماء وصاح يعقوب:
- ارمني بتفاحة أحشر بها فمي، ها هي يدي.
رماه بما أشار، وانصرف عنه.
البقية في العدد القادم
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل