الثلاثاء 24-أغسطس-1971
هي... هو...
ومن المسئول؟
بقلم: يوسف نصار
لم أستطع أن أتعرف عليها أو أميزها وهي تقترب مني. كانت تتقدم نحوي بخطوات الصديق الواثق من صديقه. وابتسامتها العريضة تغطي وجهها كله ومع كل خطوة تخطوها. كانت ضربات قلبي تزداد عنفًا. كنت أراجع نفسي وأغوص إلى أعماق ذاكرتي محاولًا أن أتذكر من هي، وأين قابلتها، ولكن كل الحقائق كانت تشير إلى أنني لا أعرفها على الإطلاق. لأنني لم أتشرف حتى الآن بمعرفة أي فتاة هنا معرفة شخصية. إذًا، من أین نزلت عليّ هذه المفاجأة؟ وماذا سيكون موقفي أمام زملائي وقد عرفوا من أكون؟ إذا لمحني أحدهم بصحبة هذه الفتاة التي بلغت بها الجرأة أن تندفع نحوي غير عابئة بمن حولها.. وبدون معرفة سابقة أيضًا.
لم تكد تقترب وتصبح على بعد خطوات قليلة مني حتى انعقد لساني دهشة وكدت أن أفقد صوابي لولا أن سارعت هي.. عفوًا.. هو باحتضاني ومعانقتي وهو يقول: أهلًا يوسف.. كنت أبحث عنك منذ مدة.. هل تذكرني أنني صديقك في الثانوية.
انتبهت من ذهولي، وأخذت أتفحصه بنظري من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه وهو واقف أمامي وقد أخدته الدهشة والعجب من فعلى هذا.. ثم أخيرًا قلت:
ما هذا الذي تفعله بنفسك؟
قال وهو يخفي نبرات الضيق من صوته: ماذا تقصد؟ استعدت قدرتي على الكلام والنقاش وقلت له بحزم: ما هذه الملابس التي ترتديها؟ لم أعهدك ترتدي مثل هذه الألوان الصارخة. وهذه السراويل الغريبة الشكل ثم ما هذا الشعر الطويل الذي غطى صدغيك ولامس كتفيك.. لقد ظننتك في بادئ الأمر فتاة.. إي والله فتاة.. فلماذا فعلت بنفسك هكذا؟!
قال محاولًا الدفاع عن نفسه: أما زلت تحمل الأفكار نفسها؟... ألم تغيرك السنوات التي أمضيتها في الجامعة في الخارج؟! الحياة تتقدم.. نحن في عصر الفضاء والذرة إننا نعيش في القرن العشرين... الأمريكان وصلوا إلى القمر... وأنت تلومني على ارتداء الملابس الحديثة أو إطالة شعري كباقي شباب العالم.
قلت ساخرًا: الأمريكان وصلوا إلى القمر.. أما انت فقد وصلت إلى درجة من الجهل أو التقدم سمة ما تريد بحيث أنك تتنصل من رجولتك وتمسخ نفسك وتتشبه بالأنثى وأعتقد أنك لن تصل إلى سطح القمر بل إلى قعر الهاوية.
قال: ولكن ما أفعله أنا هو تقليد لما يظهر في أوروبا وأمريكا.. البلاد المتقدمة المتحضرة.
قلت: نعم ولكن ليس هذا هو الذي أوصلهم إلى التقدم والحضارة بل إن ما تقلده أنت من «موضات» و«صرخات» مجنونة ما هي إلا أعراض المرض تظهر على مجتمعاتهم. وأنت وأمثالك تظنها علامات الصحة والعافية ولا تمانعون في تلويث مجتمعكم ونقل العدوى إليه...
قال: يا لك من قاسٍ، لم ألتقِ بك إلا قبل دقائق معدودات وقد كان فراقنا لسنين عدة. ولا تجد الآن سوى عتابي ولومي...
فأسرعت بالقول: لم أقصد أن أؤذيك يا صديقي ولكنني أعترف أن منظرك قد صدمني وعلى كل حالٍ هيا بنا نذهب إلى المقصف نتناول المرطبات.
سار بجانبي يحدثني عن سفره وما لاقاه فيه. وعن خططه لإكمال دراسته وأنا لا أفتأ أتفحصه من جديد وأعيد النظر إليه. كان المسكين يتعثر في ساقي «بنطلونه» الواسعة جدًّا في أسفل حتى ليكاد أن يقع في بعض الأحيان.
بينما شعر بضيق وحرج عندما حاول أن يجلس على مقعده في المقصف «فبنطلونه» الواسع جدًا في أسفل يضيق بشدة من أعلى حتى عجبت كيف يتسنى له ارتداء هذا «البنطلون» بهذا الضيق الشديد.
وتذكرت كيف تعالج ربات البيوت الوسائد والحشايا عندما يلبسنها أغطيتها الخارجية. وكنت أضحك من صورة صديقي التي تخيلتها وهو في مكان الوسادة. لولا أن قفز إلى ذهني سؤال كتم ضحكتي وجعلني أغرق في تفكير عميق حتى كدت أنسى صديقي الجالس أمامي يعبث بسلساله الذهبي المعلق في رقبته.
كان السؤال هو عن السبب في حالة الضياع والعبث الذي يعيشها هؤلاء الشباب..
هل هو البيت؟.. الذي شب فيه هذا الفتى عن الطوق وافتقد فيه الأب الراعي الصالح الذي لم تلهه تجارته أو نزواته وشهواته عن أبنائه والاهتمام بهم؟ والأم الحنون الرموم التي تكرس وقتها وجهدها لرعاية أبنائها ولا تنفق وقتها في الحديث التافه واللهاث وراء صرعات الموضة وأدوات الزينة ومستحضرات التجميل.
أم المدرسة التي عجزت عن أداء رسالتها. رغم توفر الإمكانات المادية وذلك لافتقارها إلى الأستاذ الفاضل المخلص لعقيدته ورسالته التربوية ولعدم صلاحية المنهاج التربوي العقيم الذي وضعته أيدي المبشرين.
وأم الشارع هو المسئول عن ذلك. بما يحوي من مثيرات ودوافع وإیحاءات نفسية مدمرة تلهب بسياطها ظهور الشباب وتدفعهم إلى هاوية السقوط. أم أن المسئول هو الدولة التي عجزت بسلطاتها الواسعة وقدراتها غير المحدودة عن حماية الشباب وتوفير الرعاية الفكرية والأخلاقية لهم إلى جانب ما يحظى به من رعاية مادية لا تتوفر في بلاد أخرى.
هل فشلت في أن ترشد الشباب إلى الطريق القويم؟ وربطه بتراثه وعقيدته وذلك لاعتمادها خطط وبرامج غير سليمة لا تقوم على أسس من العقيدة والأخلاق بالإضافة إلى عدم إخلاص المنفذين أو جهلهم التام بأبسط مبادئ الإسلام وتصوراته.
ولا شك أن تعلق شبابنا بهذه الصرعات الجنونية وبكل ما تفرزه أوروبا ومجتمعاتها المضعضعة المنهارة. وسريانها بينهم سريان النار في الهشيم. له دلالات عميقة وخطيرة.
ولعل أخطر ما في الموضوع أن شبابنا ينظرون إلى كل ما يفد علينا من الغرب نظرة احترام وتقديس. نظرة الضعيف المتخلف إلى ما يمنحه القوي المتحضر وقد علقت في الأذهان فكرة أنه لا بد من الأخذ بكل ما يصدره الغرب ومجتمعاته إلينا من قيم حتى نصل إلى ما وصل إليه من تقدم ورقي وحضارة. حتى ولو كانت أعراض مرض وبداية سقوط وانهيار.
وحتى نستطيع أن ننقذ أبناءنا من التشرد والضياع والركوع أمام الموجات القادمة في الغرب يجب علينا أن نحسن التخطيط السليم القائم على أسس سليمة من العقيدة وعلى جميع المؤسسات الاجتماعية أن تنفذ هذا المخطط. في المدرسة وفي البيت وفي النادي. وفي الصحيفة وفي الشارع وفي التلفزيون. حتى نهدم التصورات المريضة في عقول الشباب ولا يتم ذلك قبل أن تقدم لهم البديل الحقيقي عما ينشدونه في تطلعهم إلى الغرب. ولقد جربنا كل شيء.. كل دعوة وفكرة. أو عقيدة أو مبدأ فلم تزد الحالة إلا سوءًا ولم نجنِ إلا مزيدًا من الانحراف. ولكن شيئًا واحدًا لم نجربه وفيه الدواء لجميع أمراضنا وفيه الحلول لكل ما نعاني من مشاكل...
لم يبقَ لهذه الأمة في الإسلام. تنقذ به نفسها من الانهيار والسقوط.
یوسف نصار
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل