; قصة العدد: خيمة على الطريق | مجلة المجتمع

العنوان قصة العدد: خيمة على الطريق

الكاتب الأستاذ دواد سلمان العبيدي

تاريخ النشر الثلاثاء 09-مارس-1971

مشاهدات 55

نشر في العدد 50

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 09-مارس-1971

انطلق بغنمه قبل طلوع الشمس، يبحث عن الماء والكلأ، كانت سنة شهباء انقطع فيها المطر، وقلّ فيها العشب والزرع، حتى أشفق أبو معبد على إحدى الشياه، وكانت هزيلة عزباء لم تقو على المضي معه فتركها في كسر الخيمة، وذهب يسوق أمامه أعنزًا عجافًا يتساوكن هزالًا!! كان قصير القامة، قد لفحت الشمس وجهه! وكان في أثناء سيره وبحثه عن الماء والعشب لغنمه، يفكر في أمر عظيم.. أمر شغل الدنيا وهزها.. وصار حديث الناس في كل مكان، فقد ظهر في مكة رجل دعا إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان.. وأمرهم بتقوى الله.. وقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم.. فإذا آمنتم كنتم ملوكًا في الجنة.

كان النسيم البارد الذي يهب على وجهه ينشط تفكيره، ويجعله يتصور المعركة الدائرة في مكة بين القلة المؤمنة الصابرة المحتسبة، وبين الكثرة الكافرة التي يقودها أبو جهل للقضاء على الإسلام.. وكان البساط الكبير الواسع الذي يمتد أمامه خاليًا من العشب، إلا جوانب منه نبتت فيها بعض الأعشاب على غفلة من حر الشمس، ثم لم تلبث أن احترقت في مكانها قبل أن تسعفها الغيوم بقطرات من المطر، وانتشرت الأعنز تأكل ما تهيأ لها من رزق، وجلس أبو معبد في ظل صخرة كبيرة يفكر في الأمر العظيم..

إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجروا إلى الحبشة، فروا بدينهم.. لعلهم يجدون أرضًا أخصب من أرضهم، أرضًا تصلح للدعوة والعمل للإسلام. وهاجر عدد منهم بعد ذلك إلى يثرب.. وبقي النبي الله عليه وسلم مكة حتى خرج آخر رجل استطاع أن يخرج.. ثم هاجر النبي مع صاحبه أبي بكر.. ولكن أين هو الآن؟.. إن الأخبار التي وصلت إلى أبي معبد تؤكد على أن قريشًا جادة في طلبه، وقد أرسلت عيونها وأرصادها إلى كل مكان.. وخفق قلب أبي معبد، إنه يود أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ويرغب في الاجتماع به والاستماع إليه..

إن كل يوم يمر، كل خبر يسمعه، يزيده شوقًا ورغبة ولهفة.. وحبًا للنبي الكريم.

 ولم ينتظر أبو معبد حتى تغيب الشمس بل أسرع عند الأصيل بالعودة إلى خيمته، لعله يلتقي بأحد يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ودهش الرجل عندما شاهد الغنم تسرع نشطة كأنها تفوقه رغبة وحبًا في العودة إلى مكانها. ومن بعيد... رأى أم معبد الخزاعية تقف أمام الخيمة، متهللة فرحة، فخفق قلبه، ولما وصل دخل خيمته، فرأی الإناء مملوءا لبنًا ورأى الشاة اليابسة الهزيلة قد نشطت ودبت فيها الحياة.

 فالتفت إلى زوجته، وأشار بيده وقال:

من أين لك هذا اللبن؟ -

فاتسعت الابتسامة التي طوقت شفتيها، وقالت وقد غمرتها فرحة عجيبة:

- لقد مر بنا رجل مبارك.

وأسرعت تتناول الإناء، ثم مدت يدها إليه وقالت:

اشرب. -

فعاد أبو معبد إلى سؤاله:

- من أين لك هذا اللبن.. والشاة عازب ولا حلوبة في البيت؟

- مرّ بنا رجل مبارك.. أبلج الوجه حسن الخلق.. ظاهر الوضاءة.

فنسى أبو معبد الغنم التي وقفت على بعد قريب خارج الخيمة، وأخذت تتطلع إلى الزوجين كأنها تستمع إلى الحديث العجيب الذي ترويه أم معبد الخزاعية.

وتناول إناء اللبن من يدها وقال:

- تكلّمي..

- لم أر مثله في حياتي.

واقتربت عنزة صغيرة جميلة، وتطلعت بعينيها إلى الشاة المحظوظة..

- كان قسيمًا وسيمًا في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل...

- هل كان وحده؟

ومضت أم معبد تتحدث بطريقتها العجيبة الساحرة:

- كان ثالث ثلاثة.. أنظرهم منظرًا، وأحسنهم قدرًا. رفقاؤه يحفون به.

إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره..

محفود.. محشود.. لا عابس ولا مفند.

وخفق قلب أبي معبد، وتريثت الشمس كأنها تود أن لا تفوتها كلمة، وبقي الأفق فاتحًا ذراعيه يريد احتضان الشمس..

                                                 واقتربت الأعنز أكثر..

ولم يصبر أبو معبد فقال:

- هل سألوك شيئًا؟

- سألوني إن كان عندي شيء... فقلت: والله لو كان عندي شيء ما أعوزكم القرى..

فقاطعها أبو معبد محتجًا:

- والشاة؟!

فواصلت كلامها كأنها لم تسمع اعتراضه:

- والشاة عازب. فنظر الرجل إلى الشاة في كسر الخيمة وقال:

- ما هذه الشاة يا أم معبد؟

قلت:

- شاة خلفها الجهد عن الغنم.

فقال:

- أتأذنين لي أن أحلبها؟

قلت:

- نعم... بأبي أنت وأمي.. إن رأيت بها حلبًا فأحلبها.

وحركت نسمة من الهواء الطرف السائب من الخيمة، واستمرت الشاة تصغي كأنها تفهم كل كلمة.. ونزلت الشمس قليلاً، ولكنها لم ترد أن ترمي بنفسها في أحضان الأفق إلا بعد أن تنتهي أم معبد من حديثها العجيب.

- هيه.. أم معبد.. تكلمي

- هل تعرفه؟

- ربما يكون هو.

- من هو؟

- أتمي حديثك أولًا...

ومضت أم معبد في حديثها الشيق وقالت بأسلوب فاتن:

- فأقبل الرجل على الشاة، ومسح بيده على ضرعها، وسمى الله تعالى، ودعا.. وأنا أنظر إليه.. وأسمع كلامه المنظوم.

أتدري.. إنه أكحل.. أزج، أقرن، شديد سواد الشعر.

ورفع إناء اللبن، وقد استبد به الشوق لمعرفة المزيد:

- وماذا بعد؟

- فامتلأ ضرعها، وتفاجت عليه ودرت.

ومأمأت الشاة كأنها تؤيد كل كلمة.. بينما مضت أم معبد تروي لزوجها الذي هزه حديثها واستبدت به الرغبة لمعرفة المزيد:

- ثم دعا الإناء، فحلب فيه، وملأه، حتى علته الرغوة..

وسقاني حتى رويت..

                                     ودمعت عينا أبو معبد وهو يسألها:

- هو حلب.. بيده.. وسقاكِ؟

ومضت أم معبد تتحدث في نشوة وسعادة غامرة:

- نعم.. وسقاني حتى رويت..

وسقى أصحابه حتى رووا..

ثم شرب.

- وهذا اللبن.. أنت حلبته؟

وأشار إلى اللبن الذي بيده.. فهزت أم معبد رأسها:

- هو حلبه.. بيده.. حلب مرة ثانية، حتى ملأ الإناء، ثم تركه عندي وارتحل.. وملأت ابتسامة حلوة وجهها، وتورد وجه الشمس وهي تنحدر نحو الأفق..

وقالت أم معبد بصوت خفيض ساحر وهي تنظر إلى الناحية التي ذهب فيها:

- لم أر مثله في حياتي.

واهتز أبو معبد طربًا، وهتف مأخوذًا:

- صفيه لي.

- أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمني يتحدرن. إذا صمت علاه الوقار.. وإن تكلم علاه البهاء.

- وطوله.. هيئته؟

- إنه رَبعَة.. لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، أنظر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا.

فهتف أبو معبد فرحًا:

- هذا والله صاحب قريش..

- محمد؟!!

- إنه هو.. ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا

واحتضن الأفق الشمس بعد أن استوعبت كلام أم معبد ورفع أبو معبد الإناء يتلذذ بشرب اللبن الذي حلبه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. وفُتحت صفحة جديدة في سجل الوجود، وأطلت على الدنيا رسالة الإسلام، الرسالة الخالدة.. وفي المدينة خرج الأنصار والمهاجرون يستقبلون النبي الكريم ويحتفلون بقدومه صلى الله عليه وسلم.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 3

90

الثلاثاء 31-مارس-1970

سراقة بن مالك رضي الله عنه

نشر في العدد 48

53

الثلاثاء 23-فبراير-1971

تاريخ لا يُنسى