العنوان قصة العدد - دعوة وصلت متأخرة.
الكاتب مبارك المطوع
تاريخ النشر الثلاثاء 06-سبتمبر-1977
مشاهدات 21
نشر في العدد 366
نشر في الصفحة 46
الثلاثاء 06-سبتمبر-1977
قصة العدد
بقلم: مبارك المطوع
دعوة وصلت متأخرة
بعد أن أخذت مكاني بالقرب من صديقي الذي أصيب بحادث ونقل إلى مستشفى الصباح أحسست بدفء يفيض من عيني وينسكب على خدي لقد دمعت عيناي مرغمتين. ولقد حاولت أن أمنع النشيج ولكنه غلبني وسمعني صديقي فتوقف عن الأنين الذي كان يملأ الغرفة والتفت عليّ فارتسمت على شفتيه بسمة نطقت بالألم والفرح معًا.
ولكنه تكلم وحمدت الله لذلك.
قال أنت.. أنت لكني لم أفهم؟
قال: أنت الذي تتلو قول الله ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ (الإسراء:37) أنت الذي طلبت مني الاستقامة والتأني في الأمور وأنا الذي لم أسمع ولم أعتبر وفررت منك بسيارتي مسرعًا حتى لا تكثر من كلامك.
كلامك الذي أتمنى الآن أن أسمعك حتى لا تكاد تسكت، كنت يومها أقول في نفسي كيف لا أمشي في الأرض مرحا، ليس سوى المرح على هذه الأرض، فما كانت تنتهي الأفكار بي حتى وجدت نفسي في حفرة مظلمة بعد جو مثير مغبر عاصف وطعنات والآلام تتابعت فاعتقدت أن عذاب القبر الذي طالما حدثتني عنه قد حاق بي.
نعم مطارق الحديد. ولدغات الثعابين التي كنت تروي الأحاديث عنها.. كل هذه الآلام كما كنت تصورها عشتها في لحظات متلاحقة لحظة بلحظة.
وليتني غبت عن الوعي ليتني لم أشهد الوقائع.. لا فإن شيئَا من هذا لم يحدث.. لم يحدث لي كما حدث في بقية الحوادث فقد بقيت طوال الوقت يقظًا أحس بوخز الألم وكل قطرة تنزف من جسدي.
وفي الطريق إلى المستشفى.. أريد أن أحكي لك.
هنا قاطعته لأوقف سيل كلامه الذي تدفق فجأة ولو تركته لما سكت وأجهد نفسه.
قلت: هوّن عليك فأنت جريح وجسمك ينزف.. فلا تجهد نفسك بالحديث..
فما كدت أنهي كلماتي حتى رد محتدًّا وكأني أخطأت في حقه وقد استجمع كل ما بقي له من قوة ورفع صوته ليقول لا.. لا يا أخي اتركني أكمل فقد عشت دقائق هي أطول من أيام حياتي كلها وأكبر من السنوات التي عشتها.. عرفت فيها أشياء لم أكن أعرفها من قبل.. وتمتعت بلحظات كانت أسعد اللحظات في عمري.
فلما رأني متعجبًا أتمتم بكلمات التعجب والاستغراب لما قال عن الإحساس بالسعادة وهو على فراش الموت جريحًا ينزف. فلم يتركني في حيرتي كثيرًا واستمر يقول:
نعم سعيد والآلام تنهش جسمي من كل جهة.. ولكني سعيد كأشد ما تكون السعادة.. أتدري لماذا؟؟ لأنني أحسست وقتها أنني قريب من الله وقريب جدًّا، لقد تمنيت لو أراه في تلك اللحظات وأنا أعلم أنه يراني.. وما زلت سعيدًا بقربه وهو يراني.
في تلك الثواني المعدودة وأنا أدافع الموت لم أفكر في أحد ولم أجد أحدًا يمكن التفكير به واللجوء إليه سوى الله.. في تلك الثواني يا أخي آمنت إيمانًا لو عشت عشرات السنين أجمع جزئياته لما حققت نصفه.
أقول لك إني لجأت إليه اتصلت به وأنا الآن بين يديه أرجو رحمته.
تمر عليّ لحظات أنسى كل آلامي وجروحي ولا أكاد أتذكر شيئا أو أشعر بشيء سوى القرب من الله والاتصال به.. فأعيش دقائق حالمة لا تصدق مقدار اللذة فيها، إنها قمة اللذة والنشوة. أحسست أني أطلت البقاء وأجهدت صاحبي، فلما هممت بالخروج استوقفني يكمل حديثه وتشبث بطرف ملابسي.. وقال: لا تخرج قبل أن أقول كل شيء إنها فرصة الاعتراف وأنت الذي كنت تدعونا للخير دائما ونصدك ونهرب منك. فلا تهرب أنت مني فقلت له أريد أن أطمئنه: ستشفى إن شاء الله وستكون من خير الدعاة بإذن الله فأنا أعرفك وستروي لنا كل شيء.
وكأن كلامي لم يعجبه فقال:-
أقول لك إني قريب من الله فتذكرني بدنياكم المرة، إنما أردت أن أقول لك كيف استعرضت شريط حياتي طوال الطريق وميزت الصواب من الخطأ.. وفي الطريق تحققت التوبة النصوح التي لو سخرت لها عرض حياتي وطولها لما تحققت بعيدًا عن الله.. وتمنيت وقتها أن لو استجبت لدعوتك في كل مرة.
هنا أحسست بحاجتنا إليه بإيمانه الجديد وموهبته وذكائه المعروف فقلت ستحقق كل أمانيك بإذن الله.. ولكن عليك أن تخلد إلى الراحة..
كلمة قالها.. وكنت أتمنى سماع المزيد وأنا أعلم أن لديه مخزونًا لا ينضب من الأفكار والعبر، ولكن خشيت أن أشق عليه وقد استعجمت الكلمات في فمه وتخرج منه ثقيلة يدفعها بكل قواه.
كم كنت أحبه وأتمنى أن يشاركنا، لقد تزاحمت الأفكار في ذهني وأنا أقطع ممرات المستشفى وأخفي دمعاتي الشاردة من مرأى الناس وأرسم لصاحبي مكانه معنا وطريق الصحبة الجديدة وفي المنزل كنت أتخيله في كل لحظة وأردد كلماته.. وعیناي قد رفضتا الراحة والنوم وقد جادت بكل ما تدخر من دمع.. وشاركتني السهر والدعاء في صلاتي.
وكنت أعد ساعات الليل الثقيلة لأعود لزيارة صاحبي صباحًا فلم أحتمل انتظار الصباح واتجهت إلى المستشفى قبل الفجر..
دخلت الغرفة وتجمدت في مكاني لولا أن حركني الفرّاش فسألته مذهولا أين المريض وأنا أركز نظراتي إليه أنتظر الإجابة وأخشى هولها، فأجاب الرجل وهو ينطلق نحو الباب -أخذه أهله- فلم أدر بم أفسر هذه الإجابة هل يمكن أن يشفى بهذه السرعة، وبينما كنت أبحث عن تفسير اختفى الرجل ولم أره بل إنني لم أعد أرى أمامي إلا صورة صاحبي..
وانطلقت بسيارتي نحو بيته وهناك لم أجد مكانًا لسيارتي قرب البيت ووقفت وراء آخر سيارة من السيارات المتجمعة.. فما تحركت ولم أعد أقوى على الحركة بعد أن أدركت ما حدث وشاركت الكون من حولي في هدوئه لولا صيحات وبكاء نساء يتعالى وينبعث من إحدى الغرف في البيت الحزين..
فما أخرج الكون من صمته والناس من وطأة الحزن وقطع على النساء بكاءهن إلا صوت الأذان يرتفع فيملأ أرجاء المكان.
الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله..
وهو يضيف إلى الجو من حولنا ما كان ينقصه والمعنى الذي تحتاج إليه ويؤكد أن كل شيء إلى زوال وأن ليس لنا من الدنيا إلا أعمالنا..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل