; قصة الإخوان المسلمين في السودان | مجلة المجتمع

العنوان قصة الإخوان المسلمين في السودان

الكاتب شعبان عبد الرحمن

تاريخ النشر الاثنين 01-فبراير-1999

مشاهدات 8

نشر في العدد 1335

نشر في الصفحة 38

الاثنين 01-فبراير-1999

  • حملت الدعوة مع أربعة من الطلاب وسبقتنا محاولات فردية وبعثات إخوانية أرسلها البنا لإيقاظ الشعور العام 

  • عايشت بدايات انقلاب عبد الناصر على الإخوان.. وخبأت أربعة من قيادات الطلبة في شقتي أربعة أشهر

  • علاقتي بالإخوان بدأت في الأربعينيات وجذبني في حسن البنا بساطته وربانيته يحدثك وكأنك صرت جزءًا منه

  • عرفت سيد قطب وأنا طالب في مدرسة حلوان من خلال لقاء الجمعة. 

كيف دخلت دعوة الإخوان المسلمين إلى السودان؟ وكيف انتشرت بسرعة البرق من الخرطوم إلى الأطراف المترامية لذلك القطر الشقيق؟ وما دور البعثات التي أرسلها الإمام البنا في إعداد الجماهير لتقبل هذه الدعوة؟ 

وكيف تعاملت دعوة الإخوان مع الحكومات السودانية المتعاقبة منذ عهد عبود باشا .. حتى نظام الإنقاذ؟

وما قصة الصدام الذي خاضه نميري مع الإخوان وكيف عاشوا في سجونه وما دورهم في الإطاحة به وما قصة الجبهة القومية الإسلامية؟ وما الأفكار والقناعات التي حملها الدكتور حسن الترابي عقب عودته حاملاً رسالة الدكتوراه من باريس، والتي حاول بها فض جماعة الإخوان وإقامة الجبهة القومية على أنقاضها؟ وماذا حدث من خلافات وإقالات في هذا الصدد؟

وكيف واصلت دعوة الإخوان نشاطها بعد تشكيل الجبهة القومية وكيف تتعامل الآن مع نظام حكم الرئيس عمر البشير وما تصوراتهم للحكم والحرب الدائرة في الجنوب والحصار الدولي المفروض على البلاد؟ وماذا لو انفصل جنوب السودان؟

هذه التساؤلات وضعتها أمام الأستاذ الصادق عبد الله عبد الماجد - المراقب العام للإخوان المسلمين في السودان -،  ونحن نجري معه هذا الحوار الطويل عن القصة الكاملة للإخوان المسلمين في السودان، والذي ننشره على حلقات بدءًا من هذا العدد.

علاقتك بحركة الإخوان .. كيف بدأت؟

ارتباطي بحركة الإخوان المسلمين يرجع إلى المرحلة التي كنت أتلقى فيها العلم والتعليم في مصر في المرحلة الثانوية ثم في كلية الحقوق، وكان تعلقي مزدوجًا بين شخصيتين أحسبهما – والعلم عند الله – دعامتين قامت عليهما هذه الدعوة المباركة وهما شخصية الإمام الشهيد حسن البناء والشهيد سيد قطب.

 خلال هذه المرحلة تواصلت كل الخيوط والمسافات التي تربطني بدعوة الإخوان حتى اقتنعت بها، وبايعت عليها في الأربعينيات وأحسب أن الله سبحانه يسر لي هذا الأمر من خلال صلتي المتواصلة بالمركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة (إحدى ضواحي وسط القاهرة) وبالطلاب الإخوان الذين كانوا على مستوى علمي ودعوي يمكن للإنسان أن يأخذ منه ما يعينه.. وقد استفدت كثيرًا من الأساتذة الذين استمعت إليهم والتقيتهم في المركز العام للإخوان... وذلك ما أعانني على معرفة بداية الطريق... وهذا أهم ما في الأمر... والحمد لله حملنا هذه الدعوة لأن هذا واجب، فالإنسان إذا عرف أمرًا فيه خير لا يتوقف به عند حدود نفسه وإلا أصبح أقرب للأنانية منه للإنسان العادي، فكان لا بد لنا - مما عرفناه على يد الإخوان - وفي الإطار الذي ذكرته من حمل هذه الحقيقة والانتقال بها إلى السودان.

هل التقيت الإمام الشهيد البنا؟

نعم... التقيته واستمعت إليه في المركز العام، وفي مناسبات عدة، وفي إحدى المرات كان هناك وقد سوداني سياسي في طريقه إلى هيئة الأمم، وذهب إلى المركز العام الزيارة الإمام البناء وكنت مع هذا الوفد خلال الزيارة، واستمعت إلى البناء واستمع إلي، وكان اللقاء في قاعة في وزارة الأشغال المصرية.

هل كان هذا أول لقاء؟ 

لا... أول لقاء كان في مدينة حلوان عام ١٩٤٢م وكنت يومها طالبًا بكلية الحقوق، وكانت المناسبة افتتاح شعبة للإخوان المسلمين في منطقة تسمى «العزبة» تابعة لحلوان (جنوب القاهرة) وجاءتني دعوة لحضور هذا الاحتفال من صديق اسمه محمود الشربيني - لعله الآن على قيد الحياة -  وكان عنده أمل في أن التحق بالإخوان كان الاحتفال في الصباح في قاعة سينما حلوان، وتحدث البنا خلاله حديثًا شائقًا وبعد الانتهاء سأل: هل من سؤال؟! ولم يكن لدي أسئلة، ولكنني أحببت أن أعبر عن إحساسي فقلت له كم كنا نتمنى أن تسمع هذا الكلام الطيب في بلد قريب من مصر، وهو السودان وحبذا لو زرتنا ...

لم يعلق الإمام البنا على كلامي، لكنه بعد انتهاء المحاضرة حياني وعددًا من الشباب السودانيين، ثم اقترب مني ووضع يده على كتفي بأسلوبه المعروف، وقال أبياتًا من الشعر لا أذكرها ولكن معناها لو كنت طليقًا انتقل في بلادي كيفما شئت لما ترددت في أن أزور هذا البلد ففهمت وفي مساء هذا اليوم تم افتتاح الشعبة، وكان هناك حشد كبير، وكنت أكتب الشعر، وألقيت قصيدة بهذه المناسبة.. أقول في مطلعها:

دين من الله يهوانا ونهواه

 

وينصر الله من يرعى ثناياه

الله أكبر مازلنا نرددها

 

رغم الطغاة ومن يكفر هديناه

ومن يومها انطلقت وأحسست أنني ارتبطت بالإخوان . 

ما الذي تذكره من معالم في شخصية الإمام البنا أثرت فيك؟

الإمام البنا رجل بسيط للغاية في شخصية قوية، يحدثك وهو جالس معك كما يحدثك على المنبر... سيان، تستمع إليه وتحس بأن هذه الكلمات صادرة عن قلب مؤمن عندما تستمع إليه لأول مرة لابد من أن تنجذب إليه، ولديه أسلوبه الخاص في التعامل مع الشباب، لا يحاول أن يخاطب الرجل الكبير كما يخاطب الشاب الصغير، لعله يحاول جاهدًا أن يرى فيه بارقة أمل في أن يضمه لهذه الدعوة هو رجل قرآني بكل معاني هذه الكلمة، يحدثك وكأنك صرت جزءًا من شخصيته. 

كيف كان وقع استشهاد الإمام البنا عليك؟

كان الخبر مؤلمًا بالطبع لكن الأسوأ منه الكذب الذي حملته الصحف يومها عن نبأ استشهاد الإمام ومن بين العناوين الكبيرة التي نشرت يومها «أحد الإخوان المسلمين يغتال حسن البنا» وفي اليوم التالي وحسب بيانات بوزارة الداخلية «سفرجي متهم باغتيال البنا وقد وجدت بطاقته في مكان الحادث» قلت: كان الخبر مؤلمًا ومدمرًا فقد انعقدت الآمال عليه، وكان آخر عهدي به ذلك الموكب من الشباب المجاهدين الذين ذهبوا إلى فلسطين عام ١٩٤٨م والذين انتظموا في مظاهرة في القاهرة ضد احتلال فلسطين وكان البنا يقودها بنفسه وامتد موكبها من الأزهر حاملة رايات وشعارات بطريقة منتظمة وهادئة، بينما الإمام البنا يركب في مقدمة شاحنة لوري مكشوفة، وكنا نمشي في هدوء والشارع مكتظ بالجماهير حتى توقفت الحركة تمامًا ابتداء من الأزهر ومرورًا بالعقبة والأوبرا القديمة وميدان إبراهيم باشا، حتى وصلنا إلى المسجد، حيث خطب الإمام البنا خطبة كانت خطبة الوداع بالنسبة لهؤلاء الذين غادروا إلى فلسطين كانوا آخر فوج يودعه البنا – وبعد فترة بسيطة إذ بنا نسمع باستشهاد الإمام البنا في شارع الملكة نازلي (رمسيس حاليًا بوسط القاهرة) عند جمعية الشبان المسلمين في مؤامرة لا تستطيع أن نصفها بوصف غير أنها مؤامرة دنيئة ومجرمة استهدفت رجلاً وأمة في حد ذاتها 

وبعد الإمام البنا هل بقيت في القاهرة؟ 

مكثت حوالي ٣ - ٤ سنوات، وقد عاشت مصر وقتها في حالة من الهدوء المؤقت، لأن معظم الإخوان كانوا في السجون، وقد كان هذا الهدوء... هدوءًا مشوبًا بالحذر.. ثم خرج الإخوان من السجون، وفي عام ١٩٥٢م وقع انقلاب عبد الناصر وصاحبته مظاهرات التأييد، وكنت أشاهد هذه المظاهرات كمتفرج وكنت حاضرًا هذه المظاهرات لأنها حدث جديد على مصر.. انقلاب على الملك.. وقد قام الإخوان بحراسة الثورة، كما أن منهم من كان مشاركًا في هذا الانقلاب مثل أبو المكارم عبد الحي، وعبد المنعم عبد الرؤوف لكن الانقلاب انقلب عليهم!

في تلك الآونة كنت أسكن في شقة قريبة من بيت الرئيس الراحل أنور السادات على النيل بالجيزة، وكان يعيش معي فيها أربعة من الإخوة لا أنساهم هم: د. عصام الشربيني، وعصام عز الدين إبراهيم، ومحيي الدين عطية، وعلي رياض من قيادات العمل الطلابي في ذلك الوقت، وكانوا وقتها مطاردين من الأمن، وظلوا معي بالشقة أربعة أشهر لا يستطيعون الخروج إلا ليلاً، في الحادية عشرة كانوا يخرجون إلى النيل ويأتي إليهم آباؤهم وأبناؤهم سرًا.. وكان من الصعب عليهم التقاء القيادة، لكنني قمت مرة بدور هذا الاتصال فقد أرسلوني مرة إلى الأخ عبد القادر عودة رحمه الله للتبليغ منه وإليه.

 وفي يوم من الأيام قال لي علي رياض: إننا ذاهبون إلى المركز العام فلا تأت معنا، لكنني ذهبت دون أن أعلمهم ومشيت بهدوء بجوار المركز العام، إلا أنني فوجئت بإخوة من الجماعة يقفون على سور المركز، وكان عاليًا وألمحوني هناك وسألني أحدهم ما الذي جاء بك إلى هنا فسكت!... لقد كان هناك اجتماع مهم داخل المركز، باب المركز مغلق، وهؤلاء الإخوان فوق السور وأعلى السطح.. وبعد عودتي سألت إخواني الأربعة: ماذا يحدث؟ فأخبروني أن هناك فتنة أوقعها عبد الناصر في صفوف الإخوان لمحاولة شقهم... وكانت تلك بداية الانقلاب من عبد الناصر على الإخوان.. بل وبداية اللعبة... وهذه إحدى الصور التي لا تغيب عن الذاكرة.

 بعدها بدأت محنة الإخوان على يد عبد الناصر عام ١٩٥٤م، والمؤلم والمؤسف أنني قررت العودة إلى السودان في ذلك الوقت في شهر نوفمبر عام ١٩٥٤م فكان لابد من أن أخطر إخواني الأربعة بذلك، لأن الشقة كانت مؤجرة وقبل أن أحدثهم في هذا الأمر، أجرت مع أحد الإخوة شقة جديدة لم يكن بها إضاءة ونقلتهم إليها وعندما ذهبت لوداعهم وجدتهم منكبين على كتاب يقرؤونه تحت إضاءة ضعيفة وطلبوا مني أن أنتظر قليلاً، فانتظرت (عز الدين، وعصام، وعلي رياض، ومحيي الدين عطية) فقدموا لي مصحفًا هدية وعليه إهداء يقولون فيه: «أخانا صادق إليك نهدي هذا الكتاب الكريم ذكرى فكرة أظلتنا معًا، وأيامًا أويتنا فيها، وابتلاء هو بعض ما يصيب أصحاب الدعوات، ودعاء وعهدًا، أن نظل على الحق قائمين ودعاء أن يحشرنا الله يوم القيامة مع الشهداء والصالحين».

إخوانك فلان وفلان..

وغادرت إلى القطار الذي يقلني إلى أسوان ومن هناك إلى السودان، وبعد أيام قرأت في الصحف المصرية وأنا في السودان أن مجموعة من المباحث داهمت الشقة بحثًا عن آخرين فوجدوا هؤلاء الإخوة الأربعة الذين سيماهم على وجوههم من أثر السجود فسألوهم هل معكم فلان وفلان؟ فردوا عليهم أبدًا... فسألوهم فمن أنتم إذن؟ واكتشفت الأوراق في لحظتها وأخذوا جميعًا ومنهم من حوكم ومنهم من أطلق سراحه، وتلك كانت قصة هؤلاء الإخوة بعد أحداث ١٩٥٤م، ثم وقعت الفتنة بعد ذلك وبدأت الاعتقالات صورة لا يعلم بها إلا الله سبحانه وتعالى.

 لقد غادرت إلى السودان وهم غادروا إلى اليمن وتوالت الأحداث فيما بعد.

قبل المغادرة إلى السودان نريد معرفة أبعاد علاقتك بالشهيد سيد قطب؟

عرفته – رحمه الله – عندما كنت في مصر، وأنا في مدرسة حلوان، وكان يسكن قريبًا من المدرسة، وفي أحد الأيام اتصلت بسالم عزام، وهو من سكان حلوان، «والآن هو موجود في لندن»، وابن أخته كان زميلنا في المدرسة، وقلنا له نريد أن نرى سيد قطب، فكلمه وزرناه في بيته مرة، وتمت المعرفة، وانقطعنا فترة، وفي يوم من الأيام أرسل سالم عزام لي طالبًا تشكيل مجموعة لعقد لقاء أسبوعي كل جمعة من الساعة العاشرة صباحًا وحتى صلاة الجمعة، وتوقف هذا اللقاء في فترة الامتحانات، ثم تواصل في الإجازة الصيفية، وكان يعطينا دروسًا من كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وكان لا يزال يكتبه... ولم يجف الحبر بعد .. وأحب أن أشير هنا إلى عائلة عزام، فهي عائلة محترمة.

في السودان: هل أنت الذي بدأ العمل الإخواني في السودان؟

تاريخيًا سبقني أخ – رحمه الله – اسمه «علي طالب الله» وكانت له صلة بالإمام البنا لكن لم تكن  لديه الخبرة والدراية بالعمل، فقد جمع أفرادًا (حوالي سبعة أو ثمانية) ولم يركز عليهم للانتماء للإخوان، وسبقني في هذا الأمر من الإخوان في مصر «جمال الدين السنهوري»، وكان أحد سكرتارية الإمام البنا التابعين لطلاب الجامعة، وشخص آخر اسمه عبد الباقي عمر عطية، وكان نشاطهم في مصر، ولكن الإمام البنا بما له من دراية ونظرة ثاقبة أرسل إلى السودان وفدين على مرتين متباعدتين في المرة الأولى كان جمال الدين السنهوري وكان معه خطيب سوداني الأصل، وطافوا السودان وألهبوا مشاعر الناس، وأيضًا لم يضعوا خطة لاستيعاب الناس المهم كان هناك تمهيد في الزيارة الأولى، وفي الزيارة الثانية جاء عبد الحكيم عابدين – رحمه الله – مع جمال الدين السنهوري وطافوا السودان بلدًا بلدًا ولم يفكر واحد منهم أيضًا، أن يقول: تعال يا فلان إننا في مدينة الخرطوم وعليك أن تعمل كذا وكذا.

عبد الحكيم عابدين

لقد التفت الجماهير حولهم والتهبت حماستها وكانت تبكي وتصرخ في المساجد فالاثنان عبد الحكيم عابدين وجمال الدين السنهوري خطيبان بارعان، عبد الحكيم عابدين يهز الحجر ولا يقل عنه السنهوري، وما من منطقة جالا فيها إلا والتف حولهما الناس لكنهما لم يرتبا لاستمرار الدعوة كان كل ذلك تمهيدًا للناس وقد كان الناس معينين، حقيقة لم ينتموا للإخوان لأن أحدًا لم يرشدهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه.

وكنت وقتها في القاهرة، وكنا في العطلات الدراسية نستثمر هذه الأرضية خلال تواجدنا في السودان، وكنا خلال تواجدنا بالقاهرة تذهب إلى المركز العام للإخوان في مصر، ونطلب مدنا بالكتب والرسائل.

ولم تكن هناك في السودان حركة إسلامية بالعكس كانت هناك حركة يسارية سبقت الحركة الإسلامية بحوالي سنتين – كانت تسمى الجبهة المعادية للاستعمار – وقد استهوت عددًا من الشباب، وكان وجود هذه الحركة من الأسباب القوية التي جعلت حركة الإخوان تشق طريقها بقوة في السودان بعد ذرع البذرة الأولى أقول: بعد عودتي النهائية للسودان عام ١٩٥٤م كان معي الأخ محمد الخير عبد القادر، والأخ عبد الرحمن رحمة، وهما طالبان سودانيان، وكان معنا رسائل ومجلات إسلامية و ٤ - ٥ من الطلبة لا يملكون إلا مشاعرهم، إذ يصعب عليهم أن يروا اليساريين قد بدأوا العمل، لكن ماذا يوسع هؤلاء الطلبة أن يفعلوا؟! إنهم لا علم لهم بالإسلام غير كتاب كانوا يقرؤونه معًا  واسمه «في منزل الوحي» أو «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، وهذا هو مبلغهم من العلم، لم تكن هناك كتب إسلامية لقد كان السودان في ذلك الوقت أرضًا خصبة سواء للإسلام أو الإلحاد – كان هؤلاء الطلاب جزاهم الله خيرًا يتابعون دراساتهم بينما يزداد حماسهم للدفاع عن الإسلام كلما سمعوا أن هناك يساريين يعملون ضد الإسلام، وبدأ هؤلاء الطلاب الذين انتظموا في جامعة الخرطوم ينشطون، وقد أمددتهم بما أمكن من الكتب والرسائل، وبعدها انطلقت الدعوة في المدارس كان هناك فقط 3 مدارس ثانوية في السودان كله.. ملیون میل مربع به فقط مدارس ومن هذه المدارس الثلاث انطلقت الدعوة وكان معنا أخونا الشيخ عبد البديع صقر - رحمه الله - الذي جاء من مصر في وفد، أو لعل الإمام البنا أوصى بإرساله قبل وقوع انقلاب عبد الناصر، وقد قمنا بزيارة مدرسة أو اثنتين وكان معنا أخونا حسن شافعي عم حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة، ونائب رئيس الجمهورية الأسبق، وأصبح أكثر من نصف طلاب المدارس من الإخوان المسلمين وكانت إدارة المدارس كلها بريطانية الأساتذة والإدارة ما عدا واحدًا أو اثنين سودانيين مسلمين، فذهبنا سرًا ومكثنا ثلاثة أيام سرًا في إحدى المدارس وهي مدرسة داخلية واجتمعنا مع الإخوان كثيرًا، وغادرناها ولم يشعر بنا أحد.

وهناك مجموعة أخرى من الطلبة السودانيين بدأوا العمل في السودان دون أن نعرفهم، لقد تحمسوا للحركة الموجودة والنشاط المتواصل وكان عملهم محصورًا داخل إطار مدرستهم التي كانت في منطقة معزولة وبعيدة عن المدينة، فانتهزوا هذه الفرصة ونشطوا بالدعوة وخلال ثلاثة أيام فقط حدث إقبال منقطع النظير على الدعوة، وسألت الأستاذ عبد البديع صقر يومها عن رأيه فقال أنا لا أكاد أصدق أنه في هذه الفترة البسيطة تنقلب هذه المدرسة هذا الانقلاب العجيب وتلك حكاية غير طبيعية .. إن المدرسة بها ٥٠٠ طالب يحتاجون إلى عامين من الدعوة لكن الثمرة حدثت خلال ثلاثة أيام وفي الإجازات كان طلاب المدارس هؤلاء ينتشرون في مدن وقرى السودان بالدعوة.. وفي المدرستين الأخريين قام هؤلاء الطلاب بالدور نفسه وخلال سنة واحدة كان أثرهم في القرى والمدن عجيبًا وتوالى على العمل للدعوة أفراد كثير: أخونا محمد الخير عبد القادر وهو موجود الآن، ود. مالك بدري، وفي عام ١٩٥٤م عقد أول اجتماع للإخوان بالسودان، وإلى ذلك الحين لم يطلق رسميًا اسم الإخوان المسلمين، لكن كان كل من ينتمي نعتبره أخًا مسلمًا، وقد عقد الإخوان مؤتمرهم الأول في نوفمبر ١٩٥٤م قبل عودتي من مصر بشهور، فقد اجتمعوا ليختاروا الاسم، فكان الجواب من الحضور إنها مسالة بديهية – نحن إخوان مسلمون – وقررت الجمعية العمومية ذلك، لكن حوالي ٨ - ٩ أشخاص اقترحوا اسم حركة التحرير الإسلامي، وجرى التصويت على الاسمين المقترحين، وكان الرأي الغالب مع الإخوان المسلمين، وانسحب هؤلاء التسعة، وكونوا فيما بعد «الجماعة الإسلامية»، ثم فيما بعد «الحزب الاشتراكي الإسلامي»، وإلى الآن هم موجودون.

جريدة نصف أسبوعية

في منتصف عام ١٩٥٦م أصدرنا جريدة نصف أسبوعية في ثماني صفحات، وكان لها دور كبير في تفهيم الناس حركة الإخوان والدعوة بوجه عام، وكان لنا دور سياسي كبير من خلال هذه الصحيفة، وظلت حوالي ٤ سنوات، ولم تتوقف إلا بعد انقلاب عبود عام ١٩٥٨م ضد عبدالله خليفة رئيس الوزراء، والذي مثل عملية تسليم وتسلم، وكان عبدالله خليفة ضابطًا متقاعدًا وله نزعات شديدة وحادة والسبب في هذا أن إسماعيل الأزهري درس في مصر، وكان معه وزير آخر اسمه علي عبد الرحمن واتفقا وهما في مصر على أنهما عند حضورهما للسودان لا بد من أن يعانا وحدة مصر والسودان، وكان عبد الله خليفة وحزبه (حزب الشعب) الذي ينتمي إليه استقلاليون يريدون للسودان أن يستقل، وفي مصر يسمونهم انفصاليين، لقد أعلن علي عبد الرحمن عندما جاء من مصر أنه سيعلن الوحدة مع مصر من داخل البرلمان، وقبل مجيئهم بليلة اجتمع عبود بقادة الجيش وطرح عليهم الموضوع، وقال: إذا تركنا هؤلاء؛ فإن السودان سيسلم لمصر وإذا أنتم حريصون على بلدكم فلتستلموا السلطة، وفي الساعة السادسة صباحًا اعتدنا أن تسمع المارش العسكري للانقلابات.. سألنا: ومن قام به؟ قيل: عبود وبعد الانقلاب توقف العمل، لأنهم بعد الانقلاب مباشرة عادة ما يوقفون الأحزاب ويوقفون الصحف ويحل البرلمان ويلغى الدستور.

وماذا تفعلون في مثل هذه الأحوال؟

لا بد من أن نتوقف ونجمد نشاطنا لنرى ماذا عن الوافد الجديد.

 وبعد اتضاح الرؤية بدأنا نتحرك بعد أن أمنا أنفسنا وبدأنا العمل بطريقة تتفق مع الوضع الجديد، واستمر الوضع هكذا ولم يعتقل أحد من الإخوان، وكانت الثورة السودانية تتعامل مع الناس بطريقة معتدلة، فكل قياداتها من كبار السن عكس ثورة مصر، وعكس السودان في أيام نميري.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل