العنوان كلينتون ... ماذا يحمل في جعبته للشرق الأوسط؟
الكاتب د. أحمد يوسف
تاريخ النشر الثلاثاء 19-يناير-1993
مشاهدات 17
نشر في العدد 1034
نشر في الصفحة 28
الثلاثاء 19-يناير-1993
تشكلت السياسة الأمريكية منذ عهد ترومان إلى ريجان على خلفية النظرية القائلة بوجود صراع بين الشرق والغرب أي بين منظومة الدول الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفيتي وبين مجموعة دول العالم الرأسمالي بشقيه الأوروبي الغربي والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت أمريكا- بالطبع- هي صاحبة القرار، نظرًا لتفردها العسكري وتوزع قواتها في المنطقتين الأوروبية والأسيوية.
وإذا ما نظرنا إلى منطقة الشرق الأوسط فإننا نجد أن كل الرؤساء قد وضعوا سياساتهم بناء على عدة فرضيات أساسية أهمها أن الولايات المتحدة تحتاج إلى وقف تقدم الاتحاد السوفيتي في هذه المنطقة واحتواء النفوذ الشيوعي فيها، وذلك للأهمية «البتروجيوسياسية» لها، وقد أعطيت إسرائيل لذلك دورًا وظيفيًا مهمًا في تلك السياسات إلا أن هناك حقيقة لا تخفى على أحد، وهي أن معظم هؤلاء الرؤساء كانوا- غالبًا - ما يستسلمون للضغوطات المحلية بما فيها من استجابات أو رفض فيما يتعلق بتوجهاتهم في منطقة الشرق الأوسط.
فلقد حاول الرئيسان نیکسون وکارتر أن يضعا- لمدة- وفي فترة من الفترات المصالح القومية الأمريكية فوق الاعتبارات المحلية ومطالبات الأنصار والمؤيدين إلا أن كلاهما فشل في إنجاح ذلك، والاستثناء الذي سبق وحالفه النجاح كان للرئيس أیزنهاور.. حيث كان الوحيد الذي استطاع في توجهه للجماهير مناشدًا إياها- أبان أزمة السويس عام ١٩٥٦- بأن يضع المصلحة القومية الأمريكية في المقدمة والقفز فوق المصالح الإسرائيلية ونفوذها القوي داخل الإدارة الأمريكية، فبالرغم من أن إسرائيل منذ البداية كانت جزءًا من سياسة أمريكا الداخلية، بسبب العامل الانتخابي والنفوذ المالي والسياسي والإعلامي لليهود فهيا، إلا أن أيزنهاور حرص على التقارب من العرب والتودد إليهم طمعًا منه في كسبهم في الحرب الباردة مع السوفيات، وشهدت بذلك- في عهده- العلاقات الأمريكية الإسرائيلية مرحلة من التوتر بسبب محدودية الدور الذي أعطاه أيزنهاور لإسرائيل في إطار سياسة أمريكا الشرق أوسطية، وهي السياسة التي كانت تقضي- حسب خطة أیزنهاور ودالاس- بإدخال الدول العربية في تحالف مع الغرب لمواجهة السوفيات.
وبعد حرب حزيران ١٩٦٧، أصبحت إسرائيل لها موقع متقدم في الإستراتيجية الأمريكية بالمنطقة، وصار لها امتيازات كبيرة وحظوة خاصة في السياسة الأمريكية، وغدت مصالحها في انسجام كامل مع مصالح أمريكا، وبدأت تلعب دورًا إستراتيجيًّا مهمًا في المنطقة، وقد كان جونسون وراء تطوير هذه العلاقات بين أمريكا وإسرائيل، وقد وضع أسس التحالف الذي تشهده اليوم، حيث تحظى إسرائيل بأكبر المساعدات المادية، والعسكرية، وتقدم لها التسهيلات للوصول إلى مراكز القوة العالمية والمنافسة الدولية.
إن إسرائيل ومؤيديها من اليهود والصهاينة الأمريكيين قد استطاعوا الوصول والتأثير في صناع القرار وبالتالي التحكم في توجهات السياسة الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط.
إن النظرة الفاحصة في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة تكشف حقيقة الصورة ذات الوجهين «double stan dard» وتطفيفات الكيل بمكيالين، فالتصريحات الأمريكية إذا ما أريد لنا أن نتفهمها فيجب علينا التعامل معها من خلال تكامل الصورة وربطها بآليات التحرك والتفاعل المحيط بها. إذ إن هذه السياسة غالبًا ما تحاول أن تشكل صورة مزيفة وتعطي انطباعًا خادعًا تعكسان معًا حالة لا يمكن تبينها بسهولة، وقد يصعب علينا أحيانًا التمييز بين السياسة الإعلامية التلميحية وبين السياسة الخفية الحقيقية حيث تهدف الأولى إلى إعطاء انطباع بالحرص والمتابعة الإنسانية لغرض إنجاز أهداف سياسية أنية محددة، بينما تتضمن الثانية تبني قرارات مصيرية وقيام تجاوزات حقيقية ذات أبعاد استعمارية بما فيها من تخطيات للمصلحة الوطنية لدول المنطقة.. يقول بعض العارفين بأن جونسون هو الذي نصح إسرائيل بشن الحرب عام ١٩٦٧ ضد مصر وسورية والأردن، وقد اعتبر جونسون انتصار إسرائيل انتصارا للسياسة الأمريكية، في الشرق الأوسط وقد خدع جونسون العرب عن طريق طمأنتهم إلى أن نص القرار ٢٤٢ يتضمن انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي التي احتلتها خلال حرب ١٩٦٧، ولعل استعراض سياسة الولايات المتحدة في الفترة من ٦٧- ١٩٩٢ يكمل الصورة ويوضح أبعاد هذه السياسة وتوجهاتها.
إن مراجعة وتحليل مبادرات السلام التي تم تقديمها خلال عدة إدارات أمريكية سابقة، يوضح الانقسام والتناقض وعدم الجدية فيها، فعندما قام وزير الخارجية الأمريكي روي روجرز بجولته المكوكية في المنطقة يحمل معه خطته الشهيرة للسلام بين العرب وإسرائيل، كان نيكسون وكيسنجر يتحركان بهمة في واشنطن لتقويض نجاح الخطة، وإفشال تحقيق أي تقدم في المحادثات، وذلك بالإيحاء للإسرائيليين بعدم أخذ القضية مأخذ الجد واستثمار المشروع إعلاميًا فقط وتجاوز خطة روجرز، بالإهمال واللا مبالاة، وقد أدركت إسرائيل أحاسيس أمريكا الحقيقية تجاهها من خلال ما قدمته إدارة نيكسون- عمليًا - لإسرائيل، حيث منحتها كل ما طلبته وهذا دليل لها على صدق نوايا أمريكا الحقيقية نحوها، كما أنه إثبات لعدم مصداقية تحركات روجرز ومرئيات خطته.
وفي عهد الرئيس ريجان فقد أعطى وزير الخارجية- آنذاك- ألكسندر هيج الضوء الأخضر للإسرائيليين لغزو لبنان في شهر يونية ۱۹۸۲، وبعد حدوث الغزو والاحتلال الإسرائيلي للأرض اللبنانية قامت نفس الإدارة- بالتقدم- لخطة سلام، لم تكن في نيتها- بالطبع- العمل على إنجاحها، بل كان الهدف من وراء ذلك التحرك هو رفع الحرج والحصول على ورقة براءة ذمة بعد المذبحة البشعة التي ارتكبتها أو تواطأت معها القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين واللبنانيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، وذلك لامتصاص غضبة الجماهير العربية والإسلامية، وإظهار الولايات المتحدة كصانع سلام في المنطقة.
وبالطبع فإن التحركات الأمريكية لعقد سلام بين العرب وإسرائيل بعد إحداث الأزمة والحرب في الخليج، لا تخرج عن منطوق الرواية السابقة، بدليل عدم حدوث أي تقدم في المفاوضات، برغم حجم التنازلات الرهيبة التي قدمها الجانب الفلسطيني، حيث ظل الجانب الإسرائيلي على موقفه السابق منذ محادثات كامب ديفيد!!
إن الحالة الراهنة التي تمثل انعدام رؤية فرج في نهاية النفق المظلم لمحادثات مدريد وجولات واشنطن هي نتيجة طبيعية لفشل وأخطاء وتواطآت السياسة الأمريكية في المنطقة.. انظر- مثلا- إلى سياسة رؤساء أمريكا منذ عام ٦٧، والخاصة بالاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، فقد كان الموقف الأمريكي الرسمي مؤيدًا لإسرائيل ومتجاهلا لقرارات الشرعية الدولية، بل كثيرًا ما مارس ضغوطًا على بعض الدول الدائرة في فلكه لإجبارها على التصويت ضد أي قرارات تفرض العقوبات على إسرائيل، وكذلك بدفع الهيئة الدولية للتخلي عن قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية.
لقد شجبت الولايات المتحدة- حفاظًا على سمعتها الدولية أحيانًا - بعض الممارسات الإسرائيلية التعسفية بحق الفلسطينيين في المناطق المحتلة، إلا أنها- في الوقت نفسه- كانت تعمل على صرف أي تطبيق لقرارات المقاطعة الدولية أو إنزال عقوبات على إسرائيل.
لقد ظلت الولايات المتحدة تزود إسرائيل بالسلاح والتكنولوجيا حتى تبقى منفردة بالقوة والعظمة، وقادرة على حماية مصالح الغرب ومواجهة التغلغل السوفياتي في المنطقة.
ويأتي السؤال الذي لا زال ينتظر الإجابة- هل إسرائيل- ما زالت- تمثل حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة والغرب بعدما انتهت الحرب الباردة، وانهار الاتحاد السوفيتي وتقلص وجوده في المنطقة؟
وهل الدور الوظيفي السابق لإسرائيل لا زال قائمًا وخاصة بعد حدوث مستجدات حرب الخليج الثانية؟
الواقع أن هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها مهما حدث من مستجدات، وهي أن النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة لا زال قويًا إعلاميًا وسياسيًا، وأن الحركة الصهيونية ومنذ أن نقلت- مع بداية عام ١٩٤٠- جهودها وأموالها إلى حاضرة العالم الغربي «أمريكا» وهي تخطط لتحفظ بيدها ورق الضغط السياسي الذي يكفل لها حماية المصالح الإسرائيلية، والدفاع عن وجودها بربطها- مصيريًا - بالولايات المتحدة الأمريكية. صحيح أن موازنات المصالح في المنطقة العربية وخاصة بعد حرب الخليج الثانية تتطلب من الولايات المتحدة أن تتخذ موقفًا لا يدينها أمام حلفائها في المنطقة العربية، ولا يضعف من هيبة خطابها الإنساني بعد تصدرها للنظام العالمي الجديد، لذلك نراها تسعى لإحداث استقرار سياسي في المنطقة وتعمل على تهدئة بؤر التوتر المتفجر وتحديات التصعيد القائمة فيها.. إلا أنها لم تنجح حتى الآن في إخراج نفسها من دائرة الاتهام بالتواطؤ مع إسرائيل، كما أنها لم تستطع- أيضًا - أن تثبت مصداقية مشروعها السلمي في المنطقة، بل كرست- بالفشل المتكرر لجولات المحادثات في واشنطن، ويمنح إسرائيل ضمانات القروض- إن السياسة الأمريكية هي على حالها لم تتغير منذ عهد ترومان وصولاً إلى جورج بوش وإن شكليات الخطاب السياسي لم تتبدل كثيرًا ، وأن حالة الفتور التي أصابت العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية أبان عهد شامير كانت مستلزمًا لا بد منه، للدخول إلى مسرح «الأعداء» وتقديم عرض جذاب يسمح بالعسكرة والتوطن.
خيار كلنتون للشرق الأوسط: عقد قران بين نهجي جيمي كارتر وجورج بوش
قد يصعب الآن على توجهات الرئيس الجديد بيل كلنتون، ولكن من خلال المقابلات التي أجرتها عدة صحف ومجلات أمريكية معه يمكننا أن نتلمس الطريق الذي يود أن يسلكه، للحفاظ على علاقات بلاده بالمنطقة العربية الإسلامية وهي علاقات لن تخلو من التوتر بسبب الدعم الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل.
لقد حرص الرئيس كلنتون على التأكيد- دائمًا - على أن الدور الأمريكي يجب أن يكون هو دور الوسيط الأمين الحافز والمشجع على تأييد العملية السلمية، ولكنني- كما يقول كلنتون لصحيفة نيويورك تايمز- ولا أستطيع أن أفكر بأية طريقة تستطيع بها الولايات المتحدة أن تفرض إرادتها وتساعد بذلك على تحقيق تسوية سلمية دائمة، نحن بحاجة إلى تزييد العملية السلمية الراهنة، ولكن علينا أيضًا أن نحافظ على التزامنا الخاص تجاه شريكنا الديمقراطي «أي إسرائيل» وأمنها العام الشامل». «إنني كرئيس سأعطي أولوية قصوى- باستمرار- لضمان استمرارية عملية السلام وإحراز تقدم نحو تحقيق سلام يضمن أمن إسرائيل ويلبي الحاجات المشروعة للعرب، ولا زلت أعتقد بأن الإطار الذي تم الاتفاق عليه في كامب ديفيد يمثل إطارًا جيدًا»، هذا هو مجمل الرؤية التي يبدو أن الرئيس الجديد سيتحرك من خلالها.. مباركة للنهج الذي ابتداه جورج بوش بجمع الإسرائيليين والعرب على طاولة المفاوضات، وإشارة استحسان لنهج جيمي كارتر وإطار الحل على صيغة كامب ديفيد.
حقيقة أن بيل كلنتون يضع أولوية لتجديد اقتصاد بلاده وإنعاش قدراته في التحدي والمنافسة، وهذه الأولوية تتطلب استقرار الوضع العسكري والسياسي في المنطقة العربية، وتضيق هامش الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهذه متطلبات- في مجملها- ليست سهلة المنال في ضوء ما هو قائم من سياسات تحالفية مع إسرائيل، وتجاهل للحقوق الفلسطيني في الدولة وتقرير المصير.
إن المكانة «البتروجيوسياسية» للمنطقة العربية والحاجة الأمريكية للثروة العربية لتحقيق الانتعاش الاقتصادي ستجعل الرئيس المنتخب مضطرًا للضغط بعض الشيء على إسرائيل وإلزامها باتخاذ سياسات غير استفزازية ضد الفلسطينيين والتخلي عن تأييدها- عند التجاوز- في الهيئات الدولية للحفاظ على استمرارية المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة.
ولكن كل ما سبق مرهون أيضًا بضغط القوى الصهيونية ومدى تسامحها أو تحريضها على مثل تلك السياسات.. وهذه تشكل في حد ذاتها عودة لظاهرة الصراع السياسي حول الأولويات. فهل المصلحة القومية التي تقتضي قيام علاقة تناصر واحترام مع العالم العربي، وتتطلب وضع حد للتعاطف الأمريكي- الإسرائيلي اللا محدود هي التي سيعطى لها الاعتبار أم هي الاستجابة لضغوطات قوى المصالح والنفوذ الصهيوني على الساحة الداخلية مع ما يترتب على ذلك من إفشال وتوتير للعلاقة بالعالم العربي، والإضرار بالتالي بالمصالح السياسية والمكتسبات الاقتصادية- الاستراتيجية معه.
هذه هي اللحظة الحرجة في الخيارات الصعبة التي تنتظر الرئيس والطاقم الاستشاري الذي سيتبادل معه الرأي والمشورة.
ماذا يحمل الرئيس الجديد في جعبته؟
كلنتون
بين وعود الإصلاحات الاقتصادية والتزامات السيادة العالمية
واشنطن: يقين صالح
عندما تتعلق أنظار العالم بالتغيرات السياسية الحادثة على الساحة الأمريكية وخاصة المتعلقة منها بانتخاب الرئيس الأمريكي نفسه فإن هذا التعلق يكون في العادة مبالغ فيه، لأنه ناشئ عن فهم خاطئ واستيعاب قاصر لحقيقة سلطة القوة والقرار الذي يمتلكه- حقًا - أو يناور فيه رئيس أكبر دولة عظمى في التاريخ.
ولعل من أوجه الأسباب التي تشرح استقرار النظام السياسي الأمريكي وتفسر استمرارية العظمة الأمريكية متربعة على عرش القوة والجبروت هو محدودية «سلطة القوة والقرار» هذه متوزعة بين واجهات عدة تتقاسم وتتكامل الأدوار فيما بينها لتحفظ لهذا النظام العتيد استقراره وقوته دونما تنازع، أو تنافر أو استبداد فردي لطائفة أو حزب حاكم كما هو عليه الحال في معظم دول العالم الثالث بما فيه عالمنا العربي والإسلامي.
إن السياسة الأمريكية الخارجية لم نعهد عليها- إلا نادرًا - قيامها بخطوات تقفز فوق المألوف أو تتخطى بطفرات ما هو معروف- فهي- ومنذ الحرب العالمية الأولى- تتحرك داخل إطار مجموعة من الثوابت والمرتكزات التي قلما مسها التغيير أو التبدل اللهم إلا عند حدوث انتقالات مفصلية تترتب عليها تعديلات لا بد منها لاستمرار منطقية التحرك الخارجي وتبرير الاستجابات الفجائية والتحولات الطارئة في هذه السياسة كما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإبان أحداث الخليج: الأزمة والحرب.
دور الرئيس الجديد: الواقع.. المحددات.. الإمكانيات
كما هو معروف- لدى البعض- فإن رئيس الولايات المتحدة سواء كان جمهوريًا أم ديمقراطيًا يتحرك ضمن قيود شديدة: سياسية ودستورية، وخلافًا لزعماء البلدان الأخرى فإن الرئيس الأمريكي عندما يرسم وينفذ السياسة الخارجية والدفاعية للولايات المتحدة يكون مسؤولاً وعرضة للاستجواب والمحاسبة أمام عدد كبير جدًا من المؤسسات والقوانين داخل النظام السياسي الأمريكي. فعلى الرئيس الأمريكي- مثلا- أن يبرر تصرفاته أمام الكونجرس ووسائل الإعلام وأمام الجمهور والرأي العام وأمام الناخبين بطبيعة الحال.
وقد تحمل الرؤساء الأمريكيون هذه المسؤولية بطرق مختلفة على مر السنين ولكن من الواضح أن رئيس الولايات المتحدة يخضع في دوره القيادي لقيود سياسية وقانونية ودستورية وتشريعية أكثر من معظم زعماء العالم. ولعل جلسات الاستجواب الشهيرة كـ«وترجيت وإيران- جيت، وأخيرًا عراق- جيت» تذكرنا بعواقب التجاوز للصلاحيات الدستورية حيث أطاحت الأولى بالمستقبل السياسي للرئيس نكسون وهزت الثانية من مكانة الرئيس ريجان ولعل الثالثة كان لها دور ولو محدود في هزيمة الرئيس جورج بوش، فالرئيس الأمريكي عندما يرسم سياسة بلاده الخارجية وينفذها فإنه يخضع لتأثير ست مؤسسات فاعلة في المجتمع الأمريكي، ثلاث منها رسمية وثلاث غير رسمية ولكنها تشكل مع الثلاث الأولى كابحة قوية تحد من أي تجاوزات أو تخطي فالمؤسسات الرسمية التي تنص عليها بنود محددة في الدستور الأمريكي وتنص عليها التشريعات هي: الفرع التنفيذي والكونجرس بمجلسي الشيوخ والنواب فيه والفرع القضائي والمحكمة العليا فيه على وجه الخصوص. أما المؤسسات غير الرسمية فتشتمل على وسائل الإعلام «المرئية والمقروءة» واستطلاعات الرأي العام ومؤسسات التعليم العالي «الجامعات والكليات» ومؤسسات البحوث والدراسات المختلفة والتي تسمى مستودعات التفكير «Think Tanks».
وتحكم نصوص الدستور بالدرجة الأولى طبيعة العلاقات بين فروع الحكم الثلاثة في ميزان السياسة الخارجية، وهناك بنود محددة تضع قيودًا محدودة على دور الرئيس في السياسة الخارجية وإلى جانب أحكام الدستور فإنه يتوجب على الرئيس أن يتقيد بتشريعات الكونجرس وقرارات المحكمة العليا التي تنطبق على السياسة الخارجية ويتعاطى الكونجرس العديد من قضايا السياسة الخارجية بما في ذلك نشر القوات المسلحة الأمريكية، مبيعات السلاح، المعونات الخارجية، حقوق الإنسان، الاستخبارات... إلخ، ويمارس مجلس الشيوخ والنواب نفوذهما في السياسة الخارجية عبر العديد من اللجان المختصة في شؤون العلاقات الخارجية والقوات المسلحة والمالية ولا بد من الإشارة إلى أنه إلى جانب الشيوخ والنواب- وهم غير منتخبين- إلا أنهم يشكلون هيئة قوية داخل الكونجرس ومن الثابت والمعلوم أن هؤلاء الموظفين «المستشارين» يؤثرون على التشريعات تأثيرًا أكبر مما لدى الشيوخ والنواب الذين يعملون لحسابهم وذلك بسبب استقرارهم الوظيفي وإطلاعهم البرلماني الواسع للقضايا داخل الإدارات المختلفة والمؤسسات الأمريكية الرسمية الثانية ذات العلاقة بالسياسة الخارجية، فهي الفرع الثاني الذي يترأسه الرئيس الأمريكي نفسه وتضم هذه المؤسسة مجلس الأمن القومي ووكالة الإعلام الأمريكية ووزارات الخارجية والمالية والدفاع والتجارة والعمل والطاقة كما تشمل بدرجة أقل على وزارات أخرى داخل الحكومة الأمريكية ويضم الفرع التنفيذي أيضا وكالات مهمة تجمع المعلومات الاستخبارية وتحللها وتشتمل هذه الوكالات على وكالة الاستخبارات المركزية «CIA» ووكالة استخبارات الدفاع ووكالة الأمن القومي وهي لا ترسم السياسة بل تضع تقاريرها ودراساتها أمام صانعي السياسة الذين يعنون بإدارة السياسة الخارجية.
ورغم أن كل وزارة تشارك عمليًا في عملية وضع القرار المتعلق بالشؤون الخارجية إلا أن وزارة الخارجية، تتحمل المسؤولية الأولى في إسداء المشورة للرئيس لدى رسم السياسة الخارجية وتدير وزارة الخارجية شبكة العلاقات الدولية من أجل تعزيز «أمن وسلامة الولايات المتحدة على المدى البعيد»، فهي لذلك على اتصال دائم وتشاور مستمر مع الرئيس الأمريكي والكونجرس والوزارات والوكالات الأخرى كذلك تعمل على تنسيق علاقة أمريكا بالحكومات الأجنبية كما إنها تتحدث باسم الولايات المتحدة في الهيئات والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها أي أنها تمثل وتدير دبلوماسية الولايات المتحدة وبالرغم من ظاهرة الصلاحيات التي بيد الرئيس الأمريكي- وهي تقريبًا ثلث السلطة- إلا أنه يجد أن قدراته على إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة محدودة بسبب تأثير وسائل الإعلام والجمهور الأمريكي والأكاديميين والمنظمات التي تعني بالأبحاث السياسية حيث تؤثر افتتاحيات الصحف الكبرى والمنتديات السياسية المتلفزة بتناولاتها وتحليلاتها، وكذلك حلقات النقاش بالجامعات والمعاهد المتخصصة في مداولات السياسة الخارجية وبذلك تحفظ هذه المؤسسات وعي الجمهور- بعيدًا عن التزييف- يقظًا ومتابعًا لكل ما يجري حوله ومتربصًا وقادرًا على التحرك إذا ما تبين له بأن هناك أخطاء أو زلات توشك أن تعرض مصالح أمريكا الداخلية أو الخارجية للخطر.
بالطبع هناك- أيضًا - مجموعات الضغط والمصالح وهي مؤسسات قوية لها اهتمامات تحد في أحيان كثيرة من سلطات الرئيس وتكبح اتخاذ قرارات تؤثر على مصالحها وقد يتم بسبب ذلك أعمال بعض الأفكار الإصلاحية لتضاربها مع مصالح هذه القوى واللوبي الصهيون هو واحد من بين العشرات من مجموعات الضغط التي لها تأثير على توجهات السياسة الأمريكية.
الرئيس كلينتون: وعود الإصلاحات الاقتصادية
بالرغم من التشاغلات العالمية الكثيرة التي تورطت فيها الإدارة الأمريكية السابقة فإنه من غير المحتمل أن تنسحب إدارة الرئيس الجديد بيل كلينتون بسهولة من هذه الالتزامات والتعهدات الدولية والتي جعلت من الولايات المتحدة والعالم من حوله أشبه بغابة موحشة ليس فيها إلا شبح «وحيد القرن» بين قطيع من الغزلان الأليفة وبعض الذئاب الجريحة فهناك مظاهر قوة فرضتها العسكرة الأمريكية في الكثير من مناطق التوتر في العالم كالصومال والبلقان وكمبوديا والسلفادور ومنطقة الخليج العربي ولا بد لاستمرار ظاهرة الاستقرار تلك من بقاء هيبة العسكرة الأمريكية وإلا فإن صراعات كثيرة آيلة للانفجار بسبب اختلال تحالفات سنوات الحرب الباردة وتداعي قطبية التوازن الثنائي بين القوى العظمى وتكديس حالات الاختناق السياسي والاقتصادي والعرقي على مساحات جغرافية واسعة. ولكن حتى مع وجود هذه التوترات وتعالي وتأثر الصراع، وضرورة وجود «هيبة عسكرية عظمى» تطفئ من غلواه تنازع البقاء، في عالم انحطت فيه القيم وتلاشت به أخلاقيات التعايش بسلام فإن ضغط الواقع الاقتصادي وتطلعات تحقيق الحلم الأمريكي، في البغددة والسعادة ستظل تطارد أولويات الرئيس بيل كلينتون.. وسوف يرى الرئيس الجديد بأن حريته في الحركة مقيدة- هذه المرة- بالوضع الاقتصادي المتردي العاجز عن النهوض والمنافسة وإذا ما استمر الانحسار الاقتصادي وتباطأ التحسن والانتعاش وقدرات التنافس مع الاقتصاد العالمي فإن هذا سيدفع في اتجاهين:
فإما أن يعيد الرئيس توجيه اهتمامه الأساسي نحو القضايا الداخلية وتوظيف الدعم المالي الكافي للحفاظ على توازن واستقرار الساحة الأمريكية مع ما يتطلبه من عزلة وابتعاد عن السياسة الخارجية- والتزاماتها المادية الكبيرة وبالتالي تلاشي شبح وحيد القرن، وترك الغابة بغزلانها وذئابها لصرعات تنازع البقاء الشرس في ظل غياب حضارة إنسانية غالبة وإما أن تظل عيون أمريكا مفتوحة على العالم من حولها يتسيد قرنها الوحيد أدبيات القوة والتوجيه والبقاء في تلك الغابة وإلى أن تظهر قوى حضارية إنسانية جديدة منافسة ولكن الخيار الثاني يطرح عليها تحديات ومخاطر ظهور طفح عرقي وعنصري تتسبب به تدنيات مستوى المعيشة وتزايد البطالة وتلاشي أفراح الإنسان الأمريكي بفردوسه الأرضي مما يعني قطع خط الأمان والعودة إلى سرطان الكوارث وانتفاضات مشابهة لما حدث في لوس أنجلوس خلال العام الماضي.
خياران أحلاهما مر.. ولا بديل
ماذا يملك الرئيس بيل كلينتون الديمقراطي؟ هل يقف الكونجرس الذي يحظى بأغلبية ديمقراطية معه ويتجاوب مع رؤيته الإصلاحية أن التاريخ السياسي للولايات المتحدة يشهد بأن الرئيس سواء كان ديمقراطيًا أم جمهوريًا فإنه سوف يتحرك ضمن محددات القيود والظروف ذاتها. وستبقى تلك المحددات قائمة بغض النظر عن إمكانات الحزب السياسي الحاكم.. وهذه المحددات ستظل قائمة ما تعاقب الحزبان الرئيسيان على تداول السلطة والحكم.
ولكن هذا لا يعني أن فضاءات الرؤية والتحرك أمامهما محدودة، ولكن معناه أن هذه الفضاءات لا تكفي- أحيانًا - لإعطاء أي منهما فرصة إطلاق الذراع الأمريكية لتباشر السطوة والهيمنة في كل مكان وتستهلك بذلك الثروة والعافية لكي تحتفظ الولايات المتحدة بالمكانة الغالية في النظام العالمي الجديد وتأمن- في الوقت نفسه- عدم انهيار البناء الاقتصادي والاجتماعي وتوسع الطفح العرقي وسرطان العنصرية.
إذًا في ظل هذا الفضاء المحدود تتشكل رؤية الرئيس الجديد وتتقدم خياراته وهي أن تخرج عن معادلة الاختيار بين «وضعين أحلاهما مر!» العظمة أو العافية، قيادة النظام العالمي الجديد أو الإصلاح الاقتصادي لذلك ومع هذا الاختبار الصعب سيجد الرئيس نفسه مدفوعًا لأن يمتحن عدة تحديات وينتظر قياس صدماتها، ثم المداولة والتفاضل فيما بينها فليس للرئيس الجديد بيل كلينتون قبول خيار العزلة وقد منحت انهيارات الاتحاد السوفياتي وتفكك وحدة أوروبا الشرقية للولايات المتحدة مكانة الدولة الأولى في العالم وقد تم تتويجها رسميًا مع تداعيات أزمة وحرب الخليج.. وليس للرئيس الجديد الرضا بخيار انفجار ساحة بلاده الداخلية بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة ولكن هو بين هذين الخيارين سيعيش حالة من المراوحة والتدبر مطلوب منه فيها أن يخفف نفقات بلاده العسكرية الباهظة وأن يجتهد لإعطاء أمريكا صورة أفضل تنسجم مع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وتبعد بها عن مظاهر الاستعمارية البشعة ودعم الدكتاتورية في العالم وعليه أن يتجه لمعالجة أعراض الطفح العرقي- العنصري وإنفاق المزيد من الميزانية على برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وعلى قطاعات التعليم والخدمات الصحية ومحاربة عقلية التعايش على عافية الدولة «Welfare Mentality».
مطلوب منه لإحداث الاستقرار العالمي أن يضرب خبطة على الرأس وأخرى على الحافر كما يقولون، حتى يبقى شبح وحيد القرن يفرض الهيئة على الغابة وحتى يهدأ السرطان الثائر في بلاده والذي لن يتوقف انتشاره بتناول مسكنات وقتية يتم تعاطيها بين الحين والحين.
هذا هو التحدي الذي ينتظر الرئيس الجديد «بيل كلينتون» فهل ينجح في ذلك أم تظل تصريحاته خلال حملته الانتخابية مجرد تهويشات دعائية سرعان ما تتلاشى مع بدايات تسلم السلطة في العشرين من يناير والدخول- بعد ذلك- في معمعمة الصراع مع الكونجرس والإعلام ومجموعات الضغط والمصالح المختلفة؟ هذا ما ستكشف لنا عنه سياسات وتوجهات الشهور الأولى من حكم الرئيس بيل كلينتون على الساحتين المحلية والدولية.
رؤساء الخارجية السابقون يتقدمون بالنصيحة للرئيس الجديد
التقى أربعة من رؤساء الخارجية السابقين بالرئيس الجديد بيل كلينتون وأشادوا بحسن اختياره لفريق السياسة الخارجية العامل معه والذي سيعوض قلة خبرته السابقة في هذا المجال. وقد التقى هؤلاء الأربعة مع الرئيس في بيته في ولاية أركنساس لمناقشة خيارات السياسة الخارجية التي ستواجهها الإدارة الجديدة.
وقد تحدث رؤساء الخارجية السابقين وهم وليم روجرز أدیموند موسكي ألكسندر هيج وجورج شولتز، وأشاروا إلى أن السيد كلينتون قد ورث عالمًا مضطربًا، ولكنه والفريق الذي معه مؤهلون لهذا العمل، وقد عبر عن ذلك السيد موسكي بالقول للرئيس كلينتون «إنك مضطر للمفاضلة كل صباح لتحدد أي مشكلة تضغط أكثر هل هي الصومال أم البوسنة؟ فاليوم هي البوسنة إنها محاولات تدريبية يتعلم الإنسان منها بقدر توغله فيها».
أما وزير الخارجية الكسندر هيج فقد عبر للرئيس عن صعوبة تجاهل السياسة الخارجية حتى مع وجود الصعوبات الداخلية أو العكس بالقول «إنك لا تستطيع النجاح في الخارج إذا ما فشلت في الداخل» أما وليم روجرز فقد قال بأن قمة الأولوية للرئيس كلينتون يجب أن يعطيها للرئيس بورس يلتسن لكي يحافظ على الديمقراطية في روسيا فالتصديق على معاهدة ستارت يجب أن تكون هي الأولوية الثانية للرئيس كلينتون.
أما السيد روجرز فقد كانت نصيحته بأن على الرئيس كلينتون أن يكون واضحًا في سياسته تجاه العراق وأن عليه أن يواصل الضغط على الأمم المتحدة لتأكيد التزام صدام حسين بقرارات الأمم المتحدة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلخارطة طريق جديدة في ليبيا وتغيُّر السياسة الأمريكية تجاهها
نشر في العدد 2110
32
الثلاثاء 01-أغسطس-2017
السفير إبراهيم يسري وكيل وزارة الخارجية المصرية الأسبق لـ«المجتمع»: مشروع «كيري لافروف» لتقسيم المنطقة بديلاً عن «سايكس بيكو»
نشر في العدد 2110
27
الثلاثاء 01-أغسطس-2017