العنوان ماذا لو جعلنا من هذا الشهر الكريم بدايةً للإقلاع عن عاداتنا الضارة؟
الكاتب د. محمد أبو شوك
تاريخ النشر الثلاثاء 27-أكتوبر-1970
مشاهدات 19
نشر في العدد 33
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 27-أكتوبر-1970
ماذا لو جعلنا من هذا الشهر الكريم بدايةً للإقلاع عن عاداتنا الضارة؟
• الإفراط في الطعام.
• عادة التدخين.
• المشروبات الروحية.
للدكتور محمد أبو شوك
رئيس قسم الأمراض الباطنية بالمستشفى الأميري
يهل علينا شهر رمضان الكريم بخيراته التي لا تعد ولا تحصى، وبفضائله الجمة التي لو وعاها المسلمون وحرصوا عليها لهيأت لهم سبلًا من الحياة سعيدة.
والصوم ليس كما يظن البعض مجرد إمساك عن طعام أو شراب وإنما هو الإمساك عن كل ما ينافي الإيمان، ولا يتفق وفضيلة التقوى، ومن وراء حكمة الحرمان من الطعام والشراب تكمن حكمته الحقيقية، وهي غرس خلق الصبر، وتحمل المشاق والتحلي بالعزيمة القوية، ليثبت ويتحمل ويتسلح بسلاح الاستعانة بالله، والرجوع إليه، والاعتماد عليه في دنيا كلها مصاعب ومشاق، ومن هنا كانت للإنسان الفرصة التي لا تعوض للتغلب على عادات ضارة بل ومهلكة في بعض الأحيان.. عادات لو تجنبها لأتت له بالخير كل الخير على بدنه وعلى أسرته.
ولن أخوض في الحكمة الروحية -لا تقليلًا في عظم شأنها، ولكنى كطبيب لست أهلًا لإيفائها حقها- فهي حكمة لا تدانيها حكمة، ويكفي أن الإنسان تصفو نفسه، وتتهذب روحه، ويصير منبعًا للخير على نفسه وعلى بيته وعلى بني وطنه ويعيش عيشة هادئة كلها محبة ووئام وتعاون وسلام.
وما أجملها حياة لو اتسمت بهذا الطابع وبتلك المثل العليا والخلايا الحميدة. ولكني في الوقت نفسه سآخذ من هذه الحكمة الروحية قوة دافعة لتساعد من له رغبة في الإقلاع عن عاداته الضارة بجسمه، إذ إن الإنسان في هذه الروحانيات والنفحات الإلهية يجد من نفسه الاستعداد للتغلب على هذه العادات.
ونعرف نحن الأطباء أننا إذا أردنا أن نبعد مريضًا عن دواء اعتاده أو مخدر أدمن عليه نجد صعوبة بالغة في ذلك، ومنا من يتبع طريق المنع بالتقليل أولًا ثم بالمنع بعد ذلك، وهذه طريقة كثيرًا ما تفشل، ويعود المريض إلى ما كان عليه بعد أيام قلائل، والطريقة الأخرى هي المنع الصارم الحاد -مع قوة العزيمة والإرادة وعدم العودة- وهذه الطريقة رغم ما يكتنفها من صعوبات وألم الحرمان، إلا أنها هي الوسيلة التي تجدي في معظم الأحيان، وفي شهر رمضان -شهر الصبر والعزيمة، شهر الإرادة القوية والتخلق الكريم، شهر الفضائل- لا أجد فرصة مواتية مثل هذا الشهر يمكن لمن يريد أن يقلع عن هذه العادات الضارة.
ولكي لا أدع الملل يتسرب إلى القارئ.. أرى لزامًا على أن أتعرض إلى ثلاث عادات أعتبرها كطبيب من العادات التي من الممكن التغلب عليها.
عادة الإفراط في الطعام:
يقول المولى عز وجل: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (سورة الأعراف: آية ٣١).
ويقول رسوله الكريم: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع». ويقول صلوات الله عليه وسلامه: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه». وفي شهر رمضان شهر الإمساك عن الطعام، والإحساس بمرارة الجوع وألمه جدير ممن يعانون من السمنة المفرطة أو الذين يسرفون في تناول طعامهم وما يسببه لهم من تلبك معوي وانتفاخ بالبطن وغيرها من اضطرابات عديدة تصيب الجهاز الهضمي، ثم إن الإفراط في الأكل يؤدي في النهاية إلى السمنة المفرطة والتي تجر وراءها ذيلًا طويلًا من المضاعفات من آلام في الظهر والمفاصل المختلفة وارتفاع في ضغط الدم وانسداد بشرايين القلب والمخ والدوالي والفتوق المختلفة، ومرض البول السكري والتهاب المرارة، والنزلات الصدرية وغيرها، أقول جدير بهؤلاء أن يتمسكوا بالصيام.
وماذا لو على أصحاب السمنة المفرطة أن يصوموا رمضان -صومًا صحيًا- ويبتعدوا عن الأكلات بين السحور والفطور، ولا يملأوا معدتهم بما لذ وطاب من طعام وشراب بل حسبهم طعام غني بالفيتامينات يتناول الفواكه والخضروات الطازجة ويقللوا من أكل الدهنيات والنشويات ويعوّدوا أنفسهم على تناول أقل ما يمكن من طعام، بذلك يقل وزنهم مع عدم التعرض لأضرار قلة التغذية، ولو بدأوا بشهر رمضان لتعود جسمهم طوال هذا الشهر ولأمكنهم مواصلة هذه «الحمية» بعد رمضان فيمكنهم بذلك أن يتغلبوا على عقبة الإحساس بالجوع.
وأفضل من هذه «الحمية الربانية» التي وهبنا الله إياها في رمضان بعيدًا عن تناول الحبوب التي يُقال إنها تقلل من الشهية -وما يكتنف هذه الحبوب من اضطرابات في الأعصاب، ورجفة في اليدين والقلق، وعدم ذلك- فإلى من يشكون السمنة ..هذا رمضان اجعلوه بداية أشهر «الحمية الخاصة» والتزموا بالقناعة في الأكل تحسوا براحة الجسم، ومع نقص الوزن وذهاب المضاعفات التي تشكون منها إلى غير رجعة.
وإلى من تعوّدوا الإفراط في الأكل -والشكوى من آلام في بطونهم- هذا رمضان الذي تحسون فيه براحة أمعائكم وازدياد نشاطكم خذوا منه العبرة، وابتعدوا عن الإسراف في الطعام والشراب، فكما قال رسولكم الكريم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء».
عادة التدخين
وكلنا يعلم ما للتدخين من مضار على الفم والأسنان والتهابات الفم، ثم التهاب الشعب الهوائية وضيق التنفس والنزلات الشعبية وما تؤول إليه في النهاية من سُعال مزمن والتهابات في الرئتين، ربما أدّت في النهاية إلى ما يُسمى بتمدد الرئتين وهبوط القلب في النهاية.
ثم تأثر شرايين القلب مما يُساعد على حدوث نوبات الذبحة الصدرية أو انسداد شریان تاجي القلب.
ثم تأثر المعدة بالتدخين وكثرة حدوث قرحة المعدة والاثني عشر من جراء ذلك.
ولقد لوحظ أن نسبة حدوث سرطان الرئة تكون أعلى في الذين يدخنون، وكذلك نسبة حوادث الضغط المرتفع وتأثر العينين من الإفراط في التدخين، وغير ذلك من تأثرات بالجسم.
وفوق ذلك فقدان الشهية وما يترتب على ذلك من ضعف عام، واستعداد للأمراض التي تصيب الجسم لفقره في المناعة ضد هذه الأمراض.
زد على ذلك صرف المال على غير طائل -من الممكن أن يفيد الأسرة، ويحسن من حالتها الاجتماعية- بل صرف مال لا لاكتساب مرض، بل وأمراض.
وفي شهر رمضان الذي يمتنع فيه الصائم عن التدخين طوال النهار، ماذا عليه لو كان عنده الإرادة والعزيمة أن يكمل اليوم كله ثم يكمل الشهر دون تدخين وبعدها يقلع عن هذه العادة الضارة ليقي جسمه عواقبها الوخيمة؟ أعرف مريضًا كان يعاني من ارتفاع في ضغط الدم شدید، مع ازدياد في ضربات قلبه واضطراب في أعصابه، وكان يدخن في يومه ما لا يقل عن ١٢٠ سيجارة، فنصحته بأن يقلل من التدخين، ولكن دون جدوى، ثم قلت له علاجك هو أن تقلع عن التدخين، ولا تدخن سيجارة واحدة، ومن عجب أنه امتثل لهذا النصح، وتوقف عن التدخين مرة واحدة، رغم ما كان يعانيه في بادئ الأمر، وما زال إلى يومنا هذا، وقد مضى عليه خمس سنوات، وقد تحسنت صحته ونقص الضغط عنده حتى أنه أصبح لا يحتاج إلا إلى قليل من علاج، وزالت اضطرابات القلب، وهدأت نفسه وحسن حاله صحيًا واجتماعيًا، ولعل قائلًا يقول إن هذا صعب، بل ومن المحال خصوصًا لو كان الإنسان يدخن من سنوات، وتحضر لي حادثة لا أنساها، كنت أعمل مع طبيبة إنجليزية في مستشفى الأمراض الصدرية في إنجلترا وكانت تدخن بشراهة فائقة، وذلك لمدة ثلاثين عامًا مما أثر على صدرها، وجعلها تلهث عندما كنا نمر على المرضى بل وكانت تنتابها نوبات سعال شديدة توقفها عن الكلام، وما أحرجها من دقائق أمام مرضى الصدر الذين تعالجهم، وسَمِعَتْ ذات يوم نقد أحد المرضى لها، وأحسّت بغضاضة لا تدانيها غضاضة، وأبلغتني هذا وأنا أحس التأثر البادي عليها، وفي صبيحة الحادث رأيتها تضع بعض الحلوى في فمها فقلتُ: «ما هذا؟» قالت: «حلوى بدل السجائر»، وبقيت معها سنة بكاملها إلى أن فارقتها وهي لا تمد يدها على سيجارة بعد أن كانت تدخن ما يقرب من ستين سيجارة يوميًا ولمدة ثلاثين سنة.
عادة تعاطي المشروبات الروحية
ربما يقول قائل: «وهل يصوم مدمن خمر؟» أقول: «نعم، إن هناك أناسًا يحبون ألَّا يشربوا الخمر في رمضان لتعم عليهم بركاته وينالوا ثوابًا من الله. -عله أن يهديهم سواء السبيل- ومن عجب أن تُتاح مثل هذه الفرصة لهم وهم لا يشربون الخمر طوال شهر كامل، ثم يعودون إلى سالف عهدهم بعد انقضاء رمضان، مع أن شهرًا بدون تعاطي هذه المشروبات يكفي كثيرًا لأن يعود الجسم إلى حالته الطبيعية وتهبط نسبة الكحول في الدم -تلك النسبة العالية التي تسري في المدمنين فتدفعهم إلى الشرب عندما تقل وتنخفض- أما إذا عاد الدم إلى الحالة الطبيعية فيذهب الدافع والحافز ويبقى الشخص -إذا كانت هناك إرادة قوية- بعيدًا عن تعاطي الخمر والمسكرات.
فهل هناك فرصة أغلى من هذه الفرصة في هذا الشهر الكريم لمن وُفِّقوا وصاموا أن يقلعوا عن عادتهم ويحفظوا أنفسهم وأجسامهم، وأراني لست في حاجة إلى أن أسرد مضار الخمر تفصيلًا ويكفي أن أقول إن كل جهاز في الجسم يتأثر بالخمر.
ففي الجهاز العصبي مثلًا نجدها تؤثر على الأعصاب مما يسبب آلامًا في الأطراف خصوصًا أثناء الليل ورجفة في اليدين واضطرابًا في الذاكرة، ثم في التركيز على الفكر والعمل مما يجعل المدمن في النهاية يقوم بأعمال تنافي العرف والقانون، ثم سرعان ما تنفصم عرى الأسرة من خلل اجتماعي أو عقلي وفي الجهاز الهضمي التهاب بالفم والمعدة وقرحة المعدة والاثنى عشر وتليف الكبد، وما يسبب من مضاعفات ربما أودت بحياة المدمن.
ثم تأثر المدمنين من ناحية فقدان الشهية والأمراض التي يعانون منها لنقص في مناعتهم تجاه الأمراض التي يصابون بها، وما أكثر إصابات الالتهاب الرئوي والسل بين المدمنين، وتكون الكارثة لو تعاطى خمرًا يحوي على الكحول الميثيلي فنهايته العمى أو الغيبوبة ثم الموت، هذا عدا صرف المبالغ الطائلة والتي تهز كيان الأسرة الاجتماعي، وما يتبع ذلك من إهمال شديد وتفكك بين أفراد الأسرة الواحدة ثم تأثير ذلك على المجتمع، وما مشكلـــة الملايين من مدمني الخمر في أوروبا وأمريكا عنا ببعيد.
وما يُقال عن الخمر والمسكرات يقال عن الذين يدمنون على تعاطي المخدرات، وتعاطي حبوب منبهة أو مخدرة، كل هذه يمكن الإقلاع عنها، وفرصة شهر دون تعاطيها يجعل الأمر ميسورًا للاستمرار في البعد عنها، حفاظًا على الجسم من أضرارها وما تجره وراءها من مصائب هم في غنى عنها.
هذه بعض العادات الضارة التي أحببتُ أن أضعها أمام القارئ في هذا الشهر الكريم لكي تعم الفائدة، ويكون هذا الشهر شهر بركة عليه وعلى أولاده وعلى بدنه.. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل