الثلاثاء 20-أكتوبر-1981
سؤال نطرحه ونتخيل إجابته معًا لعل في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. اسم فرعون صار مثلًا للطغيان والتكبر والبطش والاستعلاء والفساد في الأرض. وما أروع آيات القرآن الكريم في تقديم فرعون وإبراز صورته نذكر بعضًا منها: ﴿وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ ٱلَّذِينَ طَغَوۡاْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ فَأَكۡثَرُواْ فِيهَا ٱلۡفَسَادَ﴾ (الفجر: 10 - 12)، ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ﴾ (القصص: 4)، ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ﴾ (القصص: 38)، ﴿فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰٓ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ﴾ (النازعات: 20 - 26)، ﴿قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾ (غافر: 29)، ﴿وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ﴾ (الأعراف: 127). وها هو يهدد السحرة بعد إيمانهم: ﴿فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ, قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغۡفِرَ لَنَا خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَيۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ﴾ (طه: 71 - 73)، ﴿فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَشِرۡذِمَةٞ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَٰذِرُونَ﴾ (الشعراء: 53 - 56)، ﴿فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ﴾ (الزخرف: 54).
فكر معي أيها القارئ ماذا يكون واقع وأثر كل هذا الاستعلاء والتكبر وادعاء الألوهية والتهديد والوعيد، إذا لم يكن لفرعون جنود يسمعون له ويطيعون وينفذون أوامره، ويكونون بمثابة الأنياب الشرسة التي يعض بها، والمخالب الحادة التي يفترس بها، والأيدي التي يبطش ويقتل بها؟
لولا هؤلاء الجند لصار كل كلامه وادعائه الألوهية وتهديده ووعيده، زوبعة في فنجان، أو نفخة في رماد كما يقولون، بل ربما ينظر إليه كمجنون يهذي لا يعي ما يقول، وبالتالي لو لم يكن له جنود لما وقع أذى للمستضعفين، ولما حدث فساد ولا حرب لموسى وقومه ولما «تفرعن».
ومن هنا يظهر الإثم الكبير والمسئولية العظيمة التي يتحملها الجنود الذين ينفذون الأوامر بوعي أو بغير وعي، وهكذا نجد الله حمل فرعون ووزراءه وجنوده الإثم والخطأ ولم يعف الجنود: ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِِٔينَ﴾ (القصص: 8)، بل ويشرك الجنود معه في الاستكبار في الأرض وكذلك في الجزاء: ﴿وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ إِلَيۡنَا لَا يُرۡجَعُونَ فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِينَ﴾ (القصص: 39 - 42).
إن هؤلاء الجند من قوات أمن أو شرطة أو جيش، الذين يحملون السلاح ويدربون عليه لحماية الأوطان من الأعداء، إذا بهم يوجهون بالأوامر ضد الأوطان في صورة ضرب القوى الحية المخلصة، ويضللون وتصور لهم هذه العناصر بأنها أعداء الوطن، فهل يراجع هؤلاء موقفهم وما يصدر إليهم من أوامر، فلن يحمل عنهم أحد من كبرائهم وزر ما يفعلون. ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى: ﴿إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةٗ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّاۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡ حَسَرَٰتٍ عَلَيۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ﴾ (البقرة: 166 - 167).
ولا يصح أن يقصر مفهوم الجند على هؤلاء الذين يحملون السلاح أو السياط للتعذيب والقتل فقط، فقد تعددت في أيامنا هذه ألوان الحرب والكيد، فربما كان هناك جنود أشد فتكًا وايذاءً من هذا الصنف، وسنعرض إلى بعض أساليب الحرب وجنودها.
فمن أساليب الحرب الحديثة أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة من إذاعة وتلفزيون، وسينما ومسرح، وصحف ومجلات، وكتب وأشرطة تسجيل وغير ذلك، فهذه يمكنها أن تنال من النفوس ومن الشعوب ما لا يمكن أن ينال بالتهديد والتعذيب والقتل. إن هذه الأجهزة يمكنها أن تقتل الفضيلة وتنشر الرذيلة وتذبح الكرامة والعزة في النفوس، وتمسخ الشخص إلى صورة لا تستطيع أن تحددها أذلك رجل أم امرأة؟ أهو إنسان أم حيوان؟ وذلك حسب ما يقدم له في البرامج من قيم ومثل يقتدي بها تلك النوعيات الممسوخة المشوهة، التي تخلت من كل القيم والمبادئ الربانية السامية، وتخلت عن آدميتها وهبطت إلى الحيوانية والبهيمية في سلوكها ومنطلقاتها في الحياة.
كما تقوم أجهزة الإعلام بقلب الحقائق وتزييف الوقائع لصالح الحاكم، فتصور الأطهار البرءاء مفسدين مجرمين والعكس. وتصور الهدم بناءً والبناء هدمًا، وتصور الخراب إصلاحًا والهزيمة نصرًا وهكذا. وتقوم بتزييف إرادة الشعوب بما تنيعه أو تنشره من تأييدات مصطنعة لتصرفات أو مواقف للحاكم، ولو كان فيها الهلاك والضياع للشعوب والأوطان.
فهل يستشعر كل فرد يعمل في أجهزة الإعلام التي تقوم بهذا الدور، مدى الجرم الذي يرتكبه في حق ربه وشعبه ونفسه، فيراجع نفسه فيصلح أو يتخلى؟
وهناك رجال التشريع في مجالس الشعب أو الشورى أو غير ذلك من هذه المسميات، فهم كذلك من أخطر أسلحة الحرب التي يستعملها الحاكم ضد معارضيه بل ضد شعبه، إذ يوافقون على كل ما يضعه الحاكم من قيود أو قوانين أو عقوبات، أو تجريم للتصرفات لتكتسب الشرعية القانونية أو الدستورية، وهكذا تصبح الصورة أن شعبًا يقيد على يد من يسمون بممثليه في هذه المجالس، ويبدو الحاكم وكأنه بريء من كل ذلك، على أنه هذا رأي الشعب وحكم الشعب، فهل يستشعر كل فرد في هذه المجالس مدى جريمته في حق ربه وشعبه ونفسه، فيراجع نفسه فيصلح أو يتخلى؟
وثمة سلاح آخر يتمثل في رجال النيابة والقضاء، والاستعانة بهم في تلفيق القضايا وإدانة الأبرياء وإصدار الأحكام التي يريدها الحاكم، والتي لا بد أن تأخذ صفتها الشرعية القانونية بالتحقيق ثم الإدانة، ثم الحكم القضائي. هكذا يبتعد الحاكم ويقدم هؤلاء ليحملوا المسئولية كاملة، ومعروف أن الناس من زمن بعيد يحترمون القضاء ورجال القضاء، فهل ينتبه كل فرد من رجال النيابة أو القضاء الذين يكلفون بمثل هذه الأمور، إلى عظم الجرم الذي يرتكبونه أمام ربهم وشعوبهم، فلا يدينون بريئًا ويثبتون الحقائق دون تزييف ويحكمون بالعدل، ويكشفون الزيف ولا يخشون أحدًا إلا الله، فلن يغني أحد عنهم من الله شيئًا؟ وإن حيل بينهم وبين ذلك بما لا يستطيعون دفعه، فليتخلوا ولو كان في ذلك أذى دنيوي لهم، فذلك خير من عذاب الله في الآخرة وحساب الناس لهم في الدنيا.
وهناك سلاح آخر خطير جدًا وهو بعض الأئمة والعلماء الرسميين الذين يتم تطويعهم وتطبيعهم للحكم، فيحارب بهم الإسلام والدعاة إلى الله، ويسخرون لإسكات الدعاة إلى الله، ولإخفات صوت الحق من منابر المساجد، ومنع الكلمات المضيئة بنور الإيمان أن تصدر من فوق هذه المنابر، وتلوي المفاهيم الإسلامية وتصدر الفتاوى الرسمية وفق هوى السلطة. وهكذا يلعب ذهب المعز وسيفه بهم فيفتنوا الناس الذين ينتظرون منهم حكم الله. فهل يراجع كل عالم أو أمام نفسه ويتبين مدى الجرم الذي يرتكبه، سواء بموقف إيجابي لتحقيق ما يحال لدعوة الله، أو بموقف سلبي خوفًا من الفصل أو غير ، فالله هو الرزاق ذو القوة المتين، وليتمثلوا قول الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ﴾ (الأحزاب: 39).
وهناك سلاح التعليم وتنشئة الأجيال في المدارس والجامعات، حيث توضع الخطط والمناهج التي تخدم النظام القائم وترسخ المبادئ والعقائد والمفاهيم اللازمة، وتغير وتمحو من العقول غير ذلك من المفاهيم المناهضة. ومع الزمن والمتابعة تنشأ أجيال سلسة القياد مناصرة متجاوبة مع ما يطلب منها، ويقوم المسئولون في هذا المجال في وزارات التربية وفي الجامعات بتنفيذ ذلك والإشراف عليه، وينفذ المعلمون وهيئات التدريس كذلك ما يطلب منهم، دون تبين لخطورة الرسالة التي يؤدونها، وأثرها على الأجيال ومستقبل البلاد، فهل يراجع هؤلاء موقفهم وتكون لهم شخصيتهم القوية، ويرفضون كل تغيير في المناهج من شأنه أن يسيء أو يضر بتكوين شخصية المواطن الصالح، أو بمستقبل الوطن مع الزمن، فيكون لهم الأجر من الله والتقدير من الناس، وإلا فعليهم الوزر وحسابهم عسير أمام الله والناس.
وهناك فئة منافقة نفعية تافهة تخصصت في التصفيق والهتافات في المناسبات، وييسر لها الاقتراب من الميكروفونات لتصرخ وتصفق، وتوهم الرأي العام المحلي والخارجي أن الجماهير كلها تفدي بالروح والدم، وتؤيد وتناصر إلى آخر هذه العبارات المألوفة الممجوجة. هذه الصور الشائهة التي لا ترى ولا تسمع في البلاد المستقرة الحرة في أنحاء العالم، حتى صار الرأي العام العالمي يعتبر هذه الصور دليل ضعف، يحاول النظام تغطيته وحجبه بهذا التصرف عن طريق أجهزة الإعلام، فمتى الخلاص لبلادنا من تلك النوعية التافهة؟
وبعد، أما آن لهذه الأصناف جميعًا أن يقلعوا عن أكل العيش بالجبن وأن يتمثلوا قول الشاعر:
لا تسقني ماء الحياة بذلة *** واسقني بالعز كأس الحنظل