العنوان محمد جلال كشك.. شرف المهنة والحقيقة والتاريخ
الكاتب د. محمود خليل
تاريخ النشر الثلاثاء 01-أغسطس-2023
مشاهدات 51
نشر في العدد 2182
نشر في الصفحة 47
الثلاثاء 01-أغسطس-2023
عاش محمد جلال كشك عمره الفكري والصحفي، وتاريخه النضالي والحركي، وهو يستطيع أن يدب قلمه في عين العفي وقتما يريد؛ ذلك لأنه كان عملة خاصة من الرجال والمفكرين والسياسيين، وتجار السخرية بالجملة والقطاعي.
والده المرحوم الشيخ محمد علي كشك، القاضي الشرعي، هو أول من أصدر حكماً شرعياً بتكفير البهائيين في عشرينيات القرن الماضي.
وكم كان شيخنا الجليل محمد الغزالي ينصحنا بقراءة 3 كتب بصفة دائمة، هي: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» لأبي الحسن الندوي، و«فقه الزكاة» للشيخ يوسف القرضاوي، و«دخلت الخيل الأزهر» لجلال كشك.
أذكر وأنا طالب بالثانوي أنني كنت أقرأ مسرحيته المبهجة «شرف المهنة» التي عالج من خلالها معايير مهنة الصحافة وضوابطها وأخلاقياتها، والعلاقة الملتبسة بين الصحافة والثورة، ومسح بالنفاق والمنافقين الأرض، من خلال أحداث المسرحية، وحركة شخوصها.
أذكر أن صوتي كان يعلو بالضحك والقهقهة وأنا أتابع صابر البنهاوي، رئيس تحرير مجلة «أبو الهول»، وعلي الطقطوقي، وحسن المنياوي، المحررين بالمجلة، حتى كادت أمي تشك في توازني، وهي تراني أضحك وحيداً، فتتعوّذ حولي بصوت مسموع، وهي لا تعلم أن طائفاً من المبهر جلال كشك يستطيع أن يفعل بقارئه العجب، ولا حرج، فكشك هو كشك والوسطاء يمتنعون!
حتى إن الأديب الكبير يحيى حقي يقول عن هذه المسرحية: «لعلها تكون المرجع الوحيد في التاريخ لهذه الفترة المهمة من حياتنا بعين بصيرة نفاذة صادقة، مؤمنة بوطنها، مخلصة له، فإنها ليست مجرد تاريخ، بل استخلاص للعبرة التي تنفع على مر الأيام، وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأه كل مواطن، فسيبصره بأشياء مذهلة كانت غائبة عنه».
وُلد حطيئة الصحافة السياسية المصرية محمد جلال كشك عام 1929م بقرية المراغة بمحافظة سوهاج، لأب كان يعمل بالقضاء الشرعي، وأُم من نفس العائلة، ذات حسب ونسب، وخلق ودين.
تلقى تعليمه الأوَّلي والثانوي بالقاهرة بمدرسة «بمباقادن» بمنطقة الحلمية الجديدة، بالدرب الأحمر.
تخرج في كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1952م بقسم العلوم السياسية، وكان قد انضم إلى الحزب الشيوعي المصري عام 1946م، قبل أن يلتحق بالجامعة، واعتقل على إثر ذلك، حيث أدى امتحان السنة النهائية من داخل معتقل «هايكستب» الذي دخله بتهمة التحريض على قتل الملك، حيث قاد مظاهرة من زملائه الشيوعيين وهتف ضد حافظ عفيفي، رئيس الديوان الملكي، كما هتفوا بالجمهورية وسقوط الملكية، ولم يفرج عنه من هذا الاعتقال إلا بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م.
أخرج كشك وهو طالب شاب كتابه «مصريون لا طوائف»، ثم أتبعه بكتابه الذي أثار ذعراً وقلقاً لدى دوائر الحكم حينئذ وهو كتاب «الجبهة الشعبية» الذي ظل سراً مكتوماً إلى أن كشفه المستشار الفقيه المؤرخ طارق البشري في كتابه «الحياة السياسية في مصر (1945 - 1952م)»، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الدوائر المختصة أن الكتاب صادر عن منظمة شيوعية تحمل نفس الاسم، وعزز من ذلك الاعتقاد أن الكتاب كان يدرس داخل الخلايا الشيوعية السرية كمنهج دراسي خاص، حتى أشار أخيراً البشري إلى أن صاحب الكتاب هو الباحث المتفرد محمد جلال كشك الذي اعتقل بسببه بتهمة التدبير لقلب نظام الحكم، ولم تسقط عنه القضية إلا بعد ثورة يوليو 1952م.
تفكيك «المانيفستو»!
بدأ المرحوم الفارس كشك عمله الصحفي والفكري مبكراً، حيث أصدر كتابين وهو ما يزال طالباً بالجامعة، كانا بمثابة طلقتين داويتين، وكان حينئذ مغموساً حتى أذنيه في الشيوعية، منظماً، جلاباً لشرها من كل مكان، مفكراً ومفجراً لـ«المانيفستو» الشيوعي، بل كان من أنشط الخلايا السرية الشيوعية!
لكن القلم الحفار لكشك قاده سريعاً من درك الشيوعيين، المتنمرين، إلى درج المفكرين المتميزين، فانتقل بكامل الوعي إلى ساحة الفكر الإسلامي، بعد أن شرَح وشرّح الشيوعية فكراً وتطبيقاً.
ثم مرّ بعدها بمرحلة عدم اتزان، ولكنها كانت فترة كافية لالتقاطه الأنفاس وإعادة التوجه والتوجيه، وتنقل من جرائد «الجمهور المصري» إلى «الجمهورية» إلى أن أبعد عنها بعد اعتقاله لمدة عامين ونصف عام، حين استطاع أن يجاهر عسكر يوليو 1952م برجولة ووطنية، وفهم وثقافة واستشراف، فما كان من عسكر يوليو إلى أن نقلوه للعمل بمجلة «بناء الوطن» تحت الرئاسة المباشرة من الضابط أمين شاكر الذي «وَزَّ» عليه، حتى اعتقل كشك لعدة أشهر، كانت بمثابة كسر جناح.. لكنَّ كشكاً هو كشك!
فسرعان ما ترك لهم الجمل وما حمل، وذهب للعمل بـ«روز اليوسف» عام 1962م كمحرر للشؤون العربية، وظل يعيش هذا الكبد حتى خرج من مصر بعد الهزيمة النكراء في 5 يونيو 1967م، ليعمل بمجلة «الحوادث» اللبنانية، وليتنفس بعضاً من هواء الحرية الغض الطري المنعش الفواح، ليستطيع عن بُعد دك هذه الحصون الناصرية المتورمة كذباً، التي تعمل للرجل أعظم مما تعمل للمشروع، أو الشيوعية المدعية على الأمة بالباطل، وليفكك الماركسية تفكيك الخبير الذي خبر السر، وجاس خلال الديار، فتبّر ما علَت الماركسية تتبيراً، ولم يستطع شيوعي أو ماركسي واحد في المنطقة العربية بأسرها أن يرفع وجهه في وجه كشك، فضلاً عن أن يرد عليه أو ينفي ما قال.
مع العمالقة
وإذا كان المودودي، وتوينبي، وجارودي، وهوفمان، وقطب، والحيدر أبادي، والندوي، وزيدان، والغزالي، والقرضاوي، وشريعتي، والصدر، وعثمان، والفاروقي، ومحمد حسين، ومحمد قطب، من أوائل من فكوا شفرة الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، وفتشوا عن المكنون الغامض، في عمق المشهد المحتدم بين الغرب والإسلام، وأظهروا في وقت مبكر من المعركة معابر النجاة، وجسور التواصل، ومرافئ الأمان، فإن جلال كشك يقف ضمن فريق لا يقل أهمـيــــــــة ولا مرجعيــــة من هذا الصــــف الأصولي العملاق.
فكانت كوكبة أخرى يمثلها المبارك، والدواليبي، وأبو شقة، والجندي، وكشك، وعمارة، ومصطفى محمود، وشفيق، وأبو فهر، وحوى، وخفاجي، وبيجوفيتش، قد خطوا بالفكرة خطوة أمامية، وخاضوا المعركة في مربعها الأمامي، حيث قاموا بحل لغز التعويذة، وأطاحوا بالطوطم الشيوعي، والصنم الماركسي الذي ظل قومه عليه عاكفين، فحرقوه، ثم نسفوه في اليم نسفاً، فردوا إلى الأمة ثقتها بنفسها وربها ومنهجها، وأسسوا من حيث يعلمون لمشروعية الصحوة الإسلامية، التي انتشلت الأمة من الخديعة الكبرى التي وقع فيها المغفلون، وسقط في سرابها المرجفون.
وتحت غبار المعركة، أخرج كشك 54 كتاباً، ومسرحية واحدة غاية في السخرية هي «شرف المهنة»، وإن كنا نعلم أنَّ له 6 مسرحيات أخرى مخطوطة.
ومن الملاحظ أن كل كتابات كشك تطفح بالسخرية المُرة والفكاهة الحارة، والمرارة الساخرة، فهو يذوّب فكرته أحياناً في ماء الورد والسكر، وأحياناً في ماء الصبر والحنظل، وفي كلٍّ فإنه يهندس الفكرة، ويدبب لها سن قلمه، ويدق جذورها في أرض البحث العلمي الرصين، ثم يطلقها في الفضاء البعيد، تتحدى الأعاصير والزعابيب، وتكتسب في كل يوم أرضاً جديدة.
حتى إن أعداءه كانوا يرون أن اغتياله أهون من الرد عليه، خاصة محمد حسنين هيكل، «كبير جورنالجية القوم»، الذي قلّبه كشك على قدميه، كما يتنطط اللاعب الموهوب بالكرة الشراب على وش قدميه، حتى يمل الناس من الفرجة والاستمتاع، خاصة في كتبه الفريدة: «ثورة يوليو الأمريكية»، «الفضيحة.. هيكل يزيف التاريخ»، و«الناصريون قادمون»، أما كتبه «كلمتي للمغفلين»، و«دخلت الخيل الأزهر»، و«إيلي كوهين من جديد»، فكان لها شأن آخر.
لم تكن تقف وراءه مؤسسة، كـ«الأهرام» وراء هيكل، و«الأخبار» وراء مصطفى أمين، ولكن النظام بأسره كان يترصده، ويتهدده، ويتوعده فيغلق في وجهه كل أبواب مصر.
وبعد رحلة الشقاء والعذاب، والغربة والسجون، عاد كشك في السنوات الأخيرة من عمره، ليمتعنا بمقالاته العميقة الرشيقة في مجلة «أكتوبر»، حتى يكتب الله تعالى له هذه النهاية الشاهدة الشهيدة، فلم يكن الرجل يعبأ بأمراضه المتوحشة ولا مظلمته الموحشة، فكنت تراه في كل معركة صاحب القدح العلي، حتى كان ما كان، من نصر حامد أبو زيد وتزويره لأبحاثه العلمية، فناظره الفارس كشك حتى إذا اشتد وطيس المعركة، فإذا بالرجل يصاب بأزمة قلبية حادة، تفيض على إثرها روحه الطاهرة، في 21 جمادى الآخرة 1414هـ/ 5 ديسمبر 1993م، ليتنفس أعداؤه الصعداء، حيث كان المرحوم كشك مثل «دكّاك الزلط والدقشوم»، الذي يسوي بهم الأرض، فلا ترى فيهم عوجاً ولا أمتاً.
وليهنأ كشك بما قدم عند ربه من كلمة صافية ضافية، وفكرة شافية كافية، تعصم من الزلل، وتعين على سواء السبيل.
لكشك عدة رؤى إصلاحية، كان فيها رائداً وقائداً، بل كان في بعضها مغامراً واستشهادياً، يُلقي بنفسه وسط حقول الألغام، فهو أول من هتف بالجمهورية عام 1951م في العهد الملكي، وهو أول من طالب بتأميم قناة السويس وإلغاء الاحتكارات الأجنبية عام 1951م، وهو الوحيد الذي كذَّب علي صبري، وكشف زيف الأرقام التي استند إليها في كتابه «سنوات التحول الاشتراكي» 1961 – 1966م، وفور نشر مقال كشك، تم فصله من رئاسة مجلس إدارة جريدة «الجمهورية» ورئاسة تحريرها.
وهو الوحيد الذي أبرق إلى الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان»، في نوفمبر 1980م، يلومه ويصحّح له خطأه الجسيم، الذي قال فيه لمجلة «التايم» الأمريكية: «إن المسلمين قد عادوا إلى الداء القديم، وهو الاعتقاد بأن طريقهم إلى الجنة هو قتل المسيحيين واليهود»!
فقال له كشك: «إن الحرب المقدسة التي دخلت التاريخ كرمز للتعصب، هي الحرب الصليبية وليست الحرب المحمدية ولا الهلالية، فنحن لسنا الذين اخترعوا الحروب الدينية، وليس ذنبنا أن المعتدين علينا وعلى بلادنا واستقلالنا من المسيحيين واليهود، ولا جريمة إذا اعتقد المسلم الضحية أن الله يرضـــــــى عـــــن الذين يدافعــــــون عن استقلال بلادهم».
وهو الوحيد الذي كشف عوار هيكل وفضحه وجعله يرهب اسمه حتى وهو مطارد خارج البلاد.
وهو الرقم الصعب الذي شهدت الشيوعية والشيوعيون العرب إفلاسهم نظرياً وتطبيقياً على يديه، حتى نشرت «البرافدا» السوفييتية رداً بتوقيع «مايسكي» تقول فيه: إن استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء إلى الاتحاد السوفييتي، وذلك عقب نشره سلسلة مقالاته الشهيرة «خلافنا مع الشيوعية»، فنُفي من الصحافة المصرية من عام 1964 إلى ما بعد عام 1967م، محروماً من كل شيء، وهو الرجل الأشهر الذي وضع ثوار يوليو على المجمرة، وفتح الستار عنهم، وهم بملابسهم الداخلية، فظهرت حقيقة الأمور وانكشف المستور.
وكشك من أوائل من حطموا «الطوطم» لويس عوض، وفضح نظراته التاريخية واعتبرها امتداداً لمدرسة التدجين الاستعماري والعمالة التاريخية لتفسير التاريخ زوراً وبهتاناً.
وهو الذي جرَّد نصر حامد أبو زيد من ملابسه المسروقة، وأصدر حكماً بتجريسه علمياً، ولقي ربه شهيد الحق والحقيقة، في 5 ديسمبر 1993م، وهو يناظره عبر «محطة التلفاز العربية الأمريكية» بواشنطن، حول أشهر قضية نصب علمي مارسها باحث في العصر الحديث، قائلاً: «القضية ليست في التطليق، إنما في التزوير والتلفيق».
واحتدمت المناقشة التي أظهر فيها كشك جريمة اختلاق الوقائع وتلفيق الأحداث التي تورط فيها أبو زيد، فأصيب كشك بأزمة قلبية جراء أمراض قديمة كان يعاني منها، ففاضت روحه إثر هذه الأزمة التي دهمته، ودفن بمصر بناء على وصيته، كما أوصى بأن تدفن معه في قبره 3 كتب، هي: «السعوديون والحل الإسلامي»، و«دخلت الخيل الأزهر»، و«قيل الحمد لله».
وإذا كانت القاعدة التقويمية تقول: «إن الرجال مواقف»، فقد كان كشك كتيبة من الرجال تحمل شرف العشرات من المواقف.
وسلام عليه في الآخرين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل