; مذكرات الحلقة ۱۹ - السلطان عبد الحميد | مجلة المجتمع

العنوان مذكرات الحلقة ۱۹ - السلطان عبد الحميد

الكاتب محمد حرب عبد الحميد

تاريخ النشر الثلاثاء 07-سبتمبر-1976

مشاهدات 17

نشر في 316

نشر في الصفحة 21

الثلاثاء 07-سبتمبر-1976

السلطان عبد الحميد يتحدث عن منفاه في قصر علاء الدين في سلانيك

•سوء المعاملة التي يلقاها في المنفى.

4 نيسان 1333- 1917

بيلربي: -

قصر علاء الدين في سلانيك مشيد في مكان لطيف مطل على البحر.. وإذا ما نحيت جانباً تلك الأيام التي مرت بي فيه على محنة وسجن فإني أقول إنه قصر لطيف للغاية، ولكني في الوقت الذي دخلت فيه هذا القصر اللطيف جداً في ظلمة إحدى الليالي فإنني لم أكن أفهم ماذا سيحدث في حياتي التي كنت سأقضيها فيه من بعد فقد لاحظت سريعاً أن الأشخاص الذين أرسلوني هنا كانوا مضطرين، كانوا خاطئين، ولأنهم كانوا يخافون من كل شيء فإنهم أيضاً كانوا يخافون مني وإلا فإنهم ما كانوا يرسلون سلطاناً معزولاً عن عرشه من أدنى البلاد إلى أقصاها لكي ينام على أسرة من الحشائش بلا غطاء. ولكن خوفاً كبيراً مثل هذا يمكن أن يجعل الإنسان عديم الاحترام إلى هذا القدر. لقد قدموا لنا في أول ليلة لنا هناك من الطعام لا أنقصه الله أرزاً جافاً وقليلاً من الزبادي وأرسل والي سلانيك لي شخصيا صينية طعام فأعدتها. استطاع الأطفال والكبار... أن يأكلوا بأيديهم لعدم وجود ملاعق وشوك وأكواب، ثم ناموا أما أنا فقد قربت كرسيين كبيرين من الطراز القديم ورحت في النوم. أغلقوا الأبواب علينا بالأقفال. كان في حجرتي شمعة صغيرة هيا التي تضيء المكان تذكرت بحزن شديد للغاية مدى اهتمامي بما كان يمكن أن يحتاج إليه كل من مدحت باشا ومحمود باشا عندما أرسلتهما إلى الطائف. ومدى حماسي لتلبيته. والعسكر الذين أنزلوني من على عرشي كانوا هم أيضاً يحملون دمي. لو كانوا يملكون زمام عقولهم ولو للحظة أفهكذا يتصرفون تجاه أطفال سلطانهم الأبرياء حتى ولو كانوا يريدون إيلام سلطانهم؟ لم يكن في المكان ستارة وإنما كانت نوافذ محكمة الإغلاق ولم يسمح للأولاد برؤية الشمس والجو إلا بعد أشهر.

كان فتحي بك قائد الفرقة المكلفة بحراستنا ضابطاً عاقلاً يفهم الكلام ويعيه. كان يتصرف معي ومع أولادي دائماً وفي كل علاقته بما يليق من الاحترام وكان من حين لآخر يسأل عن احتياجاتنا ويفعل ما يستطيعه ويكتب إلى إستانبول فوراً بما لا يستطيعه. أما عن بعض الضباط والجنود الذين يعملون تحت قيادته فلم يكن من الممكن فهم عدائهم لنا ذلك العداء الذي لا مبرر له. كانوا يتنزهون في الحديقة وفي طريقتهم معنى التهديد وينظرون إلى- الشيش- المغلق على النوافذ بنظرات يملؤها الغضب.

كان ابني عبد الرحيم أفندي يخرج إلى الحديقة بين الحين والحين بإذن فتحي بك القائد. وكان يقيم علاقات طيبة مع هؤلاء الضباط. ورأيت ابني وهو يعود إلى القصر باكياً في بعض الأحيان لأن بين هؤلاء الضباط الكثير من الطيبين كما أن بينهم من يشعر تجاهنا بشعور العداء. وبعد تفحص الأمر علمت بأن هؤلاء الضباط الذين نموا بخبزنا وتعلموا في المدارس التي فتحناها ووقعوا تحت تأثير هؤلاء الذين يودون إغراق البلاد هؤلاء الضباط كانوا يسبونني ويشتمونني وفهمت أن هؤلاء الضباط المكلفون بالمحافظة علينا يمكن أن يقتلونا لو وقعت في أيديهم فرصة.

مضى حوالي عام على مجيئنا إلى سلانيك وذات يوم كنت أقف في الشرفة وفجأة انطلق عيار ناري وارتطمت الرصاصة بالحائط الكائن فوق رأسي مباشرة ثم سقطت بين الحصى الذي تحت الشرفة. نظرت فإذا بضابط مختبئ خلف أشجار التافلان صحت قائلاً: من أنت.. اظهر.

في البداية تحركت الشجيرات ثم إذا بضابط ينهض على قدميه ببطء، الضابط يدعى سالم وهو يوزباشي في سلاح المدفعية كان مسدسه ما زال في يده. وكان يمكن أن يطلق النار مرة أخرى فكرت في أن أتراجع ثم فكرت أنني يمكن ألا أهرب من المقدر الذي قدره الله إذا بلغت الأمور هذه الدرجة. الضابط يضع في تلك اللحظة مسدسه في جرابه. قلت له مرة أخرى متسائلاً. ماذا تريد؟ لم ينبس ببنت شفة وابتعد في اتجاه نهاية الحديقة وهو يسير متثاقلاً. وحتى وهو يبتعد كان يديم النظر إلى وجهي بغضب. في ذلك الوقت وصل صوت الطلقة النارية إلى الحراس الآخرين وإلى عائلتي. كان القصر وقتها مليئاً بالصراخ. وفي تلك الأثناء أيضاً كان كل من مرافقي سليم أغا وابني عابد وقهوجي باش علي أفندي يتجولون في الحديقة وهم أيضاً بدورهم جاءوا أسفل الشرفة بناء على صوت الطلقة، فقلت لعلي أفندي.

-ها هي ذي الرصاصة هناك في ذلك المكان. خذها وأعطني إياها فإذا بعلي أفندي المسكين يتولاه الرعب والرجفة وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي لم ينفذ لي فيها أمراً. كان كل جانب منه يرتعش، متقع لونه وقال بصوت يمكن تبينه بصعوبة

-سلطاني، أرجو عفوكم عن عبدكم الحقير هذا. فإني لن أستطيع ذلك. يعني أنه كان يظن أنه إذا أخذ الرصاصة من المكان الذي أشرت له عليه، فإنهم سيقتلونه وإني أعرف ماذا يعني الخوف على الحياة. ولم أتألم لعدم تنفيذه لأمري. 

كان فتحي بك قائد الحرس غير موجود في ذلك الوقت، كان قد ذهب وحل محله ضابط اسمه قول اغاسي راسم بك بعثت بمن يبحث عن القائد. لم يكن في القصر أخبروه بذلك فجاء يعدو. قلت له: أطلق اليوزباشي سليم علينا الرصاص. وها هي ذي الفتحة التي أحدثتها الرصاصة في الجدار وها هي ذي الرصاصة في مكانها الذي وقعت فيه. ما هذا العمل؟ خذ تلك الرصاصة من موضعها واحضرها لي أريد الاحتفاظ بها للذكرى. 

راسم بك كان جندياً خشناً، ولكنه كان مؤدباً اعتذر لي وقال إنه سيبعد سليماً فوراً وسيقدمه إلى مجلس عسكري ليحاكمه وبعد أن هدأني ببعض الكلمات، نزل إلى الحديقة وأخذ الرصاصة من بين الحصى ووضعها في جيبه ولم يحضرها لي. وعندما طلبتها منه مرة أخرى طلب مني العفو والسماح وقال إن الرصاصة بمثابة دليل ولذلك فإنه لن يستطيع تسليمها. سكت. وانتهت هذه الحادثة عند هذا الحد. 

ربما قصور شخصي في، ربما لم أخلق بطلاً، ولكني أخاف ليس فقط من القتل، بل أخاف من أن تدبر مؤامرة لاغتيالي. إني لا أستطيع أن أمس روحاً بأذى ولا أستطيع الرضى بأن يمس أحد روحي. الشيء الوحيد الذي أريده في حياتي هي أن أموت على فراشي مرتاحاً. ومع هذا فإني واجهت الموت كثيراً مرات عديدة وجهاً لوجه عندما اعتدى الثوار الأرمن عليّ، بإلقاء قنبلة، تحول المكان الذي أمام الجامع إلى محشر كانت الأذرع والأرجل تتناثر في الهواء والعجيب أنني لم أخف. انطلقت إلى العربة سائقاً الجياد متوجهاً إلى القصر بمفردي كانت كل مشكلتي وقتها الموتى والجرحى وكذلك لم أخف عندما انطلقت رصاصة اليوزباشي سالم لتخرق الحائط وتستقر في الخشب الذي يعلو رأسي، ساعتها أيضاً لم أخف ولم أضطرب على الإطلاق. لكني أقول مرة أخرى أنني اشمئز دائماً وأخاف من الاغتيال. لكن عندما أتت تلك الساعة لم أحس بشيء. مقصدي من كتابة هذا شرح مسألة أنني لم أكن بعيداً عن محاولات اغتيالي أو التهديد بها وأن حياتي وحياة عائلتي كانت في خطر في الوقت الذي كفلتها دولة المشروطية وجيشها. عشت أنا وأولادي شهوراً عديدة تحت التهديد باغتيالي في الوقت الذي طلبوا مني بإصرار أن أهب ثروتي الشخصية للجيش. الموت وصال لإنسان بلغ سن الشيخوخة، ولكن القتل كان مصدر نفوري طوال حياتي. والذين مارسوا الضغط عليّ غالباً ما اكتشفوا في هذا الإحساس، ومع ذلك فقد كانت لي من الأيام الجميلة التي قضيتها في قصر علاء الدين. فالحياة مع أولادي بشكل متواصل ومواساتي لآلامهم الصغيرة أو التأسف لأنني لم أستطع هذا من قبل، وهذا شيء جميل بناتي يعزفن الماندولين ويغنين وسماعي لأغنياتهن وتفرجي على البحر وشرب الشاي الثقيل لهي السعادة نفسها. وحفظت ذاكرتي جيداً حتى تلك الأيام التي أسفت فيها على أنني لا أستطيع الاشتغال بالنجارة الدقيقة لأن آلات النجارة ليست معي. تغيرت أهمية الأحداث وأبعادها.. عندما كنت حاكماً كنت أرى تمرداً في اليمن شيئاً هاماً، وبعد إبعادي عن مسئولية الحكم وعلى سبيل المثال فقد كان نقل فتحي بك قائد الحرس وتعيين قائد آخر ليحل محله مسألة هامة سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لنا كلنا. 

لم يكونوا يقدمون لنا الكتب والمجلات لنقرأها. ولذلك كنت أعيش وأنا لا أدري شيئاً عما يحدث في العالم. إنه لشيء تضيق النفس به جداً حقيقة أن يجهل إنسان مثلي أعطى أهمية كبيرة للاستخبارات في سنوات حكمه يجهل حتى الأخبار التي تدور في الحي الذي يقيم فيه. لكني تعودت على ذلك فيما بعد. لكن إذا ما علم ابني أو مرافقي شيئاً أثناء تجوالهما في الحديقة فإني كنت أضع لهذه الكلمات التي يأتياني بها تفسيراً على تفسير لفهمها، فلا يستطيع الإنسان أن يبتعد بسهولة عما ألفه. إذ إن العصر يؤذن للصلاة. كفى هذا اليوم. وإن شاء الله سأوالي غداً ذكر بعض الأشياء التي تذكرتها.

ترجمة: الأستاذ محمد حرب عبد الحميد مدرس مسَاعد بكلية الآداب جامعة عين شمس

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل