العنوان مذكرات السلطان عبد الحميد (العدد 315)
الكاتب محمد حرب عبد الحميد
تاريخ النشر الثلاثاء 31-أغسطس-1976
مشاهدات 19
نشر في العدد 315
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 31-أغسطس-1976
إنني أرفض الاستعانة بالنمسا من أجل إعادة عرشي..
السلطان عبد الحميد يتحدث عن الظروف التي سبقت نفسه إلى سلانيك.
۱ نیسان ۱۳۳۳ «۱۹۱۷»
منذ ۳۱ مارت والاضطراب يساورني حتى اليوم الثالث عشر من نيسان، اختل النظام تمامًا في العاصمة، الجنود يقتلون كل من يصادفهم من الضباط ومن بعض المدنيين، فقدت نفوذ مقام الخلافة والسلطنة، لو لم يحدث هذا لما استمر الحال على هذا المنوال من اضطراب وغياب للحكومة، بل ربما أيضاً لم يكن لهذا الحال أن يظهر على الإطلاق، وكما أني رفضت مواجهة الجيش، فإني رفضت أيضاً اقتراح خليل بك، وهو من قواد سلاح البنادق بمواجهتهم، وما زلت أذكر ما قاله هذا العبد الصادق، بعد أن جثى على قدمي وهو يبكي، خليل بك كان في كل ما يفكر فيه متعلقا بسيدة، وقد حددت صداقته بسيدة طريقه إلى حبل المشنقة، إنني أذكر هذا الألباني الرجل الطيب القلب بالترحم وقراءة الفاتحة على روحه قال لي: - تفضلوا بإصدار إذن جلالتكم، لقد أكلت من خبزكم، وتمتعت بنعمتكم سنوات عديدة، لحمي وعظامي، ولحم أولادي وعظامهم نمت بخبزكم، لو سكتنا على اعتداء عدة مجانين على تاجكم وعرشكم، لن نخجل فقط أمام ضميرنا بل سيلحق باسمنا العار أيضاً أمام قومنا وشعبنا.
مسكين خليل باشا.. كم كان مخلصًا وصادقًا عندما قال هذه الكلمات، وكم لم أكن متحكما وقتها في إرادتي فربما كنت أقع تحت تأثير كلماته هذه يا ترى؟ ألم يكن منكسرَ القلب مني عندما أعدم.
سلطانه راض عنه اللهم فارض عنه أيضًا.
كم كان جيش الحركة يشبه الأبطال الخائفين أو الخائفين في صورة الأبطال، كنت سمعت أن المجلس القومي قد انعقد في أيا ستغانوس وبينما القلق يساورني من الخلع ويزعجني كثيرًا، إلا أنه من الغريب أن الفترة من ۳۱ مارت إلى اليوم الذي صدر فيه قرار المجلس القومي هي أكثر الأيام هدوءًا أو اطمئنانًا بالنسبة لي. لأنني كنت واثقًا من تصرفي.
هدمت جمعية الاتحاد والترقي نفوذ الحكومة في نظر الشعب، وهدمت حادثة ٣١ مارت أيضاً قوة الجمعية، ولو لم أكن قد أحسنت استعمال مقام الخلافة ونفوذ السلطنة، لكان الدم يسيل مدرارًا سواء في إستانبول أو في الولايات.
صور الأمر وكأنني طلبت من النمسا أن تحميني شخصيا وتحمي استمرار سلطنتي، كما صور الأمر وكأنني قدمت تضحيات بجانب البوسنة والهرسك، إني أرفض بكامل الاشمئزاز هذه الفرية، فإني لم أتدن وأطلب لنفسي حماية دول وأشخاص أجنبية في أي وقت من الأوقات، كنت أستطيع في ٣١ مارت وما تلاه من أيام أن أفعل ما كنت أريد فعله، فقد كانت كل دولة من الدول المتنافسة مع بعضها البعض ينظرون إلى أعماق عيني
۲ مارت ۱۳۳۳ « ۱۹۱۷»
الأحوال التي ملأت ساحة الأحداث في الفترة ما بين ۱۰ تموز و۳۱ مارت أظهرت قابلية الأمة، واستعدادها ودرجة رشدها، وسدادها، لو كنت أريد لاستطعت أن أجعل قرار العزل قبل إصداره في حال من المحال صدوره، لكني لم أتدن لهذا، وعندما يظن بي الناس الظنون بأني كنت مضطرب النفس بالخوف على حياتي، لم تصدر مني حركة غير انتظار ما ستأتي به الأيام بتوكل وثبات.
كان في يدي حتى الساعة الأخيرة القدرة على الفرار، فلو كنت انسحبت إلى أوربا مدة من الزمن، لكنت أعود مرة أخرى قبل أن يمر وقت كبير، وفي الوقت الذي أعرف فيه هذا، لم أنحط ولا أتدن إلى درجة الفرار. وأعدائي الذين لم تكن لهم مزايا غير مزايا فتوات الشوارع، كان البحث جاريا عنهم في المدن والمنازل التي هربوا إليها واختبأوا فيها، يعني حتى هذه المزية الوحيدة لم يكن لها وجود عندهم.
تأثرت جداً بالطريقة التي أبلغوني فيها قرار خلعي أكثر من الخلع نفسه، فلقد انتخبوا وفدًا من الأعيان والمبعوثان جاءوا بضجة وضجيج حتى وصلوا إلى غرفتي، واجهني واحد منهم بتصرف قبيح غير مهذب، وهو تيرانلي أسعد باشا وقال لي: عزلتك الأمة.
كان أسعد باشا هذا معروفا، ولكن المعلومات التي أعرفها عنه قليل جدا من يعرفها كنت أحب حافظ محمد باشا الأرضرومي وأثق به، أوصاني به المشير درويش باشا عندما كان حافظ محمد باشا متصرفًا على - دراج - كان الأخ الصغير لأسعد باشا هذا يسمى - غنى - وقد بدرت من هذا الأخير بعض التصرفات السيئة، وكان غنى بك وهو شخصية معروفة في قضاء تيران التابع لسنجق تراج مرتبط بعائلة طوبطاني. ولم أر بقاءه هناك مناسبا فقبضوا عليه وأرسلوه إلى إستانبول ثم أرسل إلى برقية عن طريق يوسف رضا بك رئيس لجنة المهاجرين، فأفرجت عنه، ووضعته تحت الحراسة في القصر، كانت هذه الواقعة حسبما أفكر بعد حوادث غلبه واليونان بسنة أو سنتين أي حوالي سنة ٢٠٣ ١٨٨٦ تقريبا. لم يسترح في القصر فنفيته إلى خربوط، وبسبب الشكل الذي أخذته الأحوال في ألبانيا فقد أتیت به إلى إستانبول بعد أن أتى بكفيل له يكفل بألا يحدث أي أمر سيئ بعد ذلك، وجهت إليه منصب - الياور ورقيته حتى رتبة – العقيد- غنى بك كان رجلًا مجرمًا بالطبيعة كما لم يكن أخوه أسعد باشا نظيف الخلق وأعترف بأنني غير محق عندما أعطيته أكثر مما يستحق، ولو كان عاش بعد ذلك فإني كنت بالطبع سأدفع به إلى خربوط مرة أخرى أو حتى إلى أي بلد أكثر بعدا منها.
إن موت غني بك لم يكن حادثا سياسيا، ولم يكن أيضاً نتيجة أخذ بالثأر، غنى بك تحالف مع واحد من طينته يدعى بورصلي حافظ وكانا يقومان بأعمال السلب تحت ضغط التهديد في عدة أماكن مختلفة، ثم دب بينهما الخلاف حول غنيمة سلباها، وفي الحين الذي تقدم غني بك ليقتل حافظا إذ بالثاني يتحرك بحركة أسرع فيقتل غنيا.
وحادثة مقتله كانت هذه، ولأن أسعد باشا كان أخاً للمقتول، فلا بد إذن حسب العرف والعصبية أن يأخذ بثأر أخيه، وفي المكان الذي كان متوقعا تعقب حافظ فيه وقع وفي وضح النهار قتيلا جاويد بك ابن الصدر الأعظم خليل رفعت باشا الذي لم تكن له أدنى علاقة بهذه القضية، ولم يكن له من خطأ سوى إظهاره السرور لمقتل غني بك بعد ذيوع خبر مقتله، قبل عدة أيام في جزيرة بيوك اضه كان مقتل جاويد بك فوق الكوبري وكان القاتل المأجور شخصاً ألبانياً اسمه الحاج مصطفى.
خففت حكم الإعدام الصادر ضد قاتل جاويد بك إلى الحكم المؤبد تجديفًا في السفن، وذلك بدافع من وقاية شخص رفعت باشا وأفراد عائلته من أن يكونوا هدفًا لانتقام آخر، وكذلك بدافع من رجاء رفعت باشا نفسه في هذا الصدد، ولكي أدفع شر أسعد باشا استخدمته فتره في رئاسة قوات الجاندارما.
إن الذين ضموه - وهو الرجل الذي يمثل أخيه غنى بك من كل نواحيه - إلى لجنة المراقبة الوطنية قد أعطوه اعتبارًا كبيرًا جعله يتمكن من الانضمام إلى اللجنة التي ضمت يونانيين وأرمن ويهود وكلفت بتبليغ الخليفة حكم القدر الإلهي، وليجد في نفسه الإمكان ليقول بطريقة ينعدم منها الأدب لسلطان وخليفة لم يسيء إليه بل وتحمل مساوئ كثيرة صدرت منه:
-عزلتك الأمة. ألا فليخجل كثيرًا العازل من المعزول.
۳ - نیسان ۱۳۳۳ « ۱۹۱۷ » بيلربي
بعد رضاء الله يأتي رضاء الخلق وإذا لم يرض الشعب فهذا يعني أن المشروطية معدومة، وبناء على أن مجلس المبعوثان الذي أقيم من جديد لا يرغبني، فلا بد أني كنت سأبعد عن السلطنة، إن ما يحزنني ليس الإبعاد عن السلطنة ولكنها المعاملة غير المحترمة التي ألقاها بعد كلمات أسعد باشا هذه والتي خرجت عن كل حدود الأدب، التفت إلى عارف حكمت باشا وقلت إنني أنحني للشريعة ولقرار مجلس المبعوثان أنى مستريح الضمير وإنما أريد أن يكون معلومة جيداً أنه لم يكن لي أدنى علاقة لا من بعيد ولا من قريب بالأحداث التي تفجرت في ٣١ مارت، وعلى أمتي أن تبحث عن هؤلاء الذين كانوا السبب في هذه الحوادث وعليها أيضاً أن تحاسبهم، إن ما أصاب البلاد العثمانية لكبير في ضرره وإني أشكو حضرة رب العالمين هؤلاء الذين أساءوا إلى بلادي، فقط لي رجاء واحد وهو أن أقضي أواخر أيامي مع أولادي في قصر جراغان – الذي أقام فيه أخي السلطان مراد، اضمنوا لي هذا الأمر، وغدًا أعبر الحديقة
وأقيم في دائرتي.
كان عارف حكمت باشا هذا من الياوران السابقين لي وكان أكثر أعضاء اللجنة أدبًا. وقد حزن لكلامي هذا بدرجة واضحة. أجابني على ذلك قائلًا: إن هذا الأمر خارج عن صلاحية وفدنا وسنعرض يا سيدي رغبتكم الشاهانية على المجلس.
أنهيت حديثي قائلًا لكبير الأمناء على جواد بك الذي كان موجودًا هناك - تابع هذا الأمر وأخبرني بالنتيجة وخرجوا.
كان ابني عبد الرحيم أفندي بجواري يبكي، والصراخ يعلو من ناحية مكان الحريم. كانت أصوات الجنود قادمة من فناء القصر، كما كانت أصوات المدافع آتية من خارج المقصر وهي تعلن مراسم الجلوس.
شيء غريب أحس بالراحة والسكينة إلى آخر حد وكأن جبلًا انزاح من فوق صدري رغم أن حياتي لم تعد آمنة. كان في ذهني المصائب التي عانت بعمي والتفكير في إنني متوضئ يمنحني قوة ذات طعم مختلف. انتظرت وأنا ساكن النفس كان أولادي وبناتي والمرافقون يدخلون ويخرجون من عندي وكل منهم يتحدث بحديث مختلف أو يبكي أو يواسيني وكنت أعرف أن هذا عبث ومع هذا كنت أعمل بكل جهدي على مواساتهم
لا بد من الاستعداد السريع للتوجه إلى هناك.
وكان صعب لو أنني ضغطت على نفسي فإن أولادي لم يكونوا ليرضوا بهذا وإذا أخذتهم معي فإني كنت لا أريد أن تحدث حادثة قط أمام أعينهم. قلت لعلي جواد بك وأنا أتطلع إلى أولادي الذين يتصايحون صارخين مولولين من إنني أقدم كافة التعهدات الشخصية، وليس لي طمع في شيء وآخر شيء أطلبه من أمتي أن أقضي البقية الباقية من عمري مع أولادي في دائرة من دوائر قصر جراغان ولا ينبغي حرماني من رغبة بسيطة مثل هذه.
اكتنفت اللامبالاة شخص كبير الأمناء. فنظرت إلى وجهه فبدأ وكأنه سيجيب ثم سكت وانسحب. فهمت من حركته هذه أن القرار قطعي.
كبير أمنائي كان يعمل على أن يبدو عذب المظهر تجاه أصحاب السلطة الجدد حتى لا يفقد منصبه والحاصل أنه جاء مرة أخرى بعد قليل وأخبرني وبصوت عال هذه المرة - أنني مجبر على الذهاب إلى سلانيك وإن وفدا برئاسة الفريق حسني باشا ينتظرني كي يخرجني من القصر. كان واضحًا أن تصرفه وسلوكه هذا أن الوفد ينتظر أمام الباب فقلت - أدخل الوفد والحقيقة أن وفدًا برئاسة حسني باشا ملأ الغرفة بضجيجه. أعدت عليهم رغبتي. فقال حسني باشا بأقصى درجات الأدب إن من غير الممكن تغيير القرار وإن المجلس يرى من المحظور إقامتي في إستانبول وإنه يمكنني اصطحاب من أريد معي من أفراد عائلتي وإن سلامة حياتي وحياة كل من اصطحبه معي يكفلها الجيش الذي تعهد بشرفه على هذا وبعد أن قال هذا أردف قائلًا:
- سلطاني، إذا لم تقتنع جلالتكم بكلامي هذا فتفضل ها هو ذا مسدسي أقدمه لكم، وسأجلس أمامكم تمامًا في العربة طوال الطريق وإذا أحسستم جلالتكم بذرة من عدم الأمن فاقتلني.
فهمت أنه لا يمكن تغيير أفكار من اتخذوا القرار، ذلك لأنهم لم يكونوا يرون أنفسهم في أمن في إستانبول.
وهذا هو سبب إصرارهم على سلانيك فهناك لهم السيطرة على المكان. وإذا أصررت على التشبث بالإقامة هنا فإنهم سيرتابون جدا أني أعرف أنه لا شيء خطير قدر إنسان لا يحس الثقة بنفسه. فلم أتفوه بشيء آخر ثم قلت - حسنًا - وخرجنا بما علينا فلم يكن هناك وقت يسمح لنا بأخذ أشياء معنا.
كان اتحاديو سلانيك ومناستر قد اتحدوا. لكن الإنجليز والألمان لم يكونوا اتحدوا. في كل لحظة يمكن أن يحدث انفجار جديد. والذين يقدمون على الانفجار كان يمكن أن يفكروا في هوس في ارتقائي العرش من جديد ولهذا السبب كان من الضروري أن أكون بعيدًا عن إستانبول. نعم كان يمكن أن يعملوا حساب كل هذا ولكن لم يكونوا يعرفون أنني لست بالسلطان الذي يرفعه الإنجليز أو الألمان إلى العرش. لا أرى الله حاكمًا قط ذلة أن يكون مدينًا لدولة اجنبية في ارتقائه العرش أو لبسه لتاج.
بكيت بكاء مرا وأنا في القطار وعلى طول الطريق، لم أكن أبكي على نفسي وإنما على الظلام الذي وقعت فيه بلادي، فلو أني كنت موقنًا من أهلية هؤلاء الذين تولوا السلطة في بلادي، ولو أهلية بسيط لإدارة البلاد فواللهِ وباللهِ لاحتسبت ذلك عيدًا بالنسبة لي.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل