; مستقبل أفغانستان.. وجـذور الصراع بين المجاهدين الأفغان | مجلة المجتمع

العنوان مستقبل أفغانستان.. وجـذور الصراع بين المجاهدين الأفغان

الكاتب أحمد منصور

تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1995

مشاهدات 35

نشر في العدد 1168

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 26-سبتمبر-1995

• صواريخ حكميتار علي كابل أوقعت خلال ١٤ شهرًا ٣٠,٠٠٠ قتيل و١٠,٠٠٠ جريح و٥٠٠,٠٠٠ مشرد

• حركة طالبان لها دور محدد يتلخص في القضاء علي الحكومة الإسلامية في كابل والمجيء بنظام بديل.

• أفغانستان تحولت إلي ساحة للصراع الإقليمي وربما يطول الصراع فيها إلي أمد بعيد.

كانت طائرات النظام العميل في كابل تطاردنا وتغير علينا من أن لآخر، فيما كنت أسير خلف البروفيسور برهان الدين رباني وهو يصعد جبل أمان كوت العتيد، الذي يقع جنوب العاصمة الأفغانية كابل بحوالي خمسة وعشرين كيلو مترًا، حيث كان يتفقد مواقع المجاهدين هناك بصحبة البروفيسور عبد رب الرسول سياف في رحلتهما المشتركة الوحيدة التي قاما بها سويًّا إلى مواقع المجاهدين داخل أفغانستان طوال سنوات الجهاد.

كنت الصحفي الوحيد الذي دعياه لصحبتهما، وكان ذلك في شتاء العام ۱۹۸۸م، حيث كان السوفييت لم يخرجوا من أفغانستان بعد، وكان النظام العميل في كابل لا يزال يحكم

قبضته على كافة المدن الكبرى في أفغانستان، وفيما كنا نعاني من إرهاق صعود الجبل الذي استمر أكثر من سبع ساعات دون أن نتمكن من الوصول إلى قمته، كانت رائحة الأعشاب الجبلية الذكية وعيون الماء الباردة العذبة تذهب عنا كثيرًا من العناء.

وبعد غارة جوية مفاجئة أطلقت طائرة خلالها صاروخًا سقط بالقرب منا، وتناثرت شظاياه حولنا، جلسنا قليلًا للراحة والاحتماء من القصف، نظر إلى البروفيسور رباني وقتها وقال بصوته الخفيض المميز وهو يبتسم: لا تقلق يا أحمد فسوف يبدل الله خوفنا هذا أمنًا، ومن يدري فربما يطول بنا العمر حتى نقطف ثمرة جهادنا بأنفسنا، ويسقط النظام العميل في كابل وتقوم الدولة التي ضحى الشعب الأفغاني كل هذه السنوات من أجلها، ساعتها سوف تتذكر هذه اللحظات.. لحظات الخوف، حيث كانت تطاردنا الطائرات في جبال أفغانستان ابتسمت وقتها لهذا الحلم الجميل الذي دغدغ مشاعري وهززت رأسي، فالتقط رباني ابتسامتي وقال لي: ربما يكون كلامنا الآن حلمًا، لكنه قد يصبح حقيقة واقعة في يوم من الأيام.

لم يمض على هذا الموقف أكثر من أربع سنوات حتى أصبح ذلك الحلم حقيقة واقعة وخرج السوفييت من أفغانستان وسقط النظام العميل في كابل، بل أصبح البروفيسور برهان الدين رباني نفسه رئيسًا لدولة أفغانستان منذ عام ۱۹٩٢م وحتى الآن، إلا أن الخوف لم يذهب وإنما تبدل الخوف من طائرات نظام كايل، إلى خوف من صواريخ حكمتيار وطائرات دوستم وهجمات الطالبان، وتحولت أفغانستان إلى ساحة لتصفية الحسابات ولا زال الشعب الأفغاني هو الذي يدفع الثمن.

سقوط نظام کابل واختيار رباني رئيسًا

شهد شهر إبريل من عام ١٩٩٢م تغيرات سريعة على الساحة الأفغانية، فنظام كامل العميل للروس بدأ يتهاوى بشكل كبير، وبدأت المدن والقواعد العسكرية الكبرى تسقط تباعًا في أيدي المجاهدين، واستطاع القائد أحمد شاه مسعود أن يحرر معظم الولايات الشمالية من أيدي القوات الحكومية، ووصل إلى مشارف العاصمة كابل واتفق مع قادتها العسكريين والسياسيين على تسليم المدينة للمجاهدين دون قتال، وأبرق مسعود في أوائل إبريل إلى قادة المجاهدين السياسيين الذين كانوا يقيمون في مدينة بيشاور الباكستانية أن ينبذوا كافة خلافاتهم، ويوحدوا صفوفهم ويتفقوا على صيغة يتسلمون بها الحكم في كابل حيث إن قواته في طريقها إليها بعدما سقطت قاعدة بجرام، الجوية. وهي القاعدة العسكرية الرئيسية التي تحمي العاصمة كابل. في يد قوات مسعود، وبدأت طلائع قوات مسعود في الدخول إلى العاصمة كابل بالفعل في ١٨ إبريل ١٩٩٢م. فيما كان قادة الفصائل في بيشاور لازالوا مختلفين كعادتهم على صيغة اتفاق تضمن توزيعًا متعادلًا للسلطة فيما بينهم وبينما كان يسعى الجميع للوصول إلى حل توفيقي كان حكمتيار يرفض كافة الحلول، ويواصل تهديداته بأن قواته سوف تقتحم العاصمة كابل، وتوجه بالفعل إلى لوجر، التي تقع جنوب كابل في محاولة الدخول كابل قبل مسعود، إلا أنه لم يتمكن، وهنا ظهرت بؤرة المشكلة، وهي كيف يكون أحمد شاه مسعود هو فاتح كابل وليس حكمتيار؟

وبدأ حكمتيار يمطر كابل بالصواريخ بعد دخول قوات مسعود إليها، وسعى قادة المجاهدين لاسترضائه حفاظًا على سفك الدماء، وبعد تدخل أطراف عديدة من بينها باكستان، اتفق المجاهدون في ٢٤ إبريل ١٩٩٤ في بيشاور على أن يكون البروفيسور برهان الدين رباني رئيسًا للدولة. وقلب الدين حكمتيار رئيسًا للوزراء. وأحمد شاه مسعود وزيرًا للدفاع، وسيد أحمد جيلاني وزيرا للخارجية، وعبد رب الرسول سياف وزيرًا للداخلية، وتم تشكيل مجلس مؤقت لاستلام السلطة في كابل لمدة شهرين يتكون من ٥١ عضوًا من قادة المجاهدين برئاسة صبغة الله مجددي، وتسلم مجددي السلطة فعليًّا في كابل في 28/4/1992م، على أن يسلمها الرئيس الدولة برهان الدين رباني في 28/6/1992م. إلا أن حكمتيار أعلن رفضه لهذا الاتفاق وظل يقصف كابل بالصواريخ رغم استيلاء المجاهدين عليها، وحينما وجد أن الجميع قد اتفقوا وبقي هو وحده يعارض رفض أن يدخل كابل، وأعلن أنه قد رشح عبد الصبور فريد- أحد قادته الميدانيين ليكون رئيسًا للوزراء، وقد ذكر المراقبون وقتها أن هذا التعيين هو نكاية لرباني، الذي تسلم السلطة فعليًّا في 28/6/1992م ، ودخل فريد إلى كابل في ١٩٩٢م. فيما بقي حكمتيار في تشار أسياب على بعد ٢٥ كيلو مترًا من كابل يمطرها بالصواريخ من آن لآخر، وقد أدى قصف حكمتيار الكابل بالصواريخ في 10/8/1992م إلى قتل وجرح أكثر من ألف من سكان كابل معظمهم من المدنيين، وقد دفع هذا الأمر بالرئيس رباني في 16/8/1992م إلى إعلانه عزل رئيس الوزراء عبد الصبور فريد، كما أصدر قرارًا بعزل حكمتيار من مجلس قيادة المجاهدين، وأصدر رباني بيانًا شديد اللهجة اتهم فيه حكمتيار به الخيانة، وقال رباني في عبارات شديدة اللهجة: ينبغي على حكمتيار أن يغادر افغانستان فهو إرهابي وخارج على القانون، ورغم عقد مصالحات عديدة بين الرجلين فيما بعد، إلا أن حكمتيار كان يعيد قصف كابل بالصواريخ قبل أن يجف مداد الاتفاق.

وبالتالي فمنذ تسلم البروفيسور رباني مهام الرئاسة في أفغانستان وحتى الآن لم تتح له الفرصة ليفكر بهدوء يومًا واحدًا للإمساك بزمام السلطة وممارسة مهامه الرئاسية، والعمل على استقرار البلاد، وإخراجها من دوامة الصراعات، فقد ورث تركة ثقيلة، إلا أن أصعب ما فيها أن حكمتيار يرفض دائمًا أن ينضوي تحت لوائه، وظل حكمتيار حتى ظهور حركة طالبان في أكتوبر ١٩٩٤م. هو العقبة الرئيسية أمام استقرار حكومة رباني.

جذور الصراع

لم تكن طموحات حكمتيار للسلطة المطلقة في كابل وليدة سقوط النظام الشيوعي في إبريل عام ۱۹۹۲، وإنما هي طموحات قديمة برزت بوضوح حينما أعلن خروجه علنيًّا على قيادة رباني في عام ١٩٧٦م. وتأسيس الحزب الإسلامي الذي حظي بدعم وتأييد خاص من الاستخبارات الباكستانية التي كانت على خلافات قديمة مع حكومة كابل بسبب دعم كابل لمطالب الباشتون الباكستانيين للانفصال بإقليم باشتونستان الحدودي عن باكستان، ومن ثم فقد وجدت باكستان ضالتها في الإسلاميين الأفغان الذين بدأوا بالفرار إليها في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قام بها ضباط موالون لهم ضد نظام داود في عام ١٩٧٤م، وكان برهان الدین رباني- أمير الجمعية الإسلامية، والأستاذ بكلية الشريعة في جامعة كابل- من أوائل الذين تمكنوا من الفرار، وتبعه بعد ذلك عشرات من شباب الحركة الإسلامية، كان من بينهم أحمد شاه مسعود، وقلب الدين حكمتيار، ورغم أن رباني قد اختبأ عدة أشهر في إحدى المناطق القبلية الباكستانية، وكان يتصل بأعضاء الحركة بشكل سري عبر وسطاء من الجماعة الإسلامية في باكستان، إلا أن الاستخبارات الباكستانية علمت بوجوده ووجود عشرات من شباب الحركة الإسلامية معه، مما دفع حاكم إقليم بيشاور إلى طلب اللقاء به، ومنحه الأمان هو ومن معه وسرعان ما رتب له لقاء مع رئيس حكومة باكستان في ذلك الوقت ذو الفقار علي بوتو الذي أبلغه استعداد باكستان لفتح أبوابها لكافة شباب الحركة الإسلامية، وفتح معسكرات لتدريبهم لمواجهة نظام الحكم الذي كان الشيوعيون يديرون معظم شئونه في كابل، لكن رباني بطبيعته الحذرة لم يندفع بالكلية تجاه العروض الباكستانية خوفًا من أن يصبح هو وشباب الحركة الإسلامية أداة في أيدي الاستخبارات الباكستانية يحققون من خلالها أهدافهم تجاه زعزعة النظام في كابل دون أن يحصلوا على الهدف الذي فروا من أجله إلى خارج البلاد.

كان معظم المحيطين برباني من الشباب المتحمسين وعلى رأسهم حكمتيار، فيما كان معظم الكبار قد قبض عليهم وزج بهم في سجون كابل، ومن بينهم المرشد العام للحركة البروفيسور غلام محمد نيازي. عميد كلية الشريعة- الذي أعدمه الشيوعيون بعد استيلائهم على السلطة. وعبد رب الرسول سياف الذي هرب بعد ست سنوات، وأصبح أحد قادة المجاهدين البارزين.

 وفي صيف عام ١٩٧٥م أعدت الاستخبارات الباكستانية خطة لزعزعة الوضع في كابل تستهدف عمل تفجيرات وهجمات على معظم عواصم المحافظات، مما يشكل ضربة قوية للنظام، وأعدت شباب الحركة الإسلامية الأفغان للقيام بهذه المهمة، إلا أن رباني اعترض بشدة على هذه الخطة لما سينجم عنها من قتلى في صفوف المدنيين الأفغان علاوة على مقتل معظم الشباب الذين سيقومون بهذه العمليات أو اعتقالهم، لأن عددهم كان قليلًا في ذلك الوقت، ولا يمكن أن يقلب نظام حكم، كما أن رد الشعب الأفغاني لم يتهيأ بعد للتعاون معهم، ومع رفض رباني تحمس حكمتيار وتحمس الشباب للعملية، والتقى حكمتيار بضباط المخابرات الباكستانيين، واتفق معهم على التنفيذ دون الرجوع لرباني وقد حدث خلاف شديد بعد تنفيذ العملية بين كل من مسعود وحكمتيار، حيث اكتشف مسعود بعد ذهابه إلى وادي بنجشير، مع مجموعة من الشباب وقيامهم بتنفيذ ما طلب منهم أنهم لم يكونوا سوى ضحية لأوهام حكمتيار وتصرفه الفردي وكان هذا بداية الخلاف بين تفكير كل من مسعود وحكمتيار، ذلك الخلاف الذي أخذت هوته تتسع فيما بعد بينهما حتى وصلت إلى مرحلة عدم الالتقاء لاسيما بعد فشل تلك العملية في عام ١٩٧٥م حيث قتل فيها أكثر من أربعون من خيرة شباب الحركة الإسلامية في أفغانستان واعتقل آخرون ولم ينج سوى عدد قليل.

كانت هذه الحادثة محورًا أساسيًّا في ترتيبات جديدة أعدتها باكستان في دعمها

للحركة الجهادية الأفغانية الوليدة، فقد وجدت في حكمتيار الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين في ذلك الوقت أنه الشخص المناسب للاتفاق معه ودعمه لتحقيق أهدافها في زعزعة الوضع في أفغانستان، وأعلن حكمتيار في عام ١٩٧٦م، عن ولادة الحزب الإسلامي الذي اعتبره امتدادًا للحركة الإسلامية الطلابية التي أسست في أفغانستان عام ١٩٦٨م، والتي لم تكن سوى الجناح الطلابي للحركة الأم التي أسسها البروفيسور غلام محمد نيازي بعد عودته من مصر في عام ١٩٥٨م. ووجد رباني الذي كان قد قام بعدة جولات خارجية في ذلك الوقت للتعريف بقضية بلاده شملت كلًّا من السعودية ومصر، وإيران وجد نفسه قد أصبح في عزلة مع نفر قليل من مؤيديه بعدما أصبح الدعم الباكستاني يصب كله باتجاه حكمتيار، والشباب الذين التفوا حوله، مما مكنه من تدبير أمورهم من السكنى والمطعم والملبس. فيما كان بعض أتباع رباني يعملون حمالين في الأسواق من أجل تدبير شئون حياتهم، وبدأ نجم حكمتيار يصعد شيئًا فشيئًا، حتى برز بقوة بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في انقلاب دموي على حكم داود في إبريل عام ۱۹۷۸، حيث توافد عشرات الآلاف من الأفغان مهاجرين إلى پاکستان وإيران، وبدأ هؤلاء بالالتفاف حول القادة الذين هاجروا من قبل.

 ونظرًا لأن رباني لم يتوقف عن الحركة الدؤوية الهادئة بعدما تخلت الاستخبارات الباكستانية عن دعمه في البداية، فقد بدأ كثير من الشباب الذين كانوا يختلفون مع حكمتيار أو المقتنعين بمكانة رباني وسياسته يلتفون حوله حتى وجدت الاستخبارات الباكستانية نفسها في وضع لا يمكن أن تتجاهل فيه وضع رباني ومن حوله، إلا أن الدعم الأساسي ظل لحكمتيار، لكن سقوط كابل بيد الشيوعيين وانتشار أخبار الجهاد والمجاهدين، وبداية دخول أفغانستان في صراع إقليمي دولي بين القوتين العظميين في ذلك الوقت أدى إلى إيجاد زعامات جديدة تمثلت في بيير سيد أحمد جيلاني- زعيم إحدى الحركات الصوفية. وصبغة الله مجددي- الذي كان رئيسًا لأحد المراكز الإسلامية في أوروبا في ذلك الوقت حيث أعلنا عن تشكيل حزبين جديدين في عام ۱۹۷۸م، وفي نفس العام حدثت خلافات بين رباني وحكمتيار بعد تشكيل اتحاد بينهما تعرض مسعود خلاله إلى محاولة اغتيال نجا منها، واتهم حكمتيار بتدبيرها، حيث أخذ طریقه بعدها إلى أفغانستان، التي بقي فيها مقاتلًا، ولم يغادرها طوال سنوات الجهاد واستطاع بما حققه من انتصارات عسكرية على السوفييت في أوائل الثمانينيات أن يصبح أشهر قائد عسكري أفغاني وأحد أشهر قادة حرب العصابات في العصر الحديث، لا سيما بعدما نجح في دحر أربع حملات عسكرية سوفيتية كبيرة على وادي بنجشير، الذي كان مقرًّا له. وبدأ مسعود في عام ١٩٨٥م تأسيس جيش منظم وصل تعداده عندما دخل العاصمة كابل وأحكم قبضته عليها في ٢٦/ ٤ / ١٩٩٢م عشرين ألف مقاتل

ومنذ توتر العلاقات بين حكمتيار ومسعود في عام ۱۹۷۵م. انعدمت الثقة بينهما وزاد من انعدامها محاولة الاغتيال التي تعرض لها مسعود في عام ۱۹۷۸م، ثم معارك طاحنة قام بها قادة الحزب الإسلامي ضد قوات مسعود في شمال أفغانستان طوال سنوات الجهاد، وكانت مذبحة تخار، التي قتل فيها ما يقرب من ستين مقاتلًا بينهم أبرز قادة مسعود في الشمال في يوليو ۱۹۸۹م. في كمين أعده لهم سيد جمال- قائد الحزب الإسلامي هناك- من أشد الضربات التي تعرض لها مسعود على يد قوات حكمتيار مما دفع مسعود إلى التصريح وقتها بحدة إلى مراسل صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية قائلًا: «إن شهوة حكمتيار للسلطة عظيمة إلى درجة أنه لا يمكن أن يتصور أن هنالك من يمكن أن ينجح بعيدًا عنه، إن تصرفه هو تصرف إرهابي يائس».

 ولم يهدأ مسعود حتى قبض على سيد جمال حيًّا وأعدمه بعد محاكمته علنًا في سوق تخار ورغم أن مسعود التقى حكمتيار في مركز قيادة حكمتيار، ووقع معه اتفاقًا في ١٩٩٢/٥/٢٥م. يتوقف حكمتيار بموجبه عن قصف العاصمة كابل ويعمل الطرفان على إجراء انتخابات خلال ستة أشهر، إلا أن مسعود ما كاد يصل إلى كابل حتى كانت صواريخ حكمتيار تدك أرجاء العاصمة، وفشل الاتفاق قبل أن يجف مداده.

مطالب حکمتیار

عوامل عديدة جعلت حكمتيار من البداية في موقع الصدارة، منها: حماسه واندفاعه، وقدرته على التأثير فيمن حوله والمغامرة بمن معه، علاوة على تصريحات قوية، وخطب نارية، تدغدغ العواطف، وتصلح مانشيتات للصحف، يدعمها جهاز إعلامي كان يعتبر أفضل الأجهزة الإعلامية لدى المنظمات الجهادية، مع دعم عسكري ومادي كبير ومميز من المساعدات العسكرية التي كانت تصل إلى المجاهدين عبر الاستخبارات الباكستانية، حيث كان حكمتيار في أضعف حالاته يحصل على ما يقرب من خمسين في المائة من الدعم العام، فيما توزع النسبة الأخرى على باقي الفصائل، وقد قدرت مجلة «التايم» الأمريكية في تقرير لها نشرته في أغسطس عام ۱۹۹۲م. حجم الدعم العسكري المعلوم الذي حصل عليه حكمتيار عن طريق الاستخبارات الباكستانية التي كانت ترتب أوراقها مع الـ"سي أي إيه" بأنه يصل إلى تسعة مليارات دولار، وأن النسبة العالية من هذه الأسلحة كانت مخزنة في ذلك الوقت في أفغانستان لاستخدامها ضد المنظمات الجهادية الأخرى حسب مصادر «التايم»، ولم تستخدم حسبما كان مقررًا ضد السوفييت أو النظام العميل في كابل، وقال التقرير: «إننا طوال سنوات الجهاد لا نستطيع أن نحصي حجم العمليات العسكرية الكبيرة التي قام بها حكمتيار ضد السوفييت لكننا نستطيع أن نحصي حجم العمليات التي قام بها ضد باقي المجاهدين».

أما مطالب حكمتيار على مدار سنوات الجهاد وما بعدها، فقد كان يوجزها دائمًا في المطالبة بإسقاط من يقف أمامه أيًّا كان، فحينما كان النظام العميل في كابل هو الهدف الرئيسي، كانت مطالب حكمتيار الرئيسية تتلخص في إسقاط نظام كابل وحينما سقط نظام كابل طالب بإسقاط أو تنحية من حلوا مكان نظام كابل من قادة المجاهدين، ففي البداية رفض وجود مجددي، ولو بشكل مؤقت وبعد وصول رباني للرئاسة طالب بتنحية رباني، ثم طالب بإسقاطه، وحينما شكلت الحكومة وكان مسعود هو وزير الدفاع طالب بتنحية مسعود وتعيين وزير آخر للدفاع، ورغم تلبية طلبه فقد ظل يضع الشروط تلو الشروط حتى يصل إلى اشتراط المستحيل، ثم يحمل غيره المسؤولية عن النتائج، وقد أوجز المحلل الفرنسي جان كليرك. المتخصص في شئون أفغانستان- وصف مطالب حكمتيار وشروطه في تحليل نشرته لوموند في 10/5/1992م، قائلًا: «لقد اشتهر حكمتيار بين الأفغان بأنه الرجل الذي يقول «لا» دائمًا»، أما روبيرت جرين بيرجر- المحلل في «وول ستريت» جورنال، فقد قال: «لقد كان رهان الولايات المتحدة على حكمتيار رهانًا خاسرًا مثل رهانها على صدام حسين» ويقول جيمس فيليب- نائب مدير السياسة الخارجية في مؤسسة هيرتيج الأمريكية.. «إن حكمتيار يسعى للاستحواذ على السلطات المطلقة في كابل، أما الشروط تلو الشروط التي يضعها أمام حكومة رباني، فلا تهدف إلا إلى وضع العراقيل الكأداء أمام رباني»

 ولم يسلم حكمتيار من انتقادات قادة المجاهدين وعلى رأسهم الرئيس رباني، ففي بداية العام ١٩٩٤م، أبلغني الرئيس الأفغاني برهان الدين رباني في حوار أجريته معه بأنه على قناعة تامة بأنه لو أستجاب لكافة مطالب حكمتيار، فإن حكمتيار لن يقبل بشيء أقل من كرسي الرئاسة في كابل ولو كان ذلك على جماجم الشعب الأفغاني كله، وقال رباني بأسى: «لقد أحدث حكمتيار من الدمار والقتل في العاصمة كابل ما لم يحدث لها وهي تحت سيطرة النظام الشيوعي». 

ولم يذهب الصحفي البريطاني الشهير ساندي جل الذي يعتبر من أكثر الصحفيين الغربيين معرفة ودراية بقضية أفغانستان- لم يذهب بعيدًا عما قاله رباني، وفي تقرير نشرته «الإيندبندنت» البريطانية «لجل»، بعد زيارته الحكمتيار في تشار أسياب في يوليو ۱۹۹۳م، قال جل بعينيه: «القائمتين ولحيته وعمامته السوداوين يبدو قلب الدين حكمتيار.. رئيس حكومة أفغانستان- مثل العنكبوت الذي يقبع وسط نسيجه هو يتحدث بلطف ويبتسم كثيرًا لكن الكثيرين من الأفغان لا يرون فيه سوى بول بوت آخر في هذا العالم، فهذا الرجل مثل بول بوت زعيم الخمير الحمر الذي أعاد كمبوديا إلى العصر الحجري، ومسح مليون شخص من عالم الوجود، فهو يريد الاستحواذ على السلطة بأي ثمن، فخلف ابتسامته يختفي رجل غاصب شرس لا يرحم، ولذا يقوم أنصاره بإمطار العاصمة كابل بسيل من الصواريخ بين فترة وأخرى، حتى أنه في يوم واحد أمطرها بـ ٦٥٠ صاروخًا، وقد أدى هذا القصف طوال أربعة عشر شهرًا من عمر حكومة رباني إلى مقتل ثلاثين ألف مدني على الأقل، وإصابة ١٠٠ الف آخرين بجراح، هذا خلاف تسببه في فرار وتهجير ما لا يقل عن نصف مليون شخص من العاصمة».

وتصديقًا لبعض ما ذكره «جل»، والباحثون الآخرون، ففي جولة طويلة قمت بها في شتاء عام ١٩٨٩م إلى مواقع المجاهدين المحيطة بالعاصمة الأفغانية كابل كان من بين القادة الميدانيين الذين التقيت بهم قائدان بارزان كانا يعتبران من أبرز القادة الميدانيين لدى حكمتيار، لكنهما خرجا عليه وانضما إلى تنظيمات جهادية أخرى:

 أما الأول: فهو القائد بلال نيرام، وكان يعتبر من أبرز قادة المجاهدين حول كابل، وكان قد أعلن خروجه على حكمتيار في عام ١٩٨٦م. وبعد جلستين مطولتين معه قلت له: هل يمكن أن تحدثني عن أسباب خروجك على حكمتيار؟ وقد كنت واحدًا من أبرز قادته الميدانيين؟ صمت نيرام قليلًا ثم قال: «إن أسباب خروجي على حكمتيار أعلنتها صراحة أمام مجلس شورى الحزب، وأوجزها في سبيين أما الأول فهو ديكتاتوريته المتسلطة، والتي لا تقبل الرأي أو الندية، والثاني وهو الأخطر أن حكمتيار كان يقوم بتصفية قادة المجاهدين الذين يخرجون عليه، معتبرًا إياهم خارجين على البيعة، فأخبره كثير من العلماء أن البيعة المقصودة هنا هي بيعة خليفة المسلمين، وليست بيعة قائد تنظيم، لكنه يصر على رأيه ويكلف أعوانه بالفعل بتصفية قادة المجاهدين الآخرين»، ثم أضاف نيرام: «لكن الأزمة الكبرى التي حدثت بيني وبينه حينما طلب مني أن أقوم بواحدة من هذه المهمات القذرة فعلى الدم في عروقي، وأعلنت خروجي عليه أمام الجميع رافضًا أن أتحول من مجاهد يعلي راية الله إلى قاتل الإخواني المجاهدين، ولم أكتف بذلك وإنما نكاية فيه بحثت عن أبرز قادة المنظمات الذين يتبادلون الكراهية مع حكمتيار فوجدت صبغة الله مجددي، ورغم أني من أبناء الحركة الإسلامية، إلا أني أعلنت انضمامي المجددي نكاية في حكمتيار».

 أما الثاني: فهو القاضي رحيمي، أبرز قادة المجاهدين في «ميدان» التي تقع جنوب العاصمة کابل، وقد قال القاضي رحيمي لي وهو يتحدث بأسى: تعرف أني كنت قاضيًا في أفغانستان قبل بداية الجهاد، ومن البداية أخذني حماس حكمتيار، فأعلنت انضمامي له، وبعد فترة بدأت خلافاتي معه حول عمليات التصفية التي يقوم بها القادة المجاهدين الميدانيين الآخرين، وصعقت حينما وصلتني رسالة منه يطلب مني فيها أن أشارك في تصفية بعض القادة الميدانيين، فأعلنت رفضي بشدة وخروجي على الحزب، وانضممت إلى الأستاذ سياف، فقد كان أستاذي في كلية الشريعة، إلا أني لم أسلم من حكمتيار، وحاول قادته هنا اغتيالي ثلاث مرات، كان آخرها كمين أعدوه لنا قبل شهر، وكنت في طريقي ليلًا مع أكثر من مائة من المجاهدين للقيام بعملية جهادية ضد القوات الشيوعية أخذنا نعد لها طويلًا، إلا أنه يبدو أن أحد قادة حكمتيار قد علم بتحركنا فنصب لنا كمينًا في الطريق بأوامر من حكمتيار. وبدلًا من أن يقوم بقتال الشيوعيين قاتل إخوانه المجاهدين، ومنعنا من القيام بتنفيذ العملية ضد الشيوعيين، وقد قتل وجرح في صفوفنا في هذا اليوم ثلاثة عشر مجاهدًا»

 ولعل من أبرز الذين اختلفوا مع حكمتيار وخرجوا عليه مولوي يونس خالص- رئيس الحزب الإسلامي- حيث كان أحد قادة حكمتيار، وحتى عام ١٩٧٩م، حيث أعلن خروجه على حكمتيار وتشكيل الفرع الثاني للحزب الإسلامي، الذي كان أحد الفصائل السبعة الكبرى، وكان يعرف باسم «الحزب الإسلامي- خالص»

أما حكمتيار نفسه فتصريحاته وأقواله التي كان طلبة المدارس الابتدائية في المدارس التابعة للحزب الإسلامي في پاکستان يحفظون كثيرًا منها فإنها أكبر من أن يتم حصرها، لكني حصلت على تصريحين له في فترتين متباعدتين لخص فيهما طبائع شخصيته ومطالبه.

أما التصريح الأول: فقد نشرته «الشرق الأوسط»، بتاريخ ٢٧/ ٤ / ١٩٩٢م عن مؤتمر صحفي عقده قبل أيام من سقوط كابل بيد أحمد شاه مسعود قال فيه متحدثًا عن نفسه «إننا تريد أن تدخل كابل ظافرين، لا نريد سلامًا من خلال دبلوماسية الأخذ والعطاء نريد أن يركع المهزوم أمام المنتصر؛ نريد دمًا، فالدم وحده هو القادر على غسل جرائم الشيوعيين والخونة الذين يريدون إنقاذهم». وكان ينتقد بذلك قبول مسعود باستسلام نظام کابل مقابل العفو عن المستسلمين حفظًا لسفك الدماء. 

وأما التصريح الثاني فقد أدلى به لصحيفة «الحياة»، ونشرته في٩\٩\١٩٩٥م. أي قبل أيام، ولخص فيه مطلبه الأساسي بقوله «من دوني لن يهنأ حاكم في كابل، ولن يستطيع أحد يدير دفة الحكم في كابل بدوني».

 ولعل هذا ما دفع حكمتيار إلى أن يسلك كافة السبل طوال سنوات الجهاد وما بعدها لتحقيق هدفه الأساسي دون مراعاة لشيء، فحينما قام رباني بزيارة الولايات المتحدة، ولقاء الرئيس ريجان في عام ١٩٨٦، نال رباني من الانتقادات على لسان حكمتيار ما لا نهاية له. وقبل عودة رباني من الولايات المتحدة تسربت معلومات صحفية في بيشاور تفيد لقاء حكمتيار سرًّا مع ديبلوماسيين أمريكيين في باكستان.

وفي عام ۱۹۸۹ م حصلت على معلومات خاصة أثناء عملي الصحفي في باكستان تفيد بوجود اتصالات سرية بين حكمتيار والروس عمرها أربع سنوات، وأن زوج ابنته "غيرت بهير" يقوم بدور في هذه الاتصالات التي تمت في عواصم أوروبية، وقد حملت هذه المعلومات مع قضايا أخرى، وسألت عنها حكمتيار في حوار نشرته «المجتمع»، في ذلك الوقت، فأقر بوجود اتصالات له مع السوفييت، لكنه رفض تأكيد تاريخ بدايتها، ومن الذي يقوم بها، وفي مارس ۱۹۹۰م اتفق حكمتيار سرًّا مع شاه نواز ثاناي- وزير الدفاع في حكومة كابل في ذلك الوقت، ورئيس الجناح المتشدد في الحزب الشيوعي الأفغاني «خلق». على أن يقوم ثاناي بانقلاب ضد الرئيس نجيب رئيس جناح «برشم»، يتقاسم على إثره حكمتيار السلطة مع ثاناي، وقام تاناي بالانقلاب بالفعل لكنه فشل، وفر تاناي إلى پاکستان فور فشل الانقلاب مع بعض قادته، وظل حكمتيار يعقد مؤتمرات صحفية مرتين في اليوم في بيشاور الإقناع الصحفيين بأن فرصة نجاح الانقلاب لازالت قائمة، وحينما سألت حكمتيار وقتها عن شكل الحكومة التي كانت ستقوم في أفغانستان حال نجاح الانقلاب؟ قال: «حكومة إسلامية»، فقلت له: «حكومة إسلامية» بالاشتراك مع الشيوعيين؟، فقال ببساطة «لقد كان ثاناي سيسلم كل شيء «لنا».. لكني حينما سألت ثاناي بعد ذلك قال لي: «حكومة مشتركة بيننا وبين حكمتيار؛ فهل يعقل أن نعرض أنفسنا للقتل ثم نسلم لغيرنا السلطة؟» 

أما بعد سقوط كابل بید المجاهدين وقيام حكومة رباني فقد كان حكمتيار يقصف كابل ليل نهار بحجة وجود المليشيا الأوزبكية التي يقودها عبد الرشيد دوستم في المدينة وحينما أخرج مسعود المليشيات الأوزبكية تحالف حكمتيار مع المليشيات الأوزبكية ضد حكومة رباني واستمر يقصف كابل بحجة وجود المليشيات التابعة الحزب الوحدة الشيعي بها. وحينما قامت معارك بين حزب الوحدة وحكومة رباني تحالف حكمتيار مع حزب الوحدة ضد حكومة رباني، وقد حصلت من مصادر المجاهدين وقتها على شريط كاسيت يتضمن اتصالًا لاسلكيًّا بين حكمتيار وعبد العلي مزاري- رئيس حزب الوحدة. يطلب فيه حكمتيار من مزاري قصف مواقع تابعة لسياف ومسعود حول كابل.

 ثم جمع حكمتيار كل هؤلاء «دوستم وحزب الوحدة، وحتى عدوه اللدود مجددي» وشكل معهم تحالفًا للقضاء على حكومة رباني، ثم جاءت حركة طالبان التي ظهرت- في أكتوبر ١٩٩٤م، فتقهقرت قوات حكمتيار أمامها حتى أنه اضطر للفرار من معقله الرئيسي الذي كان قاعدة سوفيتية حصينة. في تشار أسباب مخلفًا وراء كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد إلى موقعه الأخير في سروبي، ثم ظل. بعدها مختفيًا عن وسائل الإعلام ما يقرب من ستة أشهر، ثم ظهر في بداية سبتمبر ١٩٩٥م في باكستان في محاولة لإعادة روابطه من جديد لكن يبدو أن الذين صنعوه أصبحوا يعتبرونه الآن ورقة خاسرة وبدلوا رهانهم به إلى حركة طالبان.

طالبان.. النشأة.. والهدف

منذ سقوط النظام العميل في كابل واستيلاء المجاهدين على السلطة في إبريل ۱۹۹۲م وحتى 1 أكتوبر ١٩٩٤م، كان الوضع في أفغانستان على ما هو عليه، فهناك أربع قوى رئيسية متصارعة على الساحة هي القوات الحكومية التابعة للرئيس رباني وحلفائه، وقوات الحزب الإسلامي التابعة لقلب الدين حكمتيار، وقوات حزب الوحدة الذي يضم تحالف الأحزاب الشيعية برئاسة عبد العلي مزاري وقوات الجنرال الأوزبكي عبد الرشيد دوستم. وكان الثلاثة الآخرون قد تحالفوا تحالفًا غير مقدس ضد القوات الحكومية. لكن الحرب كانت سجالًا بينهم وبين الحكومة التي كانت تقاتل على ثلاث جبهات، وقد أدى هذا الوضع إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية داخل افغانستان، فحكومة الرئيس رباني ظلت مشغولة بدفع الأخطار المحيطة بها من الشمال والجنوب والغرب، ولم تتح لها فرصة هدنة ليوم واحد لتعيد بناء الدولة

أما الأطراف الأخرى فقد كانت مشغولة بحربها ضد الحكومة، وقد أدى هذا إلى انتشار الفوضى والفساد، وعدم الاستقرار في معظم المناطق الأخرى، وظل هذا الوضع على ما هو عليه حتى برزت فجأة على الساحة الأفغانية في أكتوبر ١٩٩٤م. قوة جديدة كاسحة انطلقت من إقليم قندهار الجنوبي وتحديدًا من منطقة شمن الحدودية المجاورة لباكستان تسمى حركة «طالبان» وتعود جذور التفكير في تكوين حركة «طالبان» إلى إبريل ۱۹۹۳م، حينما قام وقد من الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي. أي. إيه». يرافقه وفد من جهاز المباحث الفيدرالية «إف. بي.أي» بزيارة باكستان للبحث في ملفات ما أطلق عليهم «الأفغان العرب»، والذين كانت تحوم حولهم الشبهات في تورطهم في تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في فبراير ١٩٩٣م. وذلك حسب الادعاء الأمريكي- ودرس الوفد وقتها أوضاع أفغانستان بدقة، ورجع بتوصية إلى الإدارة الأمريكية مفادها ضرورة الضغط على باكستان من أجل وقف دعمها وروابط جهاز أستخباراتها مع قلب الدين حكمتيار على أعتبار أن حكمتيار لم يعد الرجل الذي يمكن أن يحقق مصالح الطرفين في المنطقة، كما أن خطبه النارية وتهديداته القوية كانت تصلح المرحلة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، ونظام كابل العميل والحرب الباردة بين القطبين، أما الآن فهذا كله قد تغير، لكن حكمتيار لم يتغير، ولم يعد يقبل حتى بالحلول التي يطرحها حلفاؤه الباكستانيون.

 وكان الضغط داخل الإدارة الأمريكية بعدم الثقة في تقارير الاستخبارات الباكستانية حول توزيع القوى في أفغانستان، ومن ثم توزيع المساعدات العسكرية والمادية التي كان حكمتيار يأخذ منها نصيب الأسد، قد تفجر في ۳۱ يناير ۱۹۹۰م حينما وجه أربعة عشر عضوًا من أعضاء الكونجرس الأمريكي- بينهم نیوت جنجرتش الرئيس الحالي للكونجرس- رسالة إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، وصفت بأنها ذات لهجة شديدة عبروا فيها عن ذهولهم من الاختلاف بين المعلومات التي الجذري ينقلها المسؤولون الأمريكيون والاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية، وتلك التي ترد من مصادر ثقة داخل المقاومة الأفغانية، وقال هؤلاء في رسالتهم التي نشرت «الوفيجارو» الفرنسية مقتطفات منها في مارس ۱۹۹۵م. «إننا نرغب في وضع حد للإشراف الحصري للاستخبارات العسكرية الباكستانية على المساعدة الأمريكية للمقاومة الأفغانية، ونطلب منكم باحترام أن تدعو القائد أحمد شاه مسعود لزيارة واشنطن»

وكانت الاستخبارات الباكستانية منذ بداية تدفق المساعدات الأمريكية بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة في ۱۹۷۸م هي التي تقوم بتوزيع الحصص على المنظمات الجهادية وكنت في عام ۱۹۸۸ قد سألت كلًّا من الرئيس الحالي برهان الدين رباني والبروفيسور عبد رب الرسول سياف كل منهما على حدة عن كيفية توزيع حصص السلاح والمساعدات التي تقدمها الاستخبارات الباكستانية للمنظمات الجهادية فقال رباني «ما نعلمه أن حكمتيار يأخذ نصيب الأسد، لكننا لا نعلم حجم المساعدات، ولا نسب التوزيع بالضبط ولا الجهات التي تقوم بالتمويل وإرسال المساعدات، فهذه من الأسرار العسكرية لجهاز الاستخبارات الباكستاني، أما سياف فقد أكد لي على أن هذه من الأسرار العسكرية لجهاز الاستخبارات الباكستاني، لكنه عرف من مصادر خاصة داخل الجهاز أن حكمتيار كان يأخذ %٧٠ من قيمة المساعدات والنسبة الباقية توزع على باقي المنظمات، لكن هذه النسبة انخفضت في آخر سنوات الجهاد إلى ٥٠ % إلى حكمتيار بعد بروز قادة عسكريين أقوياء داخل أفغانستان من المنظمات الجهادية الأخرى».

تعاون باكستاني أمريكي جديد

بعد زيارة وفد الـ «سي. أي.إيه» لباكستان في إبريل ۱۹۹۳م أبدت باكستان استعدادها للتعاون مع الـ "سي أي إيه" لتحقيق المصالح المشتركة والخروج من دائرة التهديد الأمريكي، بإدراج باكستان على قائمة الدول التي تدعم الإرهاب، وحماية مهربي المخدرات، وبالفعل قامت باكستان في نهاية عام ١٩٩٣م بتسليم ثلاثة من كبار مهربي المخدرات الباكستانيين إلى الولايات المتحدة، كما تم تضييق الخناق على العرب المقيمين في بيشاور خصوصًا وباكستان عمومًا، وتم استجواب المئات منهم وترحيل العشرات، كما ساعدت باكستان وفدًا أمريكيًّا ذهب إلى باكستان بحثًا عن بقايا صواريخ ستينجر الأمريكية المضادة للطائرات، والتي أصبحت بعد انتهاء الحرب ضد السوفييت خطرًا يهدد مصالح الولايات المتحدة، كما استجابت باكستان لطلب أمريكي في نهاية عام ١٩٩٣م يتضمن قائمة بأسماء ضباط في جهاز الاستخبارات السري الباكستاني قدمتها أمريكا إلى السلطات الباكستانية وطلبت منها إبعادهم من الجهاز، ورغم أن هذا يعد تدخلًا أمريكيًّا سافرًا، إلا أن باكستان حسب تصريحات مصدر باكستاني رفيع المستوى قد استجابت لذلك. حيث قال لمراسل صحيفة «الوفيجارو» «قد قمنا فعلًا بعملية التطهير هذه، وكانت واشنطن مسرورة بذلك»، وبعد شهور من المساومات والمفاوضات اتفق الباكستانيون والأمريكيون على إعادة ترتيب الأوراق في أفغانستان من خلال أن يتم استبعاد حكمتيار مع عدم التمكين لمسعود وقد أوضح وزير الشؤون الخارجية الباكستاني آصف أحمد على أسباب رفض باكستان لوجود مسعود على رأس السلطة في كابل بقوله: «إن مسعود طاجيكي، والطاجيك كانوا معادين لباكستان تاريخيًّا، لأنهم أقرب إلى الهند وروسيا»، أما حكمتيار فرغم أنه بشتوني وله علاقاته القوية والخاصة مع باكستان، إلا أن صلاحياته قد انتهت واستنفد دوره ولم يعد يصلح للمرحلة الجديدة.

طريق الحرير

ومع رصد باكستان في عام ١٩٩٤م ميزانية تقديرية تساوي ١.١ مليار دولار لإعادة فتح طريق الحرير الذي كان يربط الصين بآسيا الوسطى عبر باكستان وأفغانستان، فقد أعلنت باكستان في يونيو ١٩٩٤م أنها ستعيد فتح طريق الحرير، ولما كانت أفغانستان عائقًا من حيث عدم وجود أمن بها، ونهب القوافل التجارية وفرض إتاوات عليها من قبل المليشيات أمر يصعب السيطرة عليه، فقد أعد الجنرال نصير الله بابر- وزير الداخلية الباكستاني الحالي. خطة أخذ موافقة الحكومة الباكستانية التي أخذت موافقة الولايات المتحدة عليها، يتم بمقتضاها إيجاد قوة جديدة على الساحة الأفغانية، يتم من خلالها تحقيق كافة الأهداف التي ترمي إليها باكستان والولايات المتحدة في تلك المرحلة، واتضح أن هناك جيشًا أفغانيًّا أشار إليه بابر لم يلتفت إليه أحد يمكن استغلاله للقيام بدور كبير في تحقيق الأهداف المرجوة وهذا الجيش يتمثل في طلبة المدارس الشرعية الأهلية الأفغان الذين يدرسون في باكستان والذين يزيد عددهم عن ثلاثين ألفًا كانوا بعيدين عن بؤرة الصراع القائمة في البلاد منذ سقوط نظام كابل في إبريل ۱۹۹۲م، ولما كان معظم هؤلاء يدرسون في مدارس جمعية علماء الإسلام التي يتزعمها مولوي فضل الرحمن- حليف بنازير بوتو، ورئيس لجنة الشئون الخارجية في البرلمان الباكستاني- وآخرون يدرسون في مدارس مولوي سميع الحق- رئيس الجناح الآخر لجمعية علماء الإسلام. وخطه لا يبعد كثيرًا عن خط فضل الرحمن، فلم تكن إذن هناك مشكلة في تجييش هؤلاء الذين شارك كثير منهم سابقًا في الجهاد وإعادة تدريبهم تدريبًا جيدًا، مع ضم المئات من ضباط جيش نظام کابل السابقين والذين فروا إلى باكستان في أعقاب سقوط النظام في إبريل ۱۹۹۲م إليهم على أنهم مسلمون تائبون على أن يقوموا بدور أساسي في. عمليات التدريب وقيادة الطائرات والدبابات وتشغيل الأسلحة الثقيلة التي لن يستطيع الطلبة تشغيلها.

ظهور طالبان

وسرعان ما صدر قرار من القائمين على المدارس الدينية التي يدرس فيها الطلبة الأفغان في باكستان بإغلاق المدارس أمام جميع الطلبة الأفغان، ومنع التسجيل فيها لمدة خمس سنوات وأبلغ العلماء والمدرسون الطلبة بأن «الجهاد فرض عين، بينما العلم فرض كفاية، وعليهم أن يتفرغوا للجهاد الآن سعيًّا لإقامة دولة إسلامية في أفغانستان، ثم العودة إلى مدارسهم مرة أخرى».

وظهرت طالبان لأول مرة كحركة أفغانية جديدة في ٣١ أكتوبر ١٩٩٤م، حينما كانت قافلة تجارية باكستانية تتكون من ثلاثين شاحنة في طريقها إلى آسيا الوسطى عبر طريق شمن- قندهار فتعرضت لهجوم مليشيات أفغانية سعت للاستيلاء على بعض ما فيها على غرار ما كان يحدث دائمًا مع القوافل، فظهر مقاتلو طالبان فجأة وهزموا المهاجمين وأوقعوا فيهم عددًا من القتلى والجرحي بعد معركة حامية، وكانت القافلة يصحبها عقيد في جهاز الاستخبارات الباكستاني، وفريق من التليفزيون الباكستاني ذهب خصيصًا للقيام بتصوير المعركة وإذاعة أحداثها معلنًا عن ولادة حركة أفغانية جديدة هدفها تدعيم الأمن والاستقرار في افغانستان تدعى حركة «طالبان».

بعد معركة ٣١ أكتوبر طلب من «طالبان» أن يوسعوا رقعة عملهم فاستولوا بالفعل على قندهار دون مقاومة وسعوا لإقرار الأمن بها فتعاون الناس معهم، وفي البداية تصوروا أنهم لن يخرجوا عن نطاق قندهار، إلا أنهم طلب منهم توسیع دائرة حركتهم، فأصبحت القرى والمدن والولايات تقع في أيديهم الواحدة تلو الأخرى دون قتال، فانتشار الجهل والفقر والمثل من عمليات الابتزاز التي كان يتعرض لها السكان من بعض الحكام المحليين دفعت الناس للترحيب بالقادم الجديد لاسيما طلبة علم. والعلماء لهم مكانتهم واحترامهم لدى عامة الأفغان، كذلك انتشرت الخرافات والخزعبلات حول المصير الأسود الذي يتعرض له من يقف أمام «طالبان»، أو يواجههم أو يطلق النار عليهم من إصابته مباشرة دون أن يشعر بالصرع والنزيف والرعب والخور، ففر مقاتلو المليشيات أمامهم دون قتال، حتى أن قوات حكمتيار كانت تخلي مواقعها قبل وصول طالبان إليها، وحتى موقع حكمتيار الحصين بين الجبال في تشار أسياب والذي كان من الصعب على أية قوة عسكرية أن تخرجه منه تركه لهم مخلفًا وراء كميات كبيرة من الأسلحة. 

وكان محركو طالبان قد طلبوا منهم تجريد كافة الفصائل من السلاح، لأن هذا هو السبيل الأساسي لفرض ما يريدون على الأفغان وهذا ما قامت به طالبان بالفعل، وكان من بين الأسلحة التي استولت عليها طالبان في البداية مخازن أسلحة الحزب الإسلامي في منطقة سبين بولدك، والتي كانت تعتبر من أكبر مخازن الأسلحة في أفغانستان، وقد أخبرني مصدر مسؤول في الحزب الإسلامي «حكمتيار» بعد سقوطها بأنها تضم أكثر من أربعين نفقًا في الجبال، يصل طول بعضها إلى ما يقرب من كيلو متر وارتفاعها ما يزيد على سبعة أمتار، وممتلئة بالسلاح حتى سقفها، وهي تكفي وحدها لاستمرار الحرب في أفغانستان خمسين عامًا دون توقف. وخلال الفترة من نوفمبر ١٩٩٤م وحتى مارس ۱۹۹۵م، كانت طالبان قد استولت على محافظات «قندهار، وغزني ولوجر، وميدان» دون مقاومة تذكر، وقضت عسكريًّا بالفعل على حكمتيار الذي لجأ إلى آخر موقع حصين له في سروبي على بعد خمسين كيلو مترًا من كابل بعدما فقد معظم مواقعه وأسلحته وذخائره وكذلك مليشياته التي رفض أعضاؤها قتال الطالبان، كذلك تمكنت طالبان من ناحية وقوات مسعود من ناحية أخرى كسر شوكة حزب الوحدة الذي قتل زعيمه عبد العلي مزاري بعد أسره بعد ذلك على أيدي «الطالبان».

 غير أن الهزيمة الساحقة التي تلقتها الطالبان في مارس ١٩٩٥م، على يد قوات مسعود غيرت موازنات القوى حيث طردهم مسعود حتى من تشار أسياب واستولى عليها في أول معركة عسكرية حقيقية تخوضها «طالبان»، حيث إن مسعود هو الوحيد من بين قادة المجاهدين الذي يملك جيشًا منظمًا استطاع أن يقهر القوات السوفيتية في معارك كثيرة طوال سنوات الجهاد، فيما تملك باقي المنظمات مجرد مليشيات مسلحة على غرار الطالبان.

وقد دفعت هذه الهزيمة صانعي طالبان إلى أن يعيدوا ترتيب أوراقهم من جديد، فظل مقاتلو طالبان ستة أشهر قابعين في مقر قيادتهم في قندهار لا يعلمون شيئًا عن الخطوة التالية سوى تصريحات لقادتهم يقولون فيها: «إننا سوف نطيح بكل قوات المجاهدين غير المسلمين لنقيم الحكومة الإسلامية الحقة في أفغانستان، لكن الهجوم الذي شنه إسماعيل خان والي هيرات- على قوات الطالبان في نهاية أغسطس الماضي ١٩٩٥م، والذي انقلب في النهاية على إسماعيل خان وقواته لأسباب عديدة- يعتبر إسماعيل خان نفسه عاملًا رئيسيًّا فيها- قلب موازين المعادلة مرة أخرى، وجعل طالبان تقلص المساحة التي تستولي عليها قوات الحكومة الأفغانية من ١٢ ولاية إلى سبع ولايات فقط بعد استيلاء «طالبان» على الولايات الأربع الكبرى في الغرب، وعلى رأسها هيرات وأصبحت حكومة الرئيس رباني محاصرة بعد قطع طرق الإمداد الرئيسية التي كانت تأتيها من ترکمانستان وإيران عبر هيرات.

خريطة القوى الجديدة

التطورات الأخيرة أفرزت ثلاث قوى رئيسية على الساحة الأفغانية، وأضعفت أو أنهت قوتين أما القوى الرئيسية الثلاث فهي:

الأولى: حكومة الرئيس رباني مع حليفه مسعود وحليفه سياف وتجمعات أخرى من مختلف التنظيمات الجهادية، ومقرها العاصمة الأفغانية كابل، ولازالت هي الممثل الشرعي الرسمي للبلاد، وتسيطر على الولايات الوسطى والشمالية الشرقية.

الثانية: حركة طالبان التي أصبحت نشأتها معروفة وهدفها واضحًا، ومقرها الرئيسي في قندهار، ثاني أكبر المدن الأفغانية، وعاصمة أفغانستان السابقة، وتسيطر على الولايات الجنوبية والغربية 

الثالثة: القوات الأوزبكية بقيادة الجنرال عبد الرشید دوستم ومقرها الرئيسي في مزار شريف، وتسيطر على الولايات الشمالية الغربية. 

أما القوتان اللتان اختفتا أو كسرت شوكتهما فهما قوات الحزب الإسلامي «حكمتيار»، وقوات حزب الوحدة الشيعي.

سيناريوهات المستقبل

في ظل هذا الواقع الأليم يبدو مستقبل أفغانستان دمويًّا ومظلمًا، فأفغانستان. باختصار- تحولت من ساحة للصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة في الفترة من ۱۹۷۸ وحتى سقوط النظام العميل في كابل في ١٩٩٢م إلى ساحة للصراع الإقليمي بين دول المنطقة منذ عام ١٩٩٢م وحتى الآن.

فباكستان دخلت طرفًا واضحًا ومباشرًا ضد حكومة رباني حتى وصل الأمر بوزير الخارجية الباكستاني آصف أحمد علي أن يصف حكومة الرئيس رباني في مؤتمر صحفي عقده في باكستان في 10/9/ ١٩٩٥م بأنهم، «زمرة عصابات» كما قام وزير الخارجية الباكستاني يوم الإثنين 18/9/1995م بزيارة- الملك الأفغاني المخلوع ظاهر شاه (۷۹) عامًا في مقر إقامته في روما التي يعيش فيها منذ أن خلعه في عام ١٩٧٣م لحثه على العودة إلى أفغانستان كرئيس للحكومة التي تعد باكستان لقيامها الآن في أفغانستان على يد صنيعتها «الطالبان»، التي من المقرر أن يعود أعضاؤها إلى مدارسهم في باكستان بعد انتهاء مهمتهم. كما أن محمود المستيري- مبعوث الأمم المتحدة- بدأ ينشط هو الآخر مع نشاط طالبان ووصولها إلى أطراف كابل بعدما اختفى خلال الأشهر الستة الماضية التي اختفت فيها طالبان. بل وأدلى المستيري بتصريحات مؤيدة للطالبان قال فيها: «بأنهم مجموعة من الطلبة يؤيدون السلم والاستقرار في البلاد، وأن ظهورهم هو تحول إيجابي في الأزمة الأفغانية».

كما أن كلًّا من إيران وروسيا، وتركمانستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، والهند أصبحت كلها لها مصالحها وأهدافها وتدخلاتها في أفغانستان، وفوق كل هؤلاء الولايات المتحدة التي قام وزير دفاعها وليم بيري بزيارة إلى باكستان في يناير الماضي ١٩٩٥م، ومنحها صك البراءة من التهمة بالإرهاب، ووسام التعاون الجيد في رعاية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، فقال: «إن باكستان تعتبر نموذجًا معتدلًا في العالم الإسلامي».

 والأمر لم يتوقف عند هذه الدول فقط، بل تعداها إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية حيث قام وزير الداخلية الباكستاني نصير الله بابر بصحبة وزراء من هذه الدول مع وزير أمريكي في رحلة إلى داخل أفغانستان في أکتوبر ١٩٩٤م ليطلعهم على خطة باكستان التي تهدف إلى إعادة فتح طريق الحرير الذي كان يربط الصين مع آسيا الوسطى والذي ستستفيد منه تلك الدول، ومن: ثم تدعم خطة باكستان لترتيب أوراق أفغانستان مرة أخرى، وقد وجهت باكستان الدعوة في نفس الوقت إلى فرنسا أيضًا إلا أنها رفضت تلبيتها، معتبرة ذلك تدخلًاسافرًا في شؤون أفغانستان.

من خلال هذه المعطيات فإن سيناريوهات المستقبل لأفغانستان يمكن أن تنحصر في عدة خيارات:

أولًا:تقسيم أفغانستان

وهذا أكبر الاحتمالات التي يفرضها الواقع الأفغاني الآن فالقوى الثلاث الرئيسية التي أشرنا إليها سابقًا، تكاد تكون متكافئة من حيث ميزان القوى، كما أن كلًّا منها ليس لديه القدرة الكافية على بسط نفوذه على باقي البلاد، كذلك فإنها تمثل العرقيات الرئيسية الثلاث في البلاد. وهي البشتون، والطاجيك، والأوزيك، ويمكن لها أن تستوعب العرقيات الأخرى وبعض التداخلات المختلفة في بعض المناطق، كما أن كلًّا من هذه القوى تقع تحت سيطرته مدن كبيرة تصلح لأن تكون عواصم لهذه الدويلات، فلدى البشتون قندهار، وهي كانت عاصمة سابقة لأفغانستان قبل كابل، ولدى الطاجيك الآن يشاركهم حلفاء البشتون «كابل»، وهي الحالية الآن للبلاد، ولدى الأوزبك «مزار شريف» وهي كانت إحدى القواعد الرئيسية للسوفييت أثناء احتلالهم لأفغانستان، وكانوا قد خططوا في يوم من الأيام أن تكون عاصمة لدويلة موالية لهم في شمال أفغانستان تحمي حدودهم الجنوبية من العاصمة الفعلية بعد انسحابهم من أفغانستان.

 كما أن التقسيم يدخل ضمن الإطار العام لعمليات التقسيم والتفتيت التي ترعاها الولايات المتحدة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي الذي انقسم إلى ٨٣ دولة، وكذلك تقسيم تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا السابقة، وأخيرًا البوسنة والهرسك الذي يجري الآن والاحتمالات المستقبلية لتقسيم العراق، وفي حالة إقرار هذا السيناريو، فمن المؤكد أن طالبان لن يكون لهم أي دور في إدارة حكومة البشتون، وإنما سيقوم بهذا الحكومة التي تسعى باكستان والأمم المتحدة بتشكيلها في أفغانستان. 

فـ« الطالبان»- كما أشرنا من قبل- لهم دور محدد، وهم سوف يعودون لمدارسهم بعد أداء مهمتهم في حالة تحقيق أي من هذه السيناريوهات.

ثانيًّا: إعادة ظاهر شاه أو قيام نظام علماني

وهذا ما تسعى باكستان والولايات المتحدة لتحقيقه الآن، وقد صرح وزير الخارجية الباكستاني آصف أحمد علي أثناء زيارته لظاهر شاه في روما في الأسبوع الماضي بذلك، وليس بالضرورة أن يقبل ظاهر شاه العودة إلى كابل أو يرفض، ولكن الهدف الأساسي هو إقصاء المجاهدين عن دفة الحكم، ومنع قيام دولة إسلامية متماسكة وقوية في أفغانستان يمكن أن يكون لها دورها وثقلها في معادلات المنطقة لاسيما بعدما نجحت القوى الإقليمية ومطامع بعض القيادات الأفغانية في ضرب أمثلة سيئة لصورة المجاهدين وإدارتهم للدولة منذ إبريل ۱۹۹۲م وحتى الآن، وهذا السيناريو ربما يتفق مع رغبات القوى الإقليمية كلها في المنطقة، وليس باكستان والولايات المتحدة وحدهما، وهو أخطر سيناريو، لأنه باختصار يقضي على تاريخ وتضحيات وبذل الشعب الأفغاني وكل الذين ساندوه وأيدوه طوال سنوات الجهاد.

 

ثالثًا: دولة موحدة ذات نظام فيدرالي

هذا إذا رأت القوى الإقليمية والدولية الإبقاء على حدود أفغانستان الجغرافية وشكلها العام على ما هو عليه، وما دامت كابل هي أفغانستان بمعنى أنها تضم معظم مقومات الدولة وتتشكل الآن تركيبتها السكانية من معظم الأعراق فلتكن هي المقر الرسمي للدولة بحكومتها التي ستشكلها القوى الإقليمية، على أن يتم استرضاء الأطراف المختلفة بمنحها حكمًا ذاتيًّا في مناطقها ضمن الإطار العام للدولة، ولا يقتصر ذلك على القوى الثلاث البارزة الآن والتي أشرنا لها من قبل، وإنما يمتد حتى إلى التجمعات الصغيرة والأعراق المختلفة؛ يساعد على ذلك طبيعة التركيبة العرقية لأفغانستان والتي تتكون من البشتون، والطاجيك والتركمان والأوريك، والهزارة والنورستانيين والمغول والبلوش وعرقيات أخرى ذات تجمعات صغيرة، ومعظم هذه الأعراق لها امتداد في الدول المجاورة لأفغانستان من أطرافها المختلفة.

رابعًا: استمرار الحكومة الإسلامية

وهذا ما يسعى رباني، وسياف، ومسعود وكثير من قيادات المجاهدين من الأعراق المختلفة الملتفين حول رباني للحفاظ عليه، لكن مخططات القوى الإقليمية والدولية تجمع كل طاقتها الآن لعدم استمرار ذلك الوضع بعد تشويهه بدعم الأطراف الخارجة عليه طوال السنوات الثلاث الماضية، وعدم تمكين حكومة رباني من القيام بمهامها لإثبات قدرتها على إدارة كفة الحكم من عدمه، وإنما إنهاكها من البداية، وإذاقة الشعب الأفغاني الويلات على يديها ويد معارضيها. حتى يطالب في النهاية بظاهر شاه أو حكومة علمانية تنقذه من الوضع المتردي الذي يعيش فيه.

ولنا أن نتصور وضع أفغانستان لو أن حكمتيار كف يده من البداية عن تدميرها، ومد يده إلى إخوانه المجاهدين راضيًا بما قسم له. فالتقى معهم على ما يمكن الالتقاء عليه، وعذرهم فيما اختلفوا فيه فقطع على أعداء الجهاد مآربهم، وأذاق الشعب الأفغاني حلاوة النصر بدلًا من كؤوس المرارة والهوان التي ربما لم يذقها الأفغان على أيدي الشيوعيين والعلمانيين من قبل.

إن استمرار الحكومة الإسلامية القائمة الآن في أفغانستان رغم كل مسالبها ومساوئها كان دون شك خطوة في تحقيق آمال الشعب الأفغاني وتضحياته وأحلامه وتطلعاته، لكن صواريخ حكمتيار من البداية هي التي دمرت هذا الأمل. وقضت على هذه التضحيات، ومحت هذه التطلعات ولازال يردد حتى الآن بفخر أنه لن يهنأ حاكم في أفغانستان بدونه معتقدًا أنه لازال له دور يؤديه بعدما كان له دور رئيسي في تدمير آمال الأمة كلها وتشويه صورة المجاهدين في العالمين، ووضع أفغانستان رهينة في أيدي القوى الإقليمية والدولية تحدد مصيرها ومستقبلها الآن.

لقد أصبح الخوف على مستقبل أفغانستان الآن أكبر من كل المراحل السابقة، بل إن الخوف على مستقبل أفغانستان الآن ورباني على رأس السلطة أكبر من ذلك الخوف الذي عايشته مع رباني وطائرات السوفييت تطاردنا في جبال أفغانستان قبل سبع سنوات.

 وسيظل الشعب الأفغاني يدفع الثمن، وربما يطول الصراع في أفغانستان إلى أمد بعيد. طالما أن القوى الإقليمية قد حولتها إلى ساحة لتصفية حساباتها، أما حجم الأسلحة والذخائر التي تركها السوفييت في أفغانستان فإنها تكفي لاشتعال الحروب بها خمسين عامًا أو یزید.

الرابط المختصر :