; مشاهدات على أرض الواقع في جبهات القتال بالسودان | مجلة المجتمع

العنوان مشاهدات على أرض الواقع في جبهات القتال بالسودان

الكاتب أسعد طه

تاريخ النشر الثلاثاء 11-فبراير-1997

مشاهدات 9

نشر في العدد 1238

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 11-فبراير-1997

السودان 

  • الهاربون السودانيون من التجنيد الإجباري في المعسكرات الإريترية يتحدثون عن أسلحة إسرائيلية وخبراء أجانب يدربون المتمردين.

السودان: أسعد طه

في الطائرة إلى الخرطوم كنت أقرأ في جريدة عربية صادرة من لندن عن تطورات الأحداث في السودان، هالتني عبارة نقلت عن المعارضة عن أن قواتها تتقدم وتقترب من العاصمة، دعوت الله عز وجل ألا يغلق مطار الخرطوم حتى أصل لأتمكن من تأدية مهمتي الصحفية.

في الثالثة عصرًا حطت الطائرة في المطار لأستقبل بأجواء ساخنة خلفتها درجات حرارة تجاوزت الثلاثين.

سألت مُستقبِلي: كيف يمكن الوصول إلى خطوط المواجهة؟ أجابني بعد الحصول على التصاريح اللازمة تحتاج إلى حوالي تسع ساعات للوصول إلى مدينة الدمازين وتحتاج بعدها إلى حوالي ثلاث ساعات أخرى للوصول إلى الجبهة فأدركت مصداقية بيانات المعارضة!!

ها هي الخرطوم إذن، مدينة إفريقية في غاية التواضع، مترامية الأطراف كما هو شأن السودان كله في الشوارع وعلى الجدران لافتات تدعو الناس للجهاد والتبرع بالدم، وتعلن عن تسيير قوافل إلى ميادين القتال محملة بالمؤن والرجال، فأدركت مدى الجهد الذي تقوم به الحكومة لإقناع الناس بضرورة المشاركة في مقاومة قوات المعارضة، خصوصًا وأن معلوماتي عن الوكالات الصحفية الغربية تقول إن الحكومة تجبر الناس على الالتحاق بالجيش، وأن حملات للتجنيد القسري نظمتها الحكومة في الأيام الأخيرة. 

وبعد يومين مكثتهما في الخرطوم أدركت الحقيقة.. وأدركت مصداقية الوكالات الغربية!!

أمام المساجد، وفي مقار الدفاع الشعبي، وفي ساحات الجامعات تنتظم أعراس توديع المتطوعين المتجهين إلى خطوط القتال «للجهاد في سبيل الله»، والسودانيين في ذلك طقوس خاصة، تبدأ بالقرآن الكريم، ثم الخطابات الحماسية تتخللها الهتافات، «هبي هبي ريح الجنة... إحنا الدنيا ما مسكنا»، و«جاهزين.. جاهزين لحماية الدين» ثم يبدؤون في ترديد الأغاني الحماسية، وهم مثل كل إفريقيا مولعون بالموسيقى، ويلتفون في مجموعات صغيرة يتعانقون ويرفعون قبضات أيديهم في السماء مرددين الله أكبر الله أكبر. 

لم أر صور السيد الرئيس، ولم يهتف أحد بالروح بالدم نفديك يا بشير، ولم يتحدث أحد من الخطباء عن القيادة الحكيمة، ولم يحصِ آخر حسنات النظام، ولكن الهدف والمبتغى هو الله سيخرجون للجهاد، يدافعون عن الأرض، وعن المشروع الإسلامي الذي انحازوا له.. هذه هي قناعاتهم. 

في الطرف الآخر نساء.. والنساء هنا محجبات، ومن الصعوبة أن تجد سافرات وهن محجبات بقناعاتهن وليس بقوانين حكومية وأوامر عليا بحسب ما يتردد.

تهتف النسوة، وتمتلئ الدموع بالعيون، أزواج وأبناء وإخوان يتجهون لجبهات القتال لإجهاض الخطة الأمريكية، ربما لن يعودوا لكن السودان بهويته سيبقى.. حماس شديد وعواطف جياشة تمتلك الجميع.

 والنسوة لا يكتفين بالتوديع والدموع، وإنما يتجمعن مجموعات لإعداد ما أطلق عليه زاد المجاهد في حقائب بلاستيكية صغيرة، تضم مصحفًا ومسبحة ووجبة طعام جافة أطلق عليه القديد نساء بسطاء فقيرات ربما لكنهن أغنياء بقناعاتهن الفكرية.

هذه هي إذن الجبهة الداخلية التي كانت المعارضة تراهن عليها، وتتمنَّى قيامها بتمرد واسع ضد الحكومة إذا ما بدأت الحرب، وعبثًا حاولت العثور على «تيار معارض»، لقد نسي الجميع خلافاتهم وأدركوا أن بلادهم فريسة لخطة شيطانية، لا يمكن إنكار وجود معارضة لسياسات الحكومة، فهذه من طبيعة الأشياء، ولكن من الكذب الحديث عن

 وجود حالة تمرد أو ثورة داخلية.

حكومة السودان

لم أشعر بوجود حكومة في السودان بالمعنَى الكلاسيكي، سلطة ورجال سلطة، وحرس وشرطة، ومصفحات، وأمن، ونظام داخلي هنا الشعب هو الحكومة وهو السيد.

وإذا كان هناك من يقول إن هذه الجماهير التي خرجت ثائرة في شوارع المدن السودانية هي تابعة للجبهة الإسلامية، فهذا يعني أن لهذه الجبهة الحق المطلق في حكم البلاد، باعتبار أنها تمتلك الأغلبية الجماهيرية، وذلك وفق اللعبة الديمقراطية الغربية، لكن هذه الجماهير التي رأيتها ليست فقط أنصار الجبهة، بل ربما منتقدوها ومعارضوها، وكما قال الشريف الهندي – المعارض السوداني في القاهرة –: «أنا معارض ولكنني لست خائنًا» فهذا هو الشعور العام هنا. 

صحيح أن هناك جملة من الأخطاء والسلبيات في سياسات الحكومة، وهناك معارضون حتى من داخل الحركة الإسلامية نفسها، وهناك مواقف سودانية يجب مراجعتها، ولكن أبدًا ليست بالصورة التي ترسمها آلة الإعلام الغربي والتي راح ضحيتها حتى مثقفونا..

مرة أخرى حاولت الالتقاء بالمعارضة واكتشفت أنهم في النهاية أربعة أقسام: مجموعة هاربة خارج البلاد، ومجموعة معتقلة داخل البلاد، ومجموعة لا تريد الحديث أمام الإعلام، ومجموعة ترى أن وطنيتها تلزمها في هذه المرحلة الصمت والوقوف صفًا واحدًا وراء مبدأ وليس وراء نظام.

 وفي كل الأحوال فقد أزعجتني كثيرًا حملة الاعتقالات التي قامت بها الحكومة، رغم أن المعتقلين «يتمتعون» داخل السجون بوضعية يحسدهم عليها المعتقلون العرب في سجون الوطن العربي، وقال لي المدعي العام عبد الرحمن إبراهيم: «إن المعارضين ليسوا مستهدفين بحد ذاتهم، وإن حملة الاعتقالات طالت المتهمين منهم بالمشاركة في الأحداث الحالية».

إلى جبهات القتال

أغادر الخرطوم متجهًا إلى مدينة الدمازين التي تقول بيانات المعارضة إن قواتها باتت على أبوابها، وهي التي تحتضن سدًّا يضمن حوالي ستين بالمائة من كهرباء الخرطوم.

مساحات مترامية الأطراف على الجانبين وقرى أو مدن غاية في التواضع، وعندما حل وقت الإفطار انتحينا جانبًا حيث الناس يفترشون الأرض، ويتناولون إفطارهم ويحتسون الشاي عند بلدة صغيرة.

 تسع ساعات كاملة ونصل الدمازين منتصف الليل، في الصباح تبدو ملامح المدينة التي هي عاصمة ولاية النيل الأزرق منازل بسيطة وأكواخ أحيانًا، وشعب -كما كل السودان- غاية في الأدب والرقة والأخلاق الدمثة.

 نتوجه إلى قائد المنطقة وبصحبته نتوجه في طائرة مروحية إلى نقطة متقدمة تبعد حوالي مائة كيلو متر عن مدينة الدمازين شمس حارقة ومعسكر كبير، واجتماع هام لقيادات المنطقة، أتجول بين الجنود البسطاء، متحضنين بنادقهم رافعين هاماتهم في انتظار لحظة الصفر. 

وفي الخطوط الأولى للجبهات بوسعك أن تجد وزراء وأساتذة جامعات، وأصحاب مراكز مرموقة، ليسوا هنا للزيارة وإدلاء التصريحات أمام شاشات التلفاز وميكروفونات الإذاعة، وإنما

«مجاهدين» كتفًا إلى كتف مع المواطنين البسطاء، في مثال ربما غير مسبوق في العالم العربي، لقد تركوا مكاتبهم في العاصمة مؤثرين ثواب الجهاد، كما يعتقدون. 

ورغم الأزمة الاقتصادية فإن الجيش يحاول تعبئة كل الإمكانيات لمعركة فاصلة يسترد خلالها كما يأمل مدينتي كرمك وقيسان من سيطرة المتمردين. 

أستمع إلى الجنود البسطاء الصائمين وأضحك عندما أتذكر دعوة الصادق المهدي لهم بالثورة، فهم الآن بالفعل ثوار لكن ليس من أجل الحكومة ولا ضدها، ولكن من أجل وحدة البلاد، ومن أجل الخيار الإسلامي، وضد الأطماع الأمريكية، هكذا هي قناعاتهم.

أعود إلى الخرطوم، ومنها مرة أخرى إلى مدينة كسلا، التي تعد البوابة الشرقية للسودان في مواجهة الحدود الإريترية، ألتقي بثلاثة شبان هاربين من معسكرات مقامة على أراضي إريتريا تخضع لرجال المقاومة الجنوبية، يتحدث لي الثلاثة عن عمليات التجنيد الإجباري التي يتعرض لها السودانيون في إريتريا، وتدفع بهم حكومتها في معسكرات للتدريب، تقدم لها الدعم المادي، وتحدثوا عن أسلحة إسرائيلية، وعن خبراء أجانب يتولون تدريب المتمردين.

أتوجه إلى نقطة متقدمة، مدافع وأسلحة ثقيلة ورادارات، وحماس وترحاب بالصحفي العربي القادم إليهم، يقول لي القائد الميداني هنا جنود نظاميون ومتطوعون ضمن قوات الدفاع الشعبي، كلهم نطلق عليهم مجاهدين، ثم يستطرد: هل تعلم أن الجندية لدينا ليست إلزامية؟. 

وفي هذه النقطة المتقدمة أيضًا كانت حرارة الشمس فوق الاحتمال، والوجوه السمراء مستبشرة، ووقد شعبي يصل إليهم من اتحاد المرأة السودانية في محافظة مجاورة، نساء يرتدين زي الجنود بنطال فوقه فستان واسع إلى ما تحت الركبتين، وفوق الرأس حجاب وامرأة تضع رضيعها، تحتمي بظل خيمة من أجل طفلها، لقد أصرت على أن تأتي بنفسها ووليدها دعمًا وتأييدًا للجهاد والمجاهدين بحسب ما ترى. 

وفي أثناء وجودي يأتي محافظ المنطقة، يصطف الجنود يهللون الله أكبر، يقدم الضابط التحية ثم يقرأ القرآن، وبعد استعراض الجنود وإلقاء التعليمات يقول لي القائد في هذه المنطقة سبعة عشر جنديًّا من حفظة القرآن، هؤلاء الجنود جميعهم صائمون في نهار رمضان، ويواصلون تدريباتهم الشاقة، وفي الليل يقيمون صلاة التراويح بجزء من القرآن وبعضهم يستيقظ متأخرًا للتهجد. 

أغادر الجبهة الشرقية ولا أغادرها.. وأسال نفسي من يستطيع أن يهزم هؤلاء؟.

الرابط المختصر :