العنوان معالم على الطريق-يا عزيزي.... كلهم قتلة
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر السبت 09-مارس-2002
مشاهدات 31
نشر في العدد 1491
نشر في الصفحة 47
السبت 09-مارس-2002
يحاكم اليوم سلوبودان ميلوسيفتش - الرئيس السابق ليوغسلافيا - الدكتاتور والسفاح الذي سار على نهج هتلر وشاوشيسكو وأضرابهما، والذي ملك مقدرات دولة، وكان في مكنته أن يصرف قدراته ونشاطاته في الرقي بها، ولكنه راودته أحلام اليقظة، وعنجهيات العصبية، وعنتريات التسلط البغيض، وساعده على ذلك زمرة من القتلة بجانبه، وعصابة من السفاحين حوله، فحولوه إلى وحش يهيم بلعق الدماء، وتمزيق الأشلاء وقبض الأرواح، فانقلب أول ما اعتراه السعار على شعب البوسنة والهرسك الذين كل ذنبهم أنهم مسلمون فحرق ودمر، وقام بحملات الإبادة الفريدة في التاريخ، فأباد القرى، وحطم المدن، ودك المنازل والبيوت على أصحابها، وذبح الرجال كما تذبح الخراف والمواشي، ويتم الأطفال، واقتنص النساء؛ ليقتل من يشاء ببقر البطون، ويغتصب من يشاء أمام الأزواج، ويهدي من يشاء إلى المجرمين، ثم تكون النهاية الموت، إما كمدا، وإما بالإذلال والإرهاق والتجويع، وإما بالتخلص منهن برصاص الرحمة.
وانتهت بالنهاية المعروفة هذه الجولة التي ولول لها التاريخ، وبكتها الأيام والليالي، وإذا به ينقل إجرامه إلى شعب آخر هو شعب كوسوفا الآمن المسلم المسالم الأعزل الذي لا حول له ولا قوة، ولا سند ولا معين من المسلمين أو من غيرهم، ونزل بجيشه ودباباته وراجماته وصواريخه؛ ليبيد شعبًا بأكمله، وبدأ في الإبادة والقتل، وهو الرجل المحترف الذي فعل في البوسنة والهرسك الأفاعيل بواسطة أعوانه وقادة عصاباته، فروع الناس في كوسوفا، وفضح الضمير العالمي، وأزاح الغلالة التي كان يتلفح بها هذا الضمير النكد، وخرج عن المخطط الغربي المرسوم للمصالح الغربية، وأراد أن يأكل الكعكة الألبانية وحده، ومن ثم ينقض على غيرها وغيرها، وخشي الغرب أن يعيد الأسطورة الصربية التي تتلمظ للسيطرة والتوسع، فشمر الغرب وكشر عن أنيابه، وبدأ يرد الذئاب المفترسة إلى قواعدها، وأراد أن يدربها على قواعد اللعبة ويحذرها من الجموح الخطر.
ولكن الذئاب الضالة تمردت وتوقحت، فلم يبق أمام الغرب المدافع عن مصالحه إلا مطاردة تلك الذئاب والأفاعي قبل أن يستفحل خطرها، فتدخل بقوته وقضه وقضيضه، وبوارجه وطائراته، واستطاع مطاردة العصابات الصربية، وأن يحطم رأسها، ويطارد قادتها، ويقتنص البعض، ويقدمه للمحاكمة، وما زال يطارد البعض الآخر من أمثال كرانيتش الهارب من العدالة حتى اليوم، والذي فعل الأفاعيل في البوسنة والهرسك، وكان على يديه إبادة قرى بأكملها، وتحاول القوات الدولية مطاردته حتى يقبض عليه، ويقول المكلف بالقبض على مجرمي الحرب: إن يوم الحساب لهؤلاء ولمن يدعمهم ويؤويهم قريب، وخاطب كراذيتش والمتوارين: «الوقت يمر، اليوم أو غدًا أو الشهر المقبل ستتمكن القوات الدولية من النيل منكم استسلموا اليوم بشرف وإلا فإن العدالة قادمة إليكم».
ومن الغريب أن مرافعة طاغية يوغسلافيا ميلوسيفيتش أراد لها أن تسير على نهج الدجل السائر اليوم في اتهام المسلمين، فقال: إن أحداث يوغسلافيا انخرط فيها أطراف أجنبية كالمؤتمر الإسلامي، وهانزديتريش جينشر «وزير خارجية ألمانيا الأسبق»، ومهرب الهيروين في أفغانستان، وأسامة بن لادن، ولم يبد الرئيس الذي شهدت بلاده أربعة حروب هزت ضمير العالم أدنى قدر من الندم أو الشعور بالذنب، ولم يعترف بأنه قد تسبب في أي مذبحة فضلًا عن أن تقع هذه المذابح رغم نقل تلفازات العالم هذه المذابح بالصوت والصورة، ورغم شهود العيان ورغم اعترافات المعترفين عليه ورغم رؤية الضحايا.
ولكن بصراحة هل يحاكم ميلوسيفيتش اليوم عن جرائم حرب أم يحاكم على تمرده وخروجه عن الطاعة الغربية وعن الحظيرة الأوروبية؟!، إن هذا الرجل وعصابته ما كان ليفعل ما فعله في بادئ أمره من دون ضوء أخضر من جهات غربية معينة، وكان التكاسل الأوروبي وعدم المبالاة من سلطات الغرب، ومن أمين عام الأمم المتحدة ظاهرًا للعيان، ولا يحتاج إلى دليل، وهل يراد من تلك المحاكمة أن تكون رادعًا لأي إنسان حاكم أو زعيم تسول له نفسه الخروج على الهيمنة لدول معينة؟ أم أنها خالصة لوجه الله تعالى وللإنسانية؟.
ولكن الذي يتحدث عنه الجميع أن أيدي الكثيرين اليوم وخصوصًا الذين يقيمون محاكمة رئيس يوغسلافيا السابق، ملوثة بالدماء، ولكن الإعلام الصامت اليوم يعمي على الناس كل شيء ويقلب الحقائق، وهذا ما دعا المثقفين في أوروبا إلى الانتقاد بشدة للنهج السياسي الأمريكي الجديد؛ لأنه في نظرهم يحارب الإرهاب بشن إرهاب مضاد سيؤدي إلى تغيير جذري في طبيعة النظام الديمقراطي، كما أن المراقبين اليوم يتحدثون عن أن اتهام كثير من الشعوب بالإرهاب ناتج عن مؤامرة تريد استغلال الكارثة للإمعان في سفك الدماء وإذلال الشعوب، وقد تحدث ضابط بريطاني في حديث طويل عن محاصرته لأسامة بن لادن والملا محمد عمر، وكاد أن يقطع عليهما الطريق في مطاردة ناجحة، ولكنه فوجئ بالأوامر الأمريكية تسهل فرار أسامة بن لادن ومن معه، وروت جريدة الحياة القصة في عدد ٢ مارس سنة ٢٠٠٢م، وكان مما قالت: إن أسامة نجا مرتين من الموت؛ لأن القيادة الأمريكية سمحت له بالهروب، وكانت المرة الأولى في بداية الحرب، والمرة الثانية في نهايتها.
وهذا قد جدد السؤال القديم حول الهدف من بقاء صدام حسين وارتباط وجوده بوجود القوات الأمريكية، وهو ما دفع القيادة الأوروبية إلى الاعتقاد بأن مواصلة البحث عن أسامة بن لادن وأفراد القاعدة سيظل المبرر المثالي لانتشار قوات الولايات المتحدة حول حقول النفط في أذربيجان وكازاخستان وبحر قزوين، كما يكون ذريعة للتحدث عن محور الشر المراد جعله هدفًا قادمًا، وكل ذلك ثمنه باهظ التكاليف من الدماء والأشلاء، فضلًا عن انهيار اقتصاد تلك الشعوب وحرق أقواتها ومقدراتها، وقد فتح هذا شهية الكثيرين أن يحذوا هذا الحذو في تصفية الخصوم وسحق المعارضات، ولكن تحت ضوء أخضر، وبأسباب معينة، فهل ترى معي من الظالم ومن المظلوم، ومن الجاني ومن الذي سيحاكم في الغد عندما تستيقظ الشعوب؟!.