; القراءات المقلوبة ... هل تستقيم؟ | مجلة المجتمع

العنوان القراءات المقلوبة ... هل تستقيم؟

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 10-يناير-1995

مشاهدات 9

نشر في العدد 1133

نشر في الصفحة 41

الثلاثاء 10-يناير-1995

في بلدتنا الصغيرة رجل أمي، يهوى ادعاء العظمة، ويحب أن يجاري الكبراء، ويهوى أن يتشبه ببعض المتأنقين من مثقفي العصر، لهذا يشتري الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية المجرد أن يراه الناس ممسكًا بها ومقتنيًا لها، ويعجبه أن يجلس على كرسيه عصرًا أمام منزله ممسكًا ببعض تلك الصحف كأنه يقرأ فيها ويطالع أخبارها، فنظر يوما صورة لبعض السيارات المعلن عنها في الجريدة فظل يحوقل ويولول.. لا حول ولا قوة إلا بالله، حادثة فظيعة، فهرول الناس لرؤية الحادثة فوجدوا أن الرجل يمسك بالجريدة مقلوبة فقالوا يا أبو فلان ولا حادث ولا حاجة انت الذي تمسك بالجريدة مقلوبة «ولهذا رأى الرجلالسيارة مقلوبة».

بعض الناس في زماننا هذا يهوي أن يتأنق بغير علم فيعيش الحياة بالمقلوب، وينظر إلى الأشياء بالمقلوب، فكم من أناس يفهمون السياسة بالمقلوب وينظرون إلى الناس بالمقلوب ويفسرون الحوادث بالمقلوب، حتى أصبح الجهل شطارة والعمى حضارة، و....

صار الجهول أبو علي                              في الزمان الترللي

وجناها جناية                                        ليس فيها بأول.

وكأن العمى على أمتنا كُتب، والجهل على زماننا حسب والغباء على أيامنا رسم والنحس على ديارنا قدر، والتخلف والسفه والتيه قد استوطن واستقر في أوطاننا حتى عايشناوعايشناه، وراضنا ورضناه، فأصبح لا يعرف سوانا ولا تعرف سواه مستقرًا وملاذًا.

سقط الحمار من السفينة في الدجى                       فبكى الرفاقُ لفقده وترحموا

 حتى إذا طلع النهار أنت به                                 نحو السفينة موجة تتقدم 

قالت خذوه كما أتاني سالمًا                                 لم ابتلعه لأنه لا يُهضم

ومن القراءات المقلوبة التي تتسلط على الأمة في هذه الأيام المهزومة القراءة الحاقدة على الإسلام والعاملين له، وقد حلى لبعض الناس أن يكونوا معاول هدم وفؤوس تحطيم لهويةالأمة وعزمها الحضاري والنفسي والفكري، ورغبوا أن يقوموا بحملات من الإرهاب الفكري وجولات من التهديد العقلي، وموجات من القهر الوجداني للأمة المسلمة علها تحدث الفصام النكد، والبينونة الكبرى بينها وبين منهجها، وأن يتخلى الجيل المسلم عن ثقافته وذاته وانتمائه، فتسعد تلك الجهالات بما هيفيه من انحراف وجهل وتيه، وهؤلاء المرضى الذين ينشرون هذه الجراثيم ما رأينا لها مثيلًا في أية أمة، فما وجدنا أحدًا في أيةأمة يهدم ترانه بل يعليه أو يسفه هويته بل يعمقها، أو يعيب معتنقيها والغيورين عليها بل يشد على يدهم ويقوي أزرهم حتى ولو كانت باطلة، أو عنصرية، فما رأينا مثلًا يهوديًا، أو حتى صربيا، أو كاثوليكيا، أو حتى هندوسيًا يفعل ذلك ولكن جهلتنا لا يقرمون ولا يعقلون، ويتذرعون، ويستدلون على أقوالهم وأحقادهم، بمضحكات مبكيات، ويصفون أمتهم ويستشهدون على إفكهم بتزاوير وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان من حالات مرضية، وحوادث فردية جوفها إعلام مغرض ولاكها لسان مريض، ونحن لا ننكر كعلماء أن هناك تجاوزات في فهم بعض الأشخاص، ولكن يجب أن لا نقراها مقلوبة فهذه التجاوزات تقع كثيرا في كل بلاد الدنيا وأظننا نعلم كم مرة ضرب نار على البيت الأبيض في الولايات المتحدة وكم يحدث كل يوم من تجاوزات فردية، ولو قراتها الإدارة الأمريكية مقلوبة، لفعلت كما يفعل هؤلاء، والولايات المتحدة فيها من العنصريات والنزعات والتوجهات ما لا يحصيه العد، فهل قرأت شيئا من هذا مقلوبًا، وجعلت هذا ظاهرة تفرغت لها، لتهلك الأمة وتذهب هويتها، وتشغلها عن أهدافها، وتفتح الطريق للجراثيم التي تعيش على العفن أن تهمش شعبها.

لقد قرات لأحد من كتاب الصحف يحرض على الإسلاميين فيقول: إذا ما رأوا أحدا يسير مع زوجته في نزهة في طريق داهموه وسألوه هل هذه زوجتك، فقلت: سبحان الله.. أين وقع هذا وفي أي مكان أو شارع كان يسير هذا وداهموه، سواء كانت زوجته أو حتى غيرها، ولكن يظهر أن الكاتب قد أراد أن يستعير من أقطار أخرى حوادث إعلامية بغض النظر عن صحتها أو افتراءها ليبررها بما يقول من قراءات منكوسة وأفكار معكوسة، وليس من صالح أية أمة ناهضة هذه القراءة. وأمامنا أمثلة كثيرة وصارخة ومحزنة لتلك القراءات في بعض البلاد الإسلامية التي دخلت في متاهات وفتن لا يعلم إلا الله مداها ولا أين ستبرأ منها، وقد سلم الله منها بلادا إسلامية بتوفيقه ومنه، فيجب أن نمد يدنا إلى جيل الأمة تعلمه إذا جهل وترشده إذا علم، ونقومه إذا اعوج، ونسمع له إذا رشد، ونشد على يديه إذا استقام، ونعده لغدات، ومستقبل مرتقب ونستفيد من إخلاصه وشبابه وذكائه وفتوته، يجب أن تمد الأمة يدها إلى بنيها ولا حرج عليها ولا أنفة ولا نقيصة، وقد مد كثير منا يده إلى كل ساقطة ولاقطة حتى إلى أعداء الأمة، وكان أول الذين مدوا ايديهم هو أول من أهلكوا ابناءهم وشتتوا شملهم، وكانوا فرسانا على أممهم، وذئابا على شعوبهم وسيعيشون محقورين حتى من أعدائهم لأنهم أسقطوا أممهمفسقطوا وهانوا:

إن الهوان حمار الأهل تَعْرفهُ                             والحر يذكره والأهل والولد

ولايقيم بدار الذل يعرفها                                إلا الأذلان عبر الأهل والوتد 

هذا على الخسف مربوطـ برمنه                          وذا يشج فلا يرثى له أحد

 فهل نظل نقرأ بالمقلوب ونسمع للقراءات المقلوبة والأمثلة كثيرة والسعيد من اتعظ بغيره، وهل تصمت يوم الأمةوغربانها؟ نسأل الله ذلك..

الرابط المختصر :