العنوان من أدب الدعوة.. قال شيخي الثقة
الكاتب أويس القرني
تاريخ النشر الثلاثاء 22-أبريل-1975
مشاهدات 42
نشر في العدد 246
نشر في الصفحة 23
الثلاثاء 22-أبريل-1975
حدثني شيخنا الثقة الصدوق قال:
اعلم يا بني -علمك الله الخير وجعلك من أهله- أن الذنوب كلها تأتي من باب الشهوات، والشهوات إنما تأتي من حب الدنيا والركون إلى أهلها والرغبة في ملذاتها والتهافت على مغرياتها.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة لأنه من تمكن حب الدنيا من قلبه لم يعد فيه مكان لحب الله- عز وجل- فينسى الله ويحب نفسه ويحرص على تحقيق كل ما تشتهيه ويكره كل ما يحول بينه وبين شهواته. وحب الدنيا وحب الناس متلازمان. ومن أحب الناس- دون الله، عز وجل- سعى إلى رضاهم وحذر سخطهم ونسي رضاء الله- سبحانه وتعالى- وأمن سخطه، فتراه أبدًا مداريًا لهم، متقيًا سخطهم، متوددًا إليهم، مكتسبًا مودتهم ولو كان ذلك كله على حساب دينه.. وهذا ولا شك من محبطات الأعمال لأنه ضرب من الرياء والنفاق بل هو عين الرياء والنفاق.
ألم تر أن الله قد عاب المشركين الذين أشركوا به غيره وأحبوا من دونه سواه فقال ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ (البقرة:195) ثم مدح المؤمنين فقال ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ ﴾ (البقرة:195).. واعلم يا بني أن حقيقة الحب والبغض هي في الأصل من أس الإيمان وفي الحديث «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل إيمانه» فهي ضابطة لحب الدنيا وكراهيتها ذلك لأن هذه الدنيا مذمومة مذموم ما فيها إلا ما ابتغى به وجه الله- تعالى. واعلم أن حقيقة الحب والبغض في الله مرتبة عظيمة لا يحوزها إلا من طرق باب الورع ولا يظفر بها إلا من طوق نفسه بالخوف والرهبة وزمها بزمام المراقبة والتقوى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال:2). ولو أنك تدبرت في سيرة السلف- رضي الله عنهم أجمعين، وجدت أن أحرص ما يحرصون عليه في بدء أمرهم أن يتعلموا الورع والتقوى وحسن الأدب والمراقبة لله- عز وجل. فكان أحدهم يتعلم من أدب شيخه وورعه قبل أن يتعلم علمه وكتبه. وقد روى مالك أن أمه أوصته عندما بدأ العلـم فقالت «يا بني إنك ذاهب إلى ابن هرمز- شيخه- فخذ من ورعه وأدبه قبل أن تأخذ من علمه».
فالقوم قبلك- يا بني- لم يقصروا أنفسهم على تعلم الفقه فقط ولا حفظ الحديث وحده ولم يعدوا صاحب الفقه والحديث عالمًا حتى يتعلم الورع والأدب.. ذلك أنه لا خير في علم ما لم يقد صاحبه إلى أدب لأن ثمرة العلم الأدب ولو أنك تدبرت حال الناس اليوم لوجدت غالبهم قد اشتغل بما لا ينفع من العلم وكان من دعاء الرسول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» وكان عبد الله ابن مسعود يقول: «ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم الخشية.» وقد كان أحدهم فيما بلغنا أنه لا يتخطى باب العلم حتى يرى نفسه أنه قد أتقنه علمًا وعملًا.. وعن الضحاك بن مزاحم قال: «كان أولوكم يتعلمون الورع ويأتي عليكم زمان يتعلم فيه الكلام. وكان أولوكم أخوف ما يكونون من الموت أصح ما يكونون» وعنه أنه قال «أدركتهم وما يتعلمون إلا الورع».
كانوا يا بني يتعلمون مكارم الأخلاق يأخذونها عن شيوخهم الثقات وممن يقتدى بهم يقضون في ذلك الأعوام الطوال يأخذون أنفسهم عليها ويجهدونها حتى تطيع، ويصبرون على ذلك حتى تألفها نفوسهم وتلين لها قلوبهم ويتعلمون كتم الغيظ وحسن المعاشرة ويتعلمون الصمت، يتعلمون ذلك كله.
عن مورق العجلي قال: "ما امتلأت غيظا قط ولا تكلمت في غضب قط. ولقد سألت ربي مسألة عشر سنين فما أعطانيها، وما أيست منها وما تركت الدعاء بها، فسئل ما الذي دعا ربه؟ قال: ترك ما لا يعنيني".
وقد ذكر ابن الجوزي أن "جماعة من السلف كانوا يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته".
فافهم هذا وامزج علمك بمطالعة سير السلف والزهاد؛ ليكون سببا لرقي قلبك، ثم اعمد أول ما تعمد إلى إخلاء قلبك من حب الدنيا حتى لا يشغلك غير الله شاغل. وانبذ الدنيا إلا ما كان منها لله، واستبدل بها الآخرة، واجعلها همك الذي من أجله تحيا، والزم نفسك الجادة وأقمها على طاعة الله، واجعل القرآن والسنة ميزانا لكل عملك، وأحب لله وابغض لله، وأعط لله، وامنع لله.. تستكمل بذلك إيمانك، وتكن من السابقين، أولئك يرجون تجارة لن تبور.
قال الشيخ: أوعيت ما قلت لك يا بني؟
قال: نعم زدني زادك الله وإياي من نعمه وفضله.
فتبسم الشيخ وقال كالمغضب: "أها.. ما أسرع ما ضيعت.. لا وربك لا أزيدك حتى يعي قلبك ما قد حدثتك عنه".
أويس القرني
لندن
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل