; من الأزهر إلى الكريملين | مجلة المجتمع

العنوان من الأزهر إلى الكريملين

الكاتب د. حامد سلام

تاريخ النشر الثلاثاء 07-أكتوبر-1980

مشاهدات 17

نشر في العدد 500

نشر في الصفحة 26

الثلاثاء 07-أكتوبر-1980

تنقسم الدراسات التي تتناول الفكر الشيوعي إلى قسمين: الأولى تدافع عنه وتلبسه لباسًا مزركشًا بالأمل والآمال. مرصعًا بأحلام الخلاص من الاستبداد والعبودية.

والثانية تعريه وتظهره على حقيقته وما يجلبه على البشرية من سوء العاقبة والتردي في هاوية التيه والضياع. ولكن ماذا لو أتيحت للإنسان فرصة العيش والتعايش في المجتمع الذي تغذيه هذه الأفكار وتسيره وفق أهوائها وتهيمن عليه، بجبروتها.. إنها ستكون فرصه عظيمة بلا شك حيث التجربة الحيه للدراسات التي تناولت الفكر الشيوعي سلبًا وإيجابًا.. وهذا ما حدث لي.. ويا لها من تجربة مروعة لإنسان نشأ وتربى في ربوع الأزهر، قلعة الإيمان ومركز إشعاعه ألقي به في الكريملن. جهنم الإلحاد وبؤرته ومصدر انتشاره. وعبر الأسطر القادمة سأحاول أن أرسم صورة حقيقية بلا رتوش أو تكبير لبعض جوانب هذا المجتمع كما عايشته بنفس غير ملتزم بأية تعقيدات فلسفية أو لعب بالألفاظ أو انتقاء لكلمات براقة تزيف الواقع وتحير القارئ وتخدعه كما تفعل بعض الدراسات الفلسفية الجدلية وابتداء أرجو أن يعذرني القارىء المحترم في أن أسطر أحيانًا بعض الصور البعيدة كل البعد عن أبسط مبادئ الأدب والحياء. حيث لا أنشد سوى الحقيقة كما رأيتها فقط. ولعل القدر كان يريد أن يدق لي ناقوس الخطر والخوف والترقب في لحظة أن وطأت قدماي هذا المجتمع حيث لم يمض سوى ساعات قليلة على وصولي إلا وقد سرقت أثناء سفري بالقطار إلى مقر دراستي. فقد خطف أحدهم معطفي المعلق خلفي تحت سمع وبصر الركاب الذين لم يحركوا ساكنًا لما حدث تاركين الرجل يهرب قافزًا من القطار عند تحركه غير مهتمين بصراخي ولهفتي على المعطف الطائر بكل ما فيه...

وكانت تجربة مفزعة تركت في نفسي أسوأ الأثر.

 وجاءت الصدمة الثانية بأسرع ما تصورت وكانت فور وصولي لمقر سكني والذي جاهدت جهادًا مريرًا في الوصول إليه لجهلي بلغتهم ولجهل من أسألهم بأية لغة سوى لغة البلاد.. وكان منقذي أحد الزملاء العرب الذي وجدته مصادفه في محطة التاكسي حيث أوصلني إلى مكان سكني والذي وجدته عبارة عن حجرة صغيرة تحتوي على ثلاث أسرة ومكتب صغير ودولابين بلا حمام أو مطبخ أو أية تجهيزات مما تعودنا عليه في بلادنا.. وتعرفت على زميلي بالغرفة وكان أحدهم عربي والآخر من فيتنام.. وفي التو واللحظة حدثت مفاجأة المفاجآت بالنسبة لي.. حيث أردت الذهاب الدورة المياه فإذا بي أجدها عبارة عن حجرة كبيرة تحتوي على حوض طويل في جانب من جوانبها مشابه للأحواض التي تشرب منها البهائم في بلدنا الريفي.. هذا الحوض للتبول.. وفي جانب آخر توجد عدة فتحات للتبرز بلا أبواب على الإطلاق وفي الجانب الثالث خلف حائط قصير توجد عدة أرشاش للاستحمام.. كل هذا في وقت واحد ومكان واحد..

وكان منظرًا رهيبًا فوق التصور.. منظرًا معززًا مهينًا أحسست في لحظتها أنني بين عالم من الدواب فأصابني الغثيان ورجعت فورًا للحجرة حيث لاحظ زميلاي ما أصابني ولم أجد عليهم أي أنفعال سوى أن طيب خاطري زميلي العربي قائلًا «معلهش بكرة تتعود» ولكن من حسن الطالع أنني لم أتعود حيث أنني جاهدت جهادًا مريرًا حتى سعدت بحجرة يوجد بداخلها دورة مياه صغيرة خاصة لها.. ولعله يتبادر للذهن أن هذه الصورة توجد في بعض الأماكن، ولكن هي صورة عادية جدًا وفي كل مكان وأنا أسوق للقارئ معايشتي كأحد المواطنين وليس كأحد السياح الذي يرسم له خط للسير والمعيشة لا يحيد عنه.. والإقامة في أفخم الأماكن وزيارة أحدث المنشآت.. 

ولي وقفه قصيرة جدًا هنا: أية حضارة وأي تقدم يزعمون.. نهدر كرامة الإنسان في أبسط وأنقى صورها.. الطهارة.. النظافة وهل تجوز المقارنة مع طهارة ونظافة الإنسان المسلم الذي يعتني بنظافة البدن قدر اعتنائه بنظافة الروح والفكر والأخلاق..؟!

وجاءت الصدمة الثالثة: وكانت في الصميم.. حيث تقدم بعض الدارسين العرب وأنا منهم بطلب للمسئولين لاصطحاب زوجاتهم وأولادهم معهم أثناء الدراسة وهي فترة ليست بالقصيرة حيث تمتد ثلاث إلى ست سنوات أو أكثر.. ففوجئوا بأن القانون يمنع ذلك تمامًا وعندما أكثرنا في التردد والإلحاح على مكاتب المسئولين بهذا الشأن عقدوا لنا اجتماعا وأسمعونا الكثير وبلا مناسبة عن الفكر الاشتراكي ودوره في النهوض بالمجتمعات والكثير من الكلمات الرنانة التي بلا معنى ولا هي حتى في توقيتها ومناسبتها.. وعندما بدأنا نكلمهم عن الذي جئنا من أجله كان رد كبيرهم عجبًا.. حيث قال بحروف لا زلت أذكرها وترن في أذني مسامعها.. لماذا تريدون إحضار زوجاتكم هل بناتنا لا يشبعونكم.؟.. وخيل لنا أنه يمزح ولكنه استدار إلى أحد المسئولين عن الحزب في قطاع الجامعة وسأله سؤالًا عفو يًا- ولكن له مدلول كبير عرفناه للتو واللحظة وتأكد لنا فيما بعد- ألا وهو: هل الفتيات المكلفات بالترفيه عنهم ومصاحبتهم لم يؤدوا الواجب؟ وعلى الفور تذكرت زملاءنا في الجامعة وخاصة الفتيات والذين يجيدون الحديث بالإنجليزية ويرتبون لنا الرحلات للتعرف على جوانب البلاد ومناطقها السياحية ويتحدثون معنا مركزين على جوانب محددة في الحديث وفي كل مرة وبمناسبة وبدون مناسبة يحدثوننا عن سلبيات كل النظم وإيجابيات النظام الاشتراكي الشيوعي وتعظيم الفكر الإلحادي وتسفيه ما عداه من فكر.. يا له من ترتيب عجيب وعملية غسل للدماغ ماكرة فاجرة.. وهنا قررت أن أترك هذا المجتمع وخصوصًا وقد مضى حتى الآن على حضوري ثلاثة أشهر كاملة قاسيت فيها الوحدة والوحشة وسوء الصحبة والصاحب ومعاناة العبادة وفقدان الهواء النظيف والماء الطاهر والعيش الآمن المستقر.. وخرجنا من الاجتماع ولم نستفد شيئًا سوى الإحساس بالإحباط واستحالة التعايش والتعامل مع هؤلاء القوم وقررت السفر إلى موسكو لمقابلة المستشار الثقافي المصري المسئول عنا بالاتحاد السوفيتي وصدمت بسلسلة من الإجراءات حيث علمت أنه للسفر إلى أي جهة داخل الاتحاد السوفيتي فلا بد من «فيزا» وتصريح لسبب السفر ومكان الإقامة ومدتها الأمر الذي لم يرض المسئولين عمله لي لاقتناعهم بعدم جدوى سفري لموسكو وأخرجني من هذا المأزق أحد الزملاء القدامى العارفين بالأمور التي تسهل كل عسير.. والتي تعلمتها ووعيتها فيما بعد- فهناك قول متداول بينهم ترجمته الحرفية «كل شيء ممكن عمله.. فقط كن على حذر..» وهذا القول بحكم أغلب تصرفات أفراد هذا المجتمع ومعناه في الجوهر أن تحتال على القوانين واللوائح مهما كانت صلدة وقوية.. بالمال.. بالرشوة.. بالهدايا بالجنس.. بكل الطرق غير المشروعة.. فقط كن على حذر وأنت تسير في هذا الطريق الشائك.. المهم قال لي زميلي: جهز بعض ما عندك من سجاير أميركية أو لبان «علكة» أميركية أو زجاجة خمر أجنبي مشهور أو أية ملابس عليها ماركات أجنبية وهيا بنا إلى المطار فورًا ولم يستجب لتساؤلاتي ولا لاستنكاري لهذه الوسائل قائلًا: لا تضيع وقتك وأنا سأقوم بالنيابة عنك بهذا.. وذهبت إلى المطار ودخلنا أحد المكاتب وأخذ يتحدث مع أحد المضيفات بود وشوق وأعطاها شيئًا لم أتبينه في الحال وعرفت فيما بعد أنه زجاجة خمر أجنبي وعلكة والمبلغ المطلوب لتذكرة الطائرة وطلبت المضيفة مني الانتظار في مكتبها حتى تعود لأخذي معها على الطائرة وفعلًا دخلت معها إلى الطائرة بدون أية تعقيدات ولا حجز عند الأبواب ولا فيزا أو تصريح وكنت أسير خلفها متردد الخطى راجفًا خائفًا.. ولم تهدأ ثائرتي إلا والطائرة في السماء وأنا جالس تدور في رأسي طاحونة من الأنفعالات المتباينه وهواجس كثيرة تسيطر على داخلي ولم أفق منها إلا عند هبوط الطائرة أرض مطار موسكو.. حيث قابلتني مفاجأة زلزلت ما تبقى مني من أعصاب.. وللحديث بقية.

الرابط المختصر :