العنوان من الحياة ... من ثمرات التربية
الكاتب أ. د. سمير يونس
تاريخ النشر السبت 03-يناير-2009
مشاهدات 13
نشر في العدد 1833
نشر في الصفحة 58
السبت 03-يناير-2009
أولادنا ثروات عظيمة هائلة نمتلكها، ولكننا في معظم الأحايين لا نقدرها حق قدرها، ولا نستثمرها عندما لا نحسن تربيتها.. فأطفالنا براعم واعدة إن نحن أحسنا تربيتهم واستثمارهم، ويمكن لهذا البرعم الصغير أن يصير نباتًا مثمرًا نافعًا، ويستطيع هذا الطفل الصغير -حتى قبل أن يكبر- أن يملأ الأرض حضارة ورقيًا.
فأين نحن من تربية أولادنا وحسن استثمارهم حتى يصيروا ثمرات مفيدة نافعة؟!
استثمار الطفولة وثمراتها
حدثتني إحدى الأمهات - وهي واحدة من أعضاء هيئة التدريس بكليتي التي أعمل بها - قالت: إنها في أثناء بعثتها العلمية كانت تصطحب طفلها في نزهة بإحدى مدن ألمانيا، فطلب منها ابنها أن تشتري له حلوى معجون الثلج «آيس كريم»، فلبت طلبه، وجلسا في استراحة بإحدى الحدائق لتناول الـ «آيس كريم»، ثم نهضا ليستكملا سيرهما على الأقدام، تقول الأم: بعد أن سرنا حوالي مائتي متر سألت طفلي: أين العبوة الفارغة التي كان بها الـ «آيس كريم»؟
فأجابني: رميتها، فقلت: أين؟ قال: على الأرض، فأخذت أبين له الآثار السلبية لهذا السلوك، وأن النظافة من الإيمان في حوار تربوي هادئ، ثم رجعت به مائتي متر إلى أن وصلنا إلى الوعاء الفارغ، وما أن أصبحت العبوة في متناول يد الطفل إلا وأخذه وألقى به في سلة المهملات دون أمر مباشر مني!!
وتستكمل هذه الأم حديثها فتقول: عدنا بعد أن انتهت مهمتي العلمية إلى وطننا، وفي أثناء إحدى نزهاتي مع ابني رأينا الشوارع غير نظيفة، تكتظ بالأوراق والنفايات وبقايا الأشياء والأدوات التي رميت عبثا، ولاحظت على طفلي الضيق والتبرم مما يراه، كما انتقد طفلي الفوضى المرورية في الشوارع، وسوء النظام بها، وعدم نظافتها، لدرجة أنه سألني: لماذا أتينا إلى هنا ولم نستمر في العيش بألمانيا؟ مما أدخل على نفسي هاجس الخوف على انتمائه لوطنه، ومن الطريف في هذه النزهة أنه وجد رجلًا كبيرًا يلقي ببعض الأوراق في الشارع على الأرض، فاقترب الطفل من الرجل وقال له: عمي، هذا سلوك ضار، يضر الناس ويؤذيهم، من فضلك مكان هذه الأوراق سلة المهملات وليس أي مكان في الشارع!! ثم التقط الطفل الأوراق من على الأرض، ووضعها في سلة المهملات.
انظر- عزيزي القارئ - إلى ذلك الطفل عندما تهيأ له بيئة تربوية، ويحسن مربوه تربيته ويكونون له قدوة قبل أن يكونوا له دعوة ويستمسكون بالإحسان قبل استخدام الكلام والبيان، وخاصة إذا لم يقترن الكلام بعمل، ومن ثم تضيع القدوة، ويضيع تأثير المربي.
أنا لست من المنبهرين بكل ما أتانا من الغرب، ولكننا أمة تشهد بالحق، والحق أن الغرب أخذوا بكثير من قيم الإسلام ومبادئه وإن لم يقصدوا بها التعبد لله تعالى فإتقان العمل، والصدق، والنظافة... وغير ذلك من قيم العمل والقيم الاجتماعية يعتنقونها، فإذا آزرت البيئة التربوية جهود المربين فإننا نجني ثمارها التربوية بلا شك، ولك أن تنظر كيف صار هذا الطفل- برغم صغر سنه - مصباحًا منيرًا مشرقًا بل ناصحا أمينًا وفردًا إيجابيًا، مصلحًا يصلح غيره ويدعوه إلى الخير والجمال وإن كان غيره أكبر منه!!
ذات مرة كنت أنفذ دورة تدريبية للمعلمين بمدرسة إسلامية في إحدى محافظات مصر، وكلفت في نهايتها أن أرتب المعلمين حسب مهاراتهم التدريسية والتربوية، وفي أثناء الاستراحة جاء أحد أولياء الأمور ليتقدم بطلب لالتحاق ابنه بالمدرسة، وهو من ذوي السلطة والجاه- فطلب مني صاحب المدرسة أن أجري معه مقابلة، فكان من الأسئلة التي وجهتها إليه لماذا اخترت هذه المدرسة لأولادك؟ فأجابني: هذه المدرسة ربتني أنا!! قلت: كيف؟ قال: لي ابن سبق أن التحق بها منذ أربع سنوات، فكنا إذا جلسنا على الطعام علمنا ابني آداب الطعام، كما تعلمها في المدرسة، وكيف نردد دعاء الطعام، وكذلك إذا خرجت من البيت أو دخلته، أو أردت دخول الخلاء، أو قصرت في الصلاة أو في عبادة الله تعالى، فكان ابني خير سفير ومعلم لي!! إذ إنني لم تتح لي فرصة تعلم أمور ديني، وأجهل كثيرًا مما تعلمته من ابني، ووقتي لا يسمح بالاستماع لدرس في المسجد، وربما لو استمعت لا أعير انتباها لمن يلقي الدرس، ولم أجد وقتًا السماع شريط، فلما كثرت توجيهات ابني لي. خجلت من نفسي، وقلت: مَنْ يُعلم مَنْ؟
ودفعني ذلك للاطلاع والإقبال على العلم ومعرفة أمور ديني، لقد كان طفلي خير داعية لي!!
إن طفلًا مسلمًا - كهذين الطفلين اللذين أوردت لكل منهما موقفًا مؤثرًا- ليبشر بمستقبل واعد في سماء الدعوة إلى الإسلام، وفي مجال السلوك الحضاري ونشره، والتأثير في الآخرين.. إنه طفل ولكنه قدوة.. إنه إسلام مسموع مرئي، ولا يخفى علينا أن أثر مسلم مستقيم متحضر ملتزم ليفوق حد الخيال، وخاصة إن كان طفلًا، فهو أبلغ من الكتب والدروس والمحاضرات والعظة المباشرة؛ لأن هذا الطفل حقيقة معها أدلتها وبراهينها القوية.
ثمرات تربوية ربانية
إن القارئ لتاريخ الإنسانية بهدف رصد تأثير التربية في تحقيق ثمراتها ليتأكد أن التربية تستطيع - بإذن الله- أن تؤتي ثمارها اليافعة النافعة عندما نتقنها ونحسبها، ونخلص النية بها لله تعالى، ويطيب لي أن أورد هنا في هذا السياق طائفة من النماذج تجسد ما أذهب إليه.
نموذج «علي بن أبي طالب» رضي الله عنه:
يقول ابن إسحاق: «ثم كان أول ما ذكر من الشباب آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم معه وصدق بما جاء به علي بن أبي طالب، وهو يومئذ ابن عشر سنين، وكان ﷺ إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب، ولما شعر أبو طالب بذلك قال لابنه علي يا بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال: يا أبت آمنت بالله ورسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته، فقال أبو طالب: أما أنه لم يدْعُكَ إلا إلى خير فالزمه، وفي ليلة الهجرة أبقاه النبي ﷺ مكانه التوزيع الودائع والأمانات إلى أهلها، ووقف يوم الخندق أمام عمرو بن ود الفارس العربي الشهير وقتله».
نموذج «مصعب بن عمير» رضي الله عنه:
ينتسب مصعب بن عمير إلى بني هاشم.. وينقل المؤرخون عن بعض مَنْ شاهدوا مصعبًا في شبابه: «أنه كان فتى مكة شبابًا وجمالًا وهيئة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان أنعم غلام في مكة، وكانت رائحته الطيبة تعرف عن بعد.. ولما بُعث النبي ﷺ- وكان يلتقي بأتباعه في دار الأرقم. علم بذلك مصعب بن عمير الشاب المدلل، فأسرع إلى النبي ﷺ ، وأسلم وحسن إسلامه، وظل فترة مستخفيًا، فعلمت أمه كما علم قومه، فأخذوه وأوثقوه بالحبال حتى يرجع عن دين محمد ﷺ، ثم هرب وهاجر إلى الحبشة، ولما عاد إلى مكة أمره الرسولﷺ بالهجرة إلى المدينة المنورة، وكلفه أن يكون سفيرًا للإسلام هناك، ليدعو الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ويعلمهم أمور دينهم، فهدى الله به القوم وعلى رأسهم سيدنا أسعد بن زرارة، وسيدنا سعد بن معاذ، وسيدنا أسيد بن حضير رضي الله عنهم أجمعين، ثم رجع سيدنا مصعب بن عمير إلى مكة ليخبر النبي بالأمر، ويبشره بالنجاح الكبير الذي تحقق في نشر دعوة الإسلام بالمدينة المنورة، وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مصعب رضي الله عنه إلى المدينة المنورة، ليهيئ الأجواء للنبي ﷺ، وليكون في استقباله.
وفي غزوة بدر أبلى سيدنا مصعب رضي الله عنه بلاء حسنًا، ثم شارك في غزوة «أحد»، وكان يحمل اللواء، فجاءه ابن قميئة الفارس المشهور، وضرب يده اليمنى فقطعها، وأبي مصعب إلا أن تظل راية الإسلام مرفوعة خفاقة حتى آخر نفس من أنفاسه، فأمسك مصعب اللواء بيده اليسرى وهو يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَاتَ أو قُتِلَ انقَلبْتُم عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشاكِرِينَ﴾ (آل عمران:144)، ثم ضربه ابن قميئة في يده اليسرى، فأخذ مصعب اللواء بعضديه وهو يقول﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَاتَ أو قُتِلَ انقَلبْتُم عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشاكِرِينَ﴾ (آل عمران:144)ثم ضربه ابن قميئة بحربة في صدره استشهد بعدها، مودعًا دار الفناء إلى دار البقاء، بعد تاريخ حافل بالإنجازات، فكان مصعب واحدة من أعظم ثمار التربية النبوية.. وحين استشهد وقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مِّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23)
لقد مات مصعب رضي الله عنه ولم يملك من حطام الدنيا سوى ثوب واحد، كانوا إذا غطوا رأسه انكشفت قدماه، وإذا غطوا قدميه انكشف رأسه، فسألوا النبي ﷺ فأخبرهم بأن يغطوا رأسه، ويضعوا على قدميه الإذخر.
نموذج أنس بن مالك رضي الله عنه:
هو أنس بن مالك بن النضر الخزرجي الأنصاري، وهو صحابي جليل ولد بالمدينة، وأسلم صغيرًا، وكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ «أبي حمزة»، وقد خدم الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته وهو ابن عشر سنين، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له، وأدخله الجنة»، فعاش طويلًا، ورزق من البنين والحفدة الكثير، وروى كثيرًا من الأحاديث عن رسول الله ﷺ.
ولقد قدمته أمه أم سليم خادمًا لرسول الله ﷺ عندما أرادت أن تقدم شيئًا للدعوة الإسلامية، فلم تجد إلا فلذة كبدها وولدها وبذلك هيا الله عز وجل لسيدنا أنس تلك البيئة التربوية النبوية، كما قيض له أعظم المربين وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد أتت هذه التربية النبوية ثمراتها التي تجسدت في شخصية أنس رضي الله عنه، ومن أبرز ذلك أنه قدم رضي الله عنه إلى دمشق في عهد الوليد بن عبد الملك حين استخلف سنة ست وثمانين وفي أحد الأيام دخل الزهري عليه في دمشق فوجده يبكي، فسأله ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئا مما أدركنا إلا هذه الصلاة.
وعن علمه يقول مؤرق العجلي: عندما مات أنس: «ذهب اليوم نصف العلم، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا له: تعال إلى من سمعه منه «يعني أنس بن مالك»، ومن أقوال أنس رضي الله عنه لبنيه: «يا بني قيدوا العلم بالكتاب».
ولم يكن أنس رضي الله عنه خادمًا لرسول الله ﷺ: ومحدثًا عنه فقط، بل أثمرت تربية النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا مجاهدًا وبطلًا وغازيًا، فقد خرج أنس رضي الله عنه، مع النبيﷺ إلى غزوة «بدر» وهو غلام يخدمه، وقد سأل إسحاق بن عثمان موسى بن أنس: كم غزا رسول الله؟ قال: سبعًا وعشرين غزوة، ثماني غزوات يغيب فيها الأشهر، وتسع عشرة يغيب فيها الأيام، فقال: كم غزا أنس بن مالك؟ قال: ثماني غزوات.
ولم تنته هذه الثمرة بوفاة النبي ﷺ، بل استمر عطاء أنس بعد وفاة رسول الله ﷺ، فقد استعمله أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عمالة «البحرين»، وشكراه على ذلك، وقد انتقل سيدنا أنس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فسكن البصرة.
وقد توفي سيدنا أنس رضي الله عنه بالبصرة، واختلف في سنة وفاته، فقيل: توفي سنة تسعين للهجرة، وقيل: اثنتين وتسعين أو ثلاثًا وتسعين للهجرة، وهو آخر من توفي بالبصرة من الصحابة، ودفن هناك.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
الأهمية الحركية لغزوة بدر بقلم الأستاذ نبيه عبدربه - الحلقة الثانية
نشر في العدد 124
21
الثلاثاء 31-أكتوبر-1972