; من فقه التاريخ وأحداثه.. تجارب الأمم في مواجهة الدكتاتورية ومقاومتها | مجلة المجتمع

العنوان من فقه التاريخ وأحداثه.. تجارب الأمم في مواجهة الدكتاتورية ومقاومتها

الكاتب أ.د. السيد محمد نوح

تاريخ النشر السبت 07-يوليو-2007

مشاهدات 22

نشر في العدد 1759

نشر في الصفحة 52

السبت 07-يوليو-2007

  • تجارب الأنبياء على مدار التاريخ هي أنجح التجارب

رأينا في المقالة السابقة كيف عملت هذه الدكتاتوريات على تقويض الحضارات والإطاحة بها، كما رأينا موقف الشرائع السماوية والأرضية من الدكتاتوريات. وأنها ترفضها رفضاً قطعيا شكلا وموضوعاً، وعرفنا الأسباب التي توقع الأمم والشعوب في حبائل الدكتاتورية، وبقي أن نسوق تجارب الأمم في مواجهة الدكتاتورية ومقاومتها في مقالة اليوم، وسنعرض ثلاثة محاور للمقال:

الأول: مواجهة الدكتاتورية فريضة شرعية وضرورة بشرية.

 الثاني: خلاصة تجارب الأمم في مواجهة الدكتاتورية ومقاومتها.

الثالث: تقييم تجارب الأمم في مواجهة الدكتاتورية.

مواجهة الدكتاتورية ومقاومتها فريضة شرعية وضرورة بشرية

 توجب الشريعة الإلهية مواجهة الدكتاتورية، ومقاومتها وجوباً وتفرضها فرضا، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدريt : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فيقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، ويقول فيما رواه مسلم في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود  t «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»، ويقول  rفيما رواه البخاري في الصحيح من حديث النعمان بن بشير: «مثل القائم في حدود الله. والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها. وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أن خرقنا في نصيبنا خرقا ولم تؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا».

 كما تحرم السكوت على الدكتاتورية، وتجعله إثما يستوجب الطرد من رحمة الله، قال تعالى عن الكافرين من بني إسرائيل: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا  لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (المائدة:81). 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي في جامعه وحسنه من حديث عبد الله بن مسعود t: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض»، ثم قال ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (المائدة:78) ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطر ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم.

 ويقول الصديق فيما روى أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة« يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه. أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه».

ومواجهة الدكتاتورية ومقاومتها ضرورة بشرية، ذلك أن الإنسان إذا عاش مقهورا على الدوام، فإنه يصيبه اليأس والقنوط فيقعد عن أداء واجبه، وتتعطل المصالح وينتشر الشر والفساد، وقد يعمل على التخلص من الحياة، فيخسر الدنيا والآخرة جميعاً.

خلاصة تجارب البشرية في مواجهة الدكتاتوريات ومقاومتها

وهناك تجارب عدة منها:

1- الإضراب عن العمل: بمعنى التوقف عن أدائه، وغالباً ما تتولى الإعلان عن ذلك النقابات، أو الأندية، أو الجمعيات، كما حدث ويحدث في أوروبا، وفي أنحاء أخرى من العالم وإن كان بصورة أدنى من أوروبا.

٢- الإضراب عن الطعام: كما يصنع المسجونون والمعتقلون وهذا حدث، ويحدث في العالم كله مسلمه وغير مسلمه، وناميه ومتقدمه.

٣-  التظاهر: بمعنى التجمع في الميادين والطرقات بصورة سلمية مع حمل لافتات تعبر عن رفض الدكتاتوريات، والاستمرار في ذلك حتى يتم التغيير وتحقيق المطالب، أو لفترة مؤقتة، وتنفض هذه المظاهرات، وقد تكون هذه المظاهرات مصحوبة بهتافات تحمل معنى الرفض وكذلك العدوان والتخريب أو الاشتباكات مع حماة الدكتاتور وأركان دولته ونظامه .. شهدنا هذا في أنحاء متفرقة من العالم. 

٤-  كشف سوءات النظام الدكتاتوري: وبيان فساده ومخازيه في محاولة لإحراجه حتى يرتدع. وهذا ما تعبر عنه الصحافة المعارضة والإعلام بكل أدواته في كل أنحاء العالم.

٥- شكاية هذا النظام إلى محاكم العدل الدولية: حتى تتولى التحقيق وإصدار قرارها بدفع الظلم عن الناس، وإلغاء الدكتاتورية.

٦- الاستقواء ببعض الأنظمة ذات المكانة المرموقة: في العالم كي تتدخل لإسقاط الدكتاتور كما صنعت أمريكا فيما مضى، وتصنع اليوم.

٧-  الدخول في اللعبة السياسية عن طريق صناديق الاقتراع: وهذا أكثر تجارب البشرية في العصر الحديث. 

٨- الانقلابات العسكرية: حيث تقوم مجموعة تملك من القوة ما يمكنها من خلع الدكتاتور، وتنصيب من هو محل رضا مكانه كما حدث مع دكتاتور موريتانيا، وتنصيب قيادة عسكرية تقوم بالأمر إلى حين جريان الاقتراع، وتحويل السلطة إلى مدنية.

٩-  قتل الدكتاتور: حيث تثور مجموعة نافذة عليه، فتقتله وتختار آخر ليقوم بالأمر من بعده، كما حدث لشاوشيسكو في رومانيا.

 ۱۰ - استخدام سياسة النفس الطويل في دعوة الناس: وتربيتهم على رفض الكبت والقهر كما صنع النبيون على مدار التاريخ، ولا يزال يقع من بعض الجماعات اليوم.

  تقييم وتقويم تجارب الأمم في مواجهة الدكتاتوريات ومقاومتها

التجربة الأولى: تجربة ناجحة، وأثبتت فاعليتها في كثير من البلدان، حين يقوم بها كل العمال من خلال ممثليهم، وحين تستمر حتى تجاب مطالبها وليكن المطلب محددا : رفع الظلم واحترام الإنسان، وحده أو مع غيره، ووضع التشريعات اللازمة، والكفيلة بتحقيق ذلك، والتهديد بأن إيذاء أي عامل هو إيذاء لكل العمال، حتى لا يتكرر ما يحدث مع كثيرين: إيقاف الإضراب، وانتظار الهدوء، ثم أخذ هؤلاء الواحد تلو الآخر في السر وفصله، والتنكيل به، وجعله عبرة للآخرين.

 التجربة الثانية: ليست فاعلة كثيراً، إلا إذا شملت كل العناصر القادرة على الكسب والتحمل واستمرت وصاحبها دعاية واسعة بالمطالب وإصرار على المضي في هذه التجربة حتى تجاب المطالب.

التجربة الثالثة: ناجحة حين تكون سلمية، وحققت المطلوب في بعض البلدان لكنها مرفوضة حين تكون غوغائية وعدوانية تخريبية، لأن الخسران فيها من بشر ومال ولن تضر بالدكتاتور بقدر ما تضر بالأمة.

التجربة الرابعة: غير مجدية كثيراً، لأن الدكتاتور قد مات قلبه، وبالتالي لا يؤثر فيه الفضح، والتشهير.

 التجربة الخامسة: قد تؤثر لو كان الأمر بعيداً عن المجاملة والمحاباة، أما إذا اقترن بالمجاملة والمحاباة فعلى الدنيا السلام وميلوسوفيتش خير مثال على ذلك، وشارون وغيره من جزاري إسرائيل صدرت ضدهم أحكام يمنع دخول بعض البلدان، وقد دخلوها، وصدرت أوامر بالقبض عليهم، وهم في حرية تامة يمرحون ولا محاسب لهم.

التجربة السادسة: غير مجدية.. وربما تجر إلى تدخل هذه الأنظمة للاحتلال، ونهب خيرات الشعوب وإحداث فوضى، وإشعال حروب أهلية لا يعلم خطرها. وحقيقتها إلا الله، والعراق نموذج واضح لذلك اليوم.

التجربة السابعة: وهي غير مجدية في البلاد التي تعيش على التبعية لغيرها، حيث تصادر نتائج الاقتراع. كما حدث في الجزائر، وتنشب الحروب الأهلية، أو تزور نتائج الاقتراع، أو يكون التآمر عليها فلا تؤتي ثمارها المرجوة، وإن كانت فبعد جهد ومعاناة كبيرين.

التجربة الثامنة: غير مجدية لأنها تستبدل دكتاتوراً بدكتاتور ويبقى الوضع على ما كان عليه .

التجربة التاسعة: غير مجدية لنفس النتيجة السابقة.

التجربة العاشرة: وهي تجارب الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم على مدار التاريخ، وهي أنجح التجارب حيث تقوم على تغيير أفكار الناس عن أصل هذا الوجود، وعن أنفسهم، وعن رسالتهم، وعن المنهج والقدوة، والكون، والوطن، والعوالم الأخرى، والعقبات، وعلل النفوس وكيفية مداواتها والتغلب عليها، وعن العاقبة والمصير، بما يضمن اتساع قاعدة الذين رضعوا لبن الحرية وعرفوا أساسها وغذاءها وتكاليفها، وهم لا محالة سيصلون يوما ما وإن أصابهم من الابتلاء ما أصابهم، ولحقهم من التكاليف ما لحقهم، وهم السعداء حقا في الدنيا والآخرة، ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء:74)، «يضمن الله لمن خرج مجاهدا في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما من أجر أو غنيمة» (متفق عليه). 

فليت كل الذين يعانون من الدكتاتورية يستمسكون بمنهج الله. ويلتزمون بتعاليمه، ويتحملون تكاليفه لينقشع عنهم ظلام الدكتاتورية ويستضيئوا بضياء الحرية، والله ولي التوفيق.

([1]) أستاذ الحديث وعلومه، جامعة الكويت.

الرابط المختصر :