; من مائدة النبوة (العدد 235) | مجلة المجتمع

العنوان من مائدة النبوة (العدد 235)

الكاتب عبد الله بن عبد الرحمن آل سند

تاريخ النشر الثلاثاء 04-فبراير-1975

مشاهدات 19

نشر في العدد 235

نشر في الصفحة 40

الثلاثاء 04-فبراير-1975

من مائدة النبوة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول- الله صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فسيق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (رواه البخاري ومسلم). عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أسلم بمكة قديمًا سادس ستة، شهد بدرًا وبيعة الرضوان والمشاهد كلها. وصلى إلى القبلتين وكان- صلى الله عليه وسلم- يكرمه ويدنيه وكان مشهورًا عند الصحابة بأنه صاحب رسول الله وبشره النبي- صلى الله عليه وسلم- بالجنة. قال: حدثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق في قوله لمطابقته الواقع المصدوق- أي الذي يأتيه جبريل من الله بالخير الصادق-. والجملة معترضة وفائدة الاعتراض بها دفع سوء الظن بحديث النبي- صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه إخبار بشيء من غيب الله تعالى كما قال- عز وجل-: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ (لقمان: 34). إن أحدكم، بكسر همزة إن، حكاية لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأكد الكلام اهتمامًا بالمقام ولأنه خطاب عام لجميع الناس وفيهم منكرون لذلك «يجمع خلقه» أي مادة خلقه وهي المني «في بطن أمه» أي في رحمها لأن البطن محل للرحم «أربعين يومًا» أي ويستقر أربعين يومًا حال كونه «نطفة» أي كحاله وقت نزوله والمعنى أن كل واحد منكم معشر بني آدم يجمع المني المتخلف منه. ويكون أربعين يومًا في رحم أمه كحاله حين نزوله وهذا هو الطور الثاني لخلق الإنسان. وأما الطور الأول فهو خلقنا من تراب نباتًا فغذاء فنطفة «ثم يكون علقة مثل ذلك» ومثل ذلك صفة الزمن والعلقة قطعة دم غليظ لم يجف سميت بذلك لعلوقها بما يمر عليها «ثم يكون مضغة مثل ذلك» والمضغة: قطعة لحم صغيرة كالشيء الممضوغ قدرًا ورخاءة «ثم يرسل إليه الملك» الملك الموكل بالأرحام وإرساله أمره بالتصرف في النطفة بالنفخ وما بعده «فينفخ فيه الروح» النفخ كناية عن إيصال الروح إلى جسده بأمر الله- تعالى-. وكل ما يتعلق بالروح: من جهة حقيقتها، وكيفية إدخالها الجسم وحقيقة نفخ الملك أمور لا تصل عقولنا إلى إدراك كنهها فيجب علينا الإيمان بما صح فيه النقل عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- دون إتعاب الفكر وضياع الوقت فيما ضرره أكثر من نفعه إن كان فيه نفع كيف وقد قال الله- تبارك وتعالى-: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85). والذي يشير إليه الحديث أن الروح تتصل بالجنين بعد مائة وعشرين يومًا بواسطة نفخ الملك. وانظر إلى حكمة الله عز وجل في تدريج خلق الإنسان، فلو خلقه دفعة واحدة لشق على الأم حمله وربما تلقيه، ولكن بالتدريج تقدر على حمله، فينبغي لنا أن نأخذ من ذلك العبرة فنتأتى في أمورنا ونأخذها بتدرج وترو في تؤدة وتمهل. «ويؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» وردت أحاديث متعددة في بيان ما يؤمر بكتبه، ففي صحيح ابن حبان: «أنها خمس رزقه وأجله وعمله وأثره والمضجع» وفي حديث صحيح: «أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، وما عمره، وما أثره، وما مصائبه» ولا منافاة بينهما فقد أعلمه الله- تعالى- بالزائد فأخبر به بعد. وهذه الكتابة بعد إظهار الله- عز وجل- الملك على ما قضاه أزلًا. والرزق: ما ساقه الله للعبد فانتفع به، والأجل: يطلق على مدى الحياة وهو المراد هنا وعلى منتهى الحياة. وهو المراد بقوله تعالى ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ (الأعراف: 34) وعمله: جميع عمله من خير أو شر، وشقي أم سعيد أي أهو شقي أم سعيد؟ والشقي: هو من مات على الكفر. والسعيد: من مات على الإسلام: «فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة» أي يؤمن بالله ويمتثل المأمورات ويجتنب المنهيات: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» أي يستمر يعمل بطاعة الله التي هي سبب في دخول الجنة إلى قرب أجله، فقوله: إلا ذراع كناية عن زمن قليل قد بقي من عمره فلو مات الآن لدخل الجنة: «فيسبق عليه الكتاب» أي فيغلب المكتوب ما اقتضاه عمله من دخول الجنة: «فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» المعنى: يكون طول حياته مؤمنًا عاملًا بالطاعات إلى أن يبقى من عمره زمن قليل لو مات قبله لدخل الجنة ولكن يغلب ما كتب له من الشقاوة ما اقتضاه عمله من دخول الجنة، فيرتد عن الإسلام والعياذ بالله تعالى فيموت شقيًا فيدخل النار، «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» يقال في هذا مثل: ما قيل فيما قبله وعمل أهل الجنة هو الإيمان وأعمال الخير. فمن سبقت له السعادة صرف الله قلبه عن الإيمان، وفي بعض روايات هذا الحديث: «وإنما الأعمال الخواتيم». وعلى هذا فالواجب على العبد ترك الإعجاب بالعمل وأن يعول على كرم الله ورحمته كما يجب على العاصي ألا يغتر بظاهر الحديث ويتكل على سابق الكتاب لأن ذلك مجهول له، فعليه أن يسارع بالتوبة ويجتهد في العمل الصالح ويتيقظ لذلك فإنه مزلة قدم لمن لا علم له ولا يقين عنده ففي الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نفس منفوسة (أي مخلوقة) إلا وكتب الله مكانها في الجنة والنار فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له». أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ (الليل: 5-7)، فدل الحديث على أن الكتاب سبق بالسعادة والشقاوة وإنهما مقدرتان بحسب الأعمال، وأن كلًا ميسر لما خلق له والعمل سبب. ما يؤخذ من الحديث: 1- إن الأعمال سبب للفوز بالجنة، كما أنها سبب للتردي في النار. 2- إن التوبة تهدم ما قبلها من الذنوب. 3- إن من مات على خير جوزي خيرًا، ومن مات على شر جوزي شرًا، وإن الخاتمة موافقة لسابق القضاء، وإن لا تغيير ولا تبديل فيه. وقد استفيد من هذا الحديث أمورًا غيبية لم نكن نعلمها إلا بطريق التلقي من رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم-، الذي لا ينطق عن الهوى فنسأل الله- تبارك وتعالى- بمنه وكرمه أن يختم لنا بالإيمان ويوفقنا لصالح الأعمال والله عزيز حكيم.
الرابط المختصر :