; من وحي الثورة | مجلة المجتمع

العنوان من وحي الثورة

الكاتب سمير يونس

تاريخ النشر السبت 26-فبراير-2011

مشاهدات 12

نشر في العدد 1941

نشر في الصفحة 40

السبت 26-فبراير-2011

من الوفاء أن أبدأ مقالي هذا بذكر الشهداء الطاهرين، شهداء ثورة مصر البيضاء، وحين أذكرهم يتجاذبني شعوران متناقضان: الأول: شعور أبٍ حزينٍ على هذا الشباب الغض الجميل العظيم، الصغار سنًا، الكبار نُبْلًا، الذين تمزّق القلب حزنًا على فراقهم، هؤلاء الشباب الأبطال الأحرار.. الشهداء الذين قتلهم الإرهاب الحقيقي على أيدي المجرمين الكذابين الذين كثيرًا ما أخافوا المصريين ووهموهم بأن المسلمين الملتزمين الأطهار هم الإرهابيون، وأنهم خطر على البلاد والعباد.

أجل.. شعوري الأول حزن على فراق أبنائي الشهداء.. أما الشعور الثاني المقابل، فيجسده احتسابهم شهداء لهم أجرهم عند ربهم ونورهم.. ترفرف أرواحهم في نعيم الجنة بإذنه سبحانه أسأل الله لهم ذلك  وذكراهم باقية في ميدان الحرية، ومحفورة في قلوبنا ووجداننا، رحم الله  شهداء مصر، وسائر شهداء المسلمين، وخلد الله ذكراهم، ورفع أقدارهم وألحقنا بهم، وقد نلنا هذا الشرف العظيم، نصر من الله، ونعيم في جنانه. ومنهم من ينتظر ما أروع قول ربنا عز وجل: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 23).

فإن كانت فئة من شباب مصر وأهلها الثوار قد قضت نحبها وارتقت إلى جنة ربها  بإذنه سبحانه  فإن كثيرين من أبناء أم الدنيا ينتظرون هذا الشرف، ويقفون مجاهدين مدافعين عن حبيبتهم ومعشوقتهم. أم الدنيا معشوقة الجميع لا عجب أن يعشقك أبناؤك يا أم الدنيا، برغم قسوة قلة منهم على الأغلبية، فقد عشقك كل عربي وكل مسلم وكل من عرفك، فها هو ذا الشاعر الفلسطيني «عبدالوهاب القطب» في قصيدته الرائعة «مصر أم الدنيا »، يتغزل في مصر فيقول:

أتيت إليك صبًا مستهامًا                  فضُمِّي أضلعي ودعي الملاما

فما أحببت مثلك في حياتي              وكم جربت في الماضي غراما

فلا سأمٌ وأنت معي أُلاقي               وكم لاقيتُ في أمس السآما 

وكم من حلوةٍ أبدتْ دلالًا                 فمال القلب عنها ثم لاما

وكم من حُلوة غمزت بعين              فما أوليتُها مني اهتماما

طلعْتِ من النساء بليل عشقي       فكن تمن النساء بدرًا تمامًا

فحُسنك ليس يوصف يا حياتي       وإن أبليتُ في الوصف الكلاما

فأنت حبي بتيم هما ابتعدنا            فلا تتوقعي مني خصاما

وعن تألمه وتوجعه لألم محبوبته مصر، ولبيان أهميتها للعرب ومكانتها، يقول:

فمن أدماكِ أدمانا كأنا                    أمامك جُمَّدٌن لقى السهاما

بدونك نحن أعراب ضياعٌ                 نهيم بلا مجير كاليتامى

شعب عظيم

كم أنت عظيم أيها الشعب، هذا الشعب هو الذي تحوّل من هزيمة يونيو 1967 م إلى نصر أكتوبر 1973م في ست سنوات فقط!! الآن نرى هذا الشعب العظيم يسجلة حدثًا جديدًا عظيمًا، حيث فاجأ نفسه وولاته وقادته والعالم أجمع، واستيقظ بعد أن ظن الناس أنه قد نام، وانتفض في شجاعة عجيبة مدهشة، يصفها الشاعر الفلسطيني مخاطبًا مصر، فيقول:

ظننت بأن شعبكِ نام خوفًا           وها هو قد صحا والخوفُ ناما

فألف تحية أبطال مصر                مَلأتُمْ وجهَ أُمتنا ابتساما

رجفتم كالجبال بكل عزم               وهبَّ الشعب فاقتلع الفسادا

كذلك حال من حكموا بهُزْءٍ           وتلك نهايةٌ ساءت مُقاما

نعم.. انتفض الشعب البطل في يوم واحد، ليخرج من كبته، وينبذ الظلم والفساد، ليزيل آثار الذل والقهر، فوقف

يواجه بصدره الأعزل صلف الظلم والقهر، واجه الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، كما واجه المكر الإعلامي، للمنافقين الإعلاميين، الذين هرِموا ولم يتعظوا، ولم تجد لديهم جديدًا سوى «البِدَل» التي يلبسونها!! في التلفاز والصحف، الذين تطوعوا ليهونوا من شأن الشعب الثائر الشريف، ويصفوه بأقبح الألفاظ وينعتوه بأحطّ الصفات وأحقرها، ودافعوا عن الباطل بكل ما أوتوا من أساليب الكذب، ولا عجب فإنهم مرتزقة، وهم شرار الخلق، لأن الواحد منهم ذو وجهين، وقد حذرنا رسولنا الكريم ﷺ من ذلك في قوله: «شر الناس ذو الوجهين» لقد صمد أبناء مصر في جسارةٍ وجرأةٍ تأخذ بالألباب، وإن تعجب فعجب أن تشاهد أناسيَّ يضعون أنفسهم في جنازير الدبابات ليمنعوها من التقدم نحو ميدان الحرية، فإن أطلقت النار تجدهم يقبلون عليها لا يُدبرون عنها، ويُقدمون على «البلطجية» ويهجمون عليهم برغم أنهم متمرسون على الإجرام، هجموا على المجرمين بكل بسالةٍ، لمنعهم من تفريق الثوار، بل صمد الشعب الأصيل أمام الهجوم الشرس من المجرمين، برغم ارتقاء الشهداء، وسقوط الجرحى، فلم يزده مضرب المجرمين إلا ثباتًا وإقدامًا!!

ولله درُّ الشاعر عبدالرحمن يوسف، حيث يجسد لنا ذلك في قوله:

اضرب فلسنا نخاف السوطَ والوجَعَا         واضرب لأنك تبدو خائفًا فزعًا

الضربُ قشةُ قصم الدهر في بلدي          فاضرب فما كنت في ذي الأمر مبتدعا

واضرب برأسك حيطانًا وأعمدة               واضرب بظلمك أحزابًا ومجتمعا

الضرب بالكفّ سهلٌ إن صبرت له           والضربُ بالحرف دَومًا يُورث الهلعا

فاضرب بكفك طول الليل توأمها            حتى بَدَوْتَ كما فيمن أهله فجعا

الضرب بالصفع في أرضي مخاطرة        كم قد رأينا مرارًا صافعًا صُفعًا

واضرب بليلك أخماسًا لتسكننا              ترى النتيجة صوت الحق مرتفعا

كم مارسَ الضربَ قَوَّادٌ وعاهرةٌ             كلاهما لصنوف العُهْرِ قَدْ رضعا

فاضرب دفوفَك يا مغوار بلدتنا             ونم بنصرك طول الليل مُنْخَدِعًا

لا الضربُ يُجدي ولا الأجنادُ تُرهبنا          كم ضارب قد دفنّا بعدما قمعا!

روح الأسرة الواحدة

وإنك لتلحظُ رقيًا خلقيًا مبهرًا، مئات الآلاف من البشر  أو قل: ملايين أحيانًا  ولا تسمع بحالة تحرش جنسي واحدة، ولا ترى مشاحنات طائفية، بعد أن أظهر الإعلام المأجور  أو الأحمق  هاتين القضيتين بصورة تسيء إلى مصر، تجد هذه الملايين يرفق بعضهم ببعض، ويحفظ بعضهم بعضًا، يؤْثر بعضهم بعضًا، حتى شبههم العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في خطبة الجمعة بميدان التحرير  بالأنصار، لإيثار الواحد منهم غيره على نفسه، وذلك في الطعام والغطاء والشراب والمكان، الكل يتكافل ويتعاون ويتفاهم، يقترب بعضهم من بعض، وهذا التقارب الاجتماعي الأسري جعلهم لا يشعرون ببرد الشتاء، ولا انهمار الأمطار، ولا كيد الكائدين.

الفضاء المعلوماتي الاجتماعي

مَنْ كان يصدق أن ثورة كهذه تنطلق من فضاء معلوماتي، حيث خطط لها من خلال نوافذ الإنترنت، وأهمها الفيسبوك، والمدونات و«التويتر».. وبرغم ذلك، فقد انطلقت من هذا الفضاء المعلوماتي إلى الواقع كالصاروخ، بعد أن حددت التاريخ 25 من يناير 2011م، ىوالمكان ميدان التحرير، ثم سارت على نفس المنهاج في سائر محافظات المحروسة.

لا تنسوا فضل غزة

كل مَنْ تحدثوا عن ثورة مصر أكدوا أنها استفادت من ثورة تونس، لكن أحدًا لم يذكر أن شباب الثورة است ف ادوا من حرب اليهود على غزة، حيث أسهمت التكنولوجيا وخاصة الإنترنت في نقل الصور الحقيقية البشعة التي مارسها اليهود مع أهل غزة، حيث قتلوا مئات الرجال والنساء والأطفال في مذبحة تاريخية وعدوان سافر، فلما نقلت هذه الصور ليراها العالم امتلأ الناس بالسخط على «إسرائيل» وكراهية اليهود، وأسفر هذا الغضب وأثمر، حيث شاهدنا أساطيل الحرية التي زخرت بالمتطوعين من عشرات الجنسيات، الذين اندفعوا إلى مساعدة أهل غزة على كسر الحصار.

سلاح الصورة

يقول المثل الصيني: «رب صورة خير من ألف كتاب»، وحسبنا أن نتذكر  مثلًا  صورة «محمد الدرة» الذي أصابته رصاصات الغدر والقسوة، وأبوه يحتضنه ولا يملك أن يدفع عنه الرصاص، وكذلك كل الصور التي تبثها وسائل الإعلام لإجرام الظالمين، وهذا يجعلنا نقرر فعلًا أننا نعيش عصر «ثقافة الصور» ومن هنا استطاع شباب مصر أن يُسمعوا العالم أصواتهم، لأنهم أتقنوا التواصل عبر شبكة الإنترنت، ثم انضم إليهم الشعب المصري بكل فئاته وتياراته الفكرية والسياسية، لينصهر الجميع في بوتقة واحدة تدعى «المصرية» لذا كان «باراك أوباما» محللًا ثقافيًا بارعًا لهذا الحدث الحضاري العظيم عندما قال: «هناك لحظات نادرة في حياتنا نتمكن فيها من مشاهدة التاريخ أثناء صياغته، وهذه إحدى هذه اللحظات، فالناس في مصر تحدثوا وصوتهم سُمع، ومصر لن تكون أبدًا كما كانت».

ولقد تجلى الانتماء والمواطنة والولاء وعشق الوطن في سلوكيات متعددة، لعل أهمها حرص الناس وتضحياتهم من أجل الحفاظ على مؤسسات بلدهم، كتجسد السلوك الحضاري الوجداني المفعم عندما قام هؤلاء الشباب بتنظيف ميدان التحرير، وقد شارك جميعهم وهم سعداء أيما سعادة، وبذلك استحقوا أن يكونوا معلمي العالم في هذا المضمار.

وصية لشبابنا

يا شباب مصر العظيم، لا ننكر فضلكم، ولا تضحياتكم، ولا ننكر أنكم حققتم ما لم يستطع غيركم أن يحققه، ولكني لاحظت على بعضكم عندما يتكلم كأنه معجب بنفسه، وأنه البطل المغوار الذي لا يشق له غبار، لذا أذكِّر أبنائي وبناتي من الشباب بتواضع رسول الله ﷺ عندما فتح مكة، حيث دخلها يركب دابته وهو مطأطئ الرأس تواضعًا، كما أرجو

أن تنسبوا أي نجاح حققتموه إل ى الله عز وجل، ولا يكن من بينكم من يسير على شاكلة قارون فيقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص: 78).

الرابط المختصر :