; مُصْلِحُ البُيُوُتِ والمجتمعاتِ.. كلٌ شيءٍ يبكيك | مجلة المجتمع

العنوان مُصْلِحُ البُيُوُتِ والمجتمعاتِ.. كلٌ شيءٍ يبكيك

الكاتب أ. د. سمير يونس

تاريخ النشر السبت 11-أغسطس-2007

مشاهدات 16

نشر في العدد 1764

نشر في الصفحة 36

السبت 11-أغسطس-2007

بعد فجر الإثنين السادس عشر من رجب ١٤٢٨هـ الموافق ۳۰/۷/۲۰۰۷م، فاضت الروح إلى بارتها، إنها روح واحد من العلماء الربانيين والدعاة المتميزين، والخطباء المؤثرين.. فضيلة الشيخ الدكتور السيد نوح رحمه الله.

 أساس الصلة تجمعني بفضيلة الشيخ السيد نوح. رحمه الله. عدة صلات صلة مسقط الرأس، فنحن ولدنا في بلد واحد وقرب التخصص، فهو أستاذ في العلوم الشرعية، وتخصصي أنا في طرق تدريس العلوم الشرعية، بالإضافة إلى النسب الذي بيننا؛ حيث يجمعنا نسب وأخوة في الإسلام كما أنني أعتز بأنني واحد من تلاميذه الذين تعلموا من كتبه وأحاديثه.

بداية التعارف

أذكر أن بداية معرفتي بفضيلته رحمه الله. وقعت عندما كنت أتجول في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، ووقعت عيناي على كتابيه آفات على الطريق، وتوجيهات نبوية، وما إن تجولت فيهما بالقراءة الواعية حتى شعرت بأنه ليس مؤلفاً عادياً، ولا مجرد عالم يسرد العلم سردًا، بل تحس بكلماته تحرك فيك القلب والجوارح، وتلحظ أنه مرب حكيم، واع فاهم لرسالته، وماهر في تبليغها متمكن من تحقيق أهدافها، فأقبلت نهما على القراءة له، متمنياً أن أرى هذا الشخص الكريم المؤثر، وقد تحققت أمنيتي عندما جئت دولة الكويت الشقيقة عام ١٩٩٨م، لأعمل بها أستاذاً مساعداً بكلية التربية الأساسية فوجدت الشيخ ملء السمع والبصر لدى الجميع، سواء أكانوا من المواطنين الكويتيين أم من الوافدين على اختلاف جنسياتهم وأجناسهم وأعمارهم وثقافاتهم يسمعه الجميع ويشاهدونه في المساجد وعلى شاشات التلفاز ويسمعونه في إذاعة القرآن الكريم، وفي الفنادق، وفي مناسبات خاصة بالسفارة المصرية، وحملات الحج... والكل يتوق لرؤياه والاستماع إليه على اختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية، حتى إن كثيرًا من الحجيج يسألون عنه في أي حملة حج سيكون، ثم يبادرون بالالتحاق بها رغبة في صحبته وعلمه.

خواطر الوداع

1- في مسجد الوزان:

 ودعناك أستاذنا وبكيناك معلمًا ومربيًا، بل إن كل شيء عرفك بكاك.. في الليلة التي ودعتنا فيها. وأنت ترقد بالمستشفى في غيبوبة. كنت أصلي في مسجدك صلاتي المغرب والعشاء، وبحكم وجودي في المكان، خلت المسجد حزينًا يبكيك، ووجدت قدمي تقودني إلى منبرك الذي طالما ارتقيته مرشدًا ومربيًا ناصحًا وداعيًا لا تخشى في الله لومة لائم، فرأيت منبرك حزينًا لفراقك كأنه يسبح بحمد ربه، ويسترجع ذكرياته معك محتسبك عند الله، وهو يردد قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب: 39).

الدعاة - يا سيدي - كثيرون لكنْ قليلا منهم يقول الحق، وقد وفقك ربك وكنت من هؤلاء القليلين.. والعلماء كثيرون، بيد أن العاملين منهم قليل، وقد كنت عالمًا عاملاً، وقدوة لمن يستمع إليك أو يراك، فقد كان يكفيني أن أنظر في وجهك فأقرأ تاريخاً طويلاً مباركاً من العمل، وعطاءً ممتدًا لدينك وأمتك ومريديك وطلابك، فكنت أراني وإياك عندما أنظر إلى وجهك كواحد من السلف كان يقول: «كنا ننظر في وجه محمد بن واسع فنظل تعمل بها شهرًا» !!

لقد كان يكفي جليسك - سيدي - أن ينظر في هذا الوجه الذي ابتلي صاحبه في صحته.

ومع ذلك كان يتحرك لدعوته، ويؤدي رسالته بهمة عالية، وعزيمة فولاذية.

2-ودابتك تبكيك

مررت بمركبتك التي طالما دبت في الأرض سعيًا لإرضاء ربك وتبليغ رسالة نبيه. وإصلاحاً للأفراد والبيوت والمجتمع، فكأني رأيتها حزينة تشكو فراقك وتئن، كانت دائما تدب في الخير، وهي الآن لا تدري من الذي يخلفها من بعدك، وإلى أين يقودها.

3- وأعين المحبين:

بكتك أعين المحبين. وما أكثرهم. القوي منهم والضعيف الغني منهم والفقير المثقف منهم والعامي.. كنت أنظر في أعينهم فأجد دموع الفراق، ولسان حالهم يقول: هل انتهى عهدنا برؤية الشيخ والاستماع إليه، هل غاض هذا الفيض فكنت أردد في نفسي وأقول لهم: لا. لقد فارقنا جسد الشيخ نعم، لكنه باق بيننا بعلمه، وخلقه، وهمته، وعزيمته وصلاحه، وإخلاصه، وإتقانه، وذريته الصالحة الطيبة، وحبه للناس، وحب الناس له، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا.

نموذج في التسامح: أشهد ذات مرة أن حاوره أحد المسلمين في قضية شرعية، واختلف مع الشيخ واحتد عليه، وبعد صبر طويل من الشيخ ارتفع صوته على هذا المحاور، وفي اليوم التالي قابلت الشيخ، وعلى استحياء وأدب قلت له: أعرف - حسب علمي - أنك على حق، وأنك غيور على هذا الحق، ولقد شهدت حلمك وتسامحك في هذا الموقف، بيد أن لي طلبًا عندك، فقال متواضعاً مبتسماً بتبسمه الرقيق المشرق الحاني اؤمرني قلت له: عفوًا أستاذي الكريم، أرى أنك أنت الأكبر والأوسع علماً وحلماً، وربما شعر محاورك بالقهر برغم خطئه، لكن من باب تطييب النفوس، وجبر الكسور، أرى أن تزوره في بيته وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، وأشهد الله أنه لم يعلق معترضًا، ولم يناقشني، ولم يتلفظ إلا بكلمة حاضر، والليلة بإذن الله، وبالفعل زار محاوره وكان الأثر عظيما.

لقد كنت - سيدي - محبوباً حباً جماً من جموع المصلين، وسائر المسلمين، وعندما كنت ألمس هذا الحب كنت أرى فيك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم متجسداً في حب الناس لك، فقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى: يا جبرائيل، إني أحبُ فلانًا فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» (رواه البخاري ومسلم).

وفي إصلاح البيوت

كم شرفت بمصاحبتك - شيخي الجليل - في الصلح بين زوجين، أو بين متخاصمين، وكم نهلت من حكمتك ومعالجتك للأمور.. وأذكر مرة عندما عجزت عن الإصلاح بين شاب وفتاة عقدا واقترب دخولهما، فقلت أستعين بالله ثم بإخلاص هذا الشيخ وحكمته، فلما جلس قال للفتى في دعابة اسمع، لقد كان الإمام أبو زهرة. رحمه الله. عندما يأتي قريتنا.. يهرول الناس إليه، ليصلح بين الزوجين والمتخاصمين فكان عندما يصلح بين زوجين يقول للرجل أنت القائد، وأنت القيم هذه المرة وفقنا الله وأصلحنا بينكما، فإذا لم تستقم وتمسك عليك زوجك فلن أصلح بينكما في المرة القادمة إلا إذا أكلت التبن مع طاولة البهائم، والتبن طعام البهائم كما نعرف!! وسبحان ربي بعد سنتين من الاختلافات والمناوشات وبعد إنفاق وقت طويل وجهد مرير شاء الله تعالى أن يتحقق الصلح على يد الشيخ - رحمه الله - وقد تزوج الشاب والفتاة، ورزقا الذرية، ويعيشان الآن في سعادة!!

وفي الحج كنت قدوة

سعدت بصحبة الشيخ، وحججت معه منذ أعوام، كانت معي والدتي رحمها الله وزوجتي بارك الله لي فيها، وكان الشيخ هو المرشد الديني للحملة، فرأيت فيه مرشدًا يتميز عن سائر المرشدين، رأيته يحقق القدوة كما ينبغي أن تكون، فهو آخر من يأكل بعد أن يطمئن على جميع الحجيج، ويتأكد من أنهم تناولوا طعامهم، وهو آخر من يرتقي الحافلة عند التنقل من مكان إلى آخر، لأداء المناسك، وهو المواسي لكل فرد إذا ألم به مكروه، وهو الذي ترتاح إليه الأسماع والقلوب والعقول، وهو الذي يهوي إليه العاصي وينصحه.. ويستشيره، والطائع يستعمله ويستزيده.

ولا أنسى آخر يوم ونحن في طريقنا من مكة إلى جدة لنركب الطائرة عائدين إلى دولة الكويت الحبيبة، والشيخ يصر على ألا يغادر مقر الحملة إلا بعد أن يطمئن على أن جميع الحجيج قد ركبوا الحافلات إلى جدة، وقد أسر بروحه هذه القلوب، حتى إن والدتي رحمها الله عادت إلى مصر بعد الحج، فكنت كلما هاتفتها أو رأيتها تسألني عن الشيخ رحمه الله، وتدعو له، وترسل إليه أزكى السلامات وأطيب التحيات.

روح الحب والأخوة

أذكر أنه كلما قابلني كان يسألني عن أهلي وأولادي، ويسميهم واحدًا وحدًا، ويوصيني بهم خيراً. وكثيراً ما كان يوصيني بابني الأوسط عمر؛ لأنه ضعيف البنية فيقول لي اهتم به، ثم لا ينسى أن يوصيني خيرًا بهم جميعًا فردًا فردًا !!

مواساته للمسلمين

كان شيخنا الكريم معطاءً في مشاعره وعواطفه الدفاقة، فلقد مرضت منذ عامين مرضاً أقعدني عشرة أيام على فراش المرض فكان يعودني بشكل شبه يومي، لا يزورني زيارة عابرة عادية من باب تسديد الخانات - كما يقولون - ولكن يجلس ويرقيني، وسبحان الله! كنت أشعر براحة تسري في جسدي تزيل عني ألمي كلما وضع يده النقية المباركة الطاهرة المتوضئة على مكان الألم، وكان في صدارة المبادرين بالمواساة في فقد حبيب أو عند أي ابتلاء؛ حيث يقترب عندما تكون الحاجة، ويلبي في غير طلب.

فارس من ثلاثة أثروا في المجتمع

لقد جمعني عمل تربوي علمي مع أحد الإخوة أساتذة الجامعة الكويتيين في مكتبه الاستشاري، وجاءت سيرة الشيخ فقال لي ثلاثة أثروا تأثيراً إيجابياً قوياً في المجتمع الكويتي الشيخ الدكتور السيد نوح هو أحد هؤلاء الثلاثة.

عطاؤه لليتامى والأرامل

لقد رأيت الشيخ يحمل على سيارته لليتامى والأرامل طعامهم وأغراضهم، ويصر إصرارا. في أحلك ظروفه المرضية، قبل زراعة الكبد وبعدها. على أن يحمل إليهم بنفسه وبرغم مرضه، كانت لديه دربة في حمل الأغراض حتى لو ثقلت.

كأني باليتامى والأرامل والثكالى يبكون لفقدانك، فقد كنت رحيما بهم، في هذه الحياة، حريصاً على توصيل قوتهم وأغراضهم وهم في عزة، مراعيًا نفوسهم، فجزاك الله عن الجميع خير الجزاء.

التواضع الفطري الصافي

من المواقف التي تجسد تواضع الشيخ رحمه الله، وتندر أن تحدث من شخص إلا إذا رزق شفافية عجيبة، أنه ذات مرة بعد أن فرغ من الصلاة، والتف حوله المصلون يسلمون عليه، إذا به يداعب أحد هؤلاء المصلين، وكان هذا الرجل قد ظهر عليه الخجل، فاقترب الشيخ منه وهو يداعبه قائلاً: لماذا تخجل وأنت سيدي وسيد أبي؟! لقد كنت أعمل أنا وأبي عندكم في مزرعتكم وقد كنتم تكرموننا وتطعموننا!! ارفع رأسك فأنت سيدي!!

قد يرى بعض الناس أن في ذلك انكساراً من الشيخ غير مرغوب فيه، لكنّ المربين هم الذين يفقهون هذا الأسلوب التربوي، إن الشيخ - يرحمه الله - يقتفي أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما حدثته نفسه بأنه أمير المؤمنين، فأراد أن يؤدبها، فأمر بجمع المسلمين ليخطب فيهم، فلما خطب قال كلمات معدودات: «أيها الناس إني رجل كنت أعمل عند آل الخطاب بطعامي»، فتعجب عبد الله بن عمر من قول أبيه، وعاتبه قائلاً: «يا أبت ما زدت نفسك إلا تحقيراً فقال له: يا بني، حدثتني نفسي بأنني أمير المؤمنين، فأردت أن أؤدبها!».

لقد فهمت أن الشيخ في مقام يجله الناس ويكبرونه وقد التف الجميع حوله، وهو المربي الطبيب الحاذق بعلاج الآفات، فأراد أن يقي نفسه من آفة التهمت كثيراً من العلماء والدعاة، فأعلنها ليس على هذا الشاب فقط الذي كان يكلمه، ولكن على كل مريد ليقول لهم هذا هو السيد نوح الذي تقدرونه حتى لا يعظمه أحدكم.

رحمك الله يا سيدنا، وطبت حياً وميتاً يا من نلت من اسمك نصيباً أوفر، وجعل أهلك وولدك وطلابك خير خلف لخير سلف أسأل الله تعالى كما جمعنا بك في الدنيا أن يجمعنا بك في الفردوس الأعلى.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

بريد المجتمع (246)

نشر في العدد 246

13

الثلاثاء 22-أبريل-1975

الفقه والمجتمع: 1086

نشر في العدد 1086

14

الثلاثاء 01-فبراير-1994

المجتمع الأسري (1113)

نشر في العدد 1113

16

الثلاثاء 23-أغسطس-1994