العنوان نحو قصة هادفة "انفجار"
الكاتب عبدالحليم خفاجي
تاريخ النشر الثلاثاء 19-سبتمبر-1972
مشاهدات 10
نشر في العدد 118
نشر في الصفحة 22
الثلاثاء 19-سبتمبر-1972
هذه القصة لازمتني كظلي منذ عشر سنوات بعد تخلصي منها أكثر من مرة، كانت تختفي حتى أنساها تمامًا ثم فجأة تخرج علي من بين دفتي كتاب أو من خلال أوراق متروكة وهكذا دأبت على محاورتي.
وفي كل مرة ظهرت فيها كنت أجدني شغوفا إلى إعادة قراءتها إذ أحس فيها بسر الحلم الكبير الذي أراه بعين المستقبل حقيقة واقعة.
وكنت أجدني مشدودًا بخواطري بعيدًا بعيدًا إلى اليوم الذي يئس فيه كاتبها من نشرها فأودعها عندي لأن أجهزة دولة تقدمية جدًا آنذاك رأت فيها مغزى عميقًا ورمزًا خطيرًا كامنًا، أليس أن كاتبها يعيش خلف الأسوار إذن فهو ليس شخصًا عاديًا والكلمة الواحدة منه تفوق في تأثيرها أنهار الكلمات الثورية التي تسبح فيها الصحف كل يوم حتى ولو كانت هذه الكلمة في مجلة محدودة التوزيع تعيش هي الأخرى بين الجدران.
وازدادت دهشتي عندما طلعت على هذه القصة فجأة من بين أوراقي القليلة التي أحضرتها معي الى الكويت وكنت قد نسيتها مرة أخرى لطول عهدي بها ولم أكد المها حتى وجدتني مشدودًا إلى قراءتها مرة أخرى وأنا أكثر إعجابًا بشجاعتها وأكثر اعتقادًا بسر فيها وأكثر حبًا لكاتبها العزيز مصطفى کامل.
ووجدت أن الوفاء له والتقدير لها يلزمني اليوم بنشرها بعد تجديد شبابها ومعالجة ما ألم بها لعلي بذلك أستريح من ملاحقتها لي ولعلي أيضا أنجح في رفع الغشاوة عن الذين كانوا يحسبون النور نارًا فأضاعوا على أمتهم الكثير وقبروا المواهب بذكائهم العجيب»
عبد الحليم خفاجي
انفجار
بقلم الأستاذ عبد الحليم خفاجى المحامي
كان الليل يسعى إلى نهايته والأمطار تنهمر غزيرة على الطريق المرصوف وقطرات الماء تبدو في ظلام الليل كبساط من اللؤلؤ والسكون يلف شارع كنيسة سانت بطرس الجانبي بعيدًا عن ضوضاء المدينة وطرقات تصعد من بعيد من آخر الطريق، طرقات حذاء ثقيل تتردد في سكون الشارع في صدى رتيب، كان الحذاء يأتي من بعيد ويبدو الشبح أنه لرجل يسير في تؤدة مذهولة وقد تدلى سرواله على إحدى قدميه بينما ارتفع الآخر إلى منتصف ساقه، أما سترته فقد تهدلت على كتفيه وغمرت جسده حتى قاربت ركبتيه وقد ارتفعت ياقتها الى أعلى فغطت جزءًا كبيرًا من قفاه، وتعاونت معها قبعة من الخوص غاصت فيها أذناه وقد بدت نظرات عينيه زائفة حالمة، والماء يئن تحت صوت حذائه الثقيل حتى وصل الى بوابة الكنيسة الضخمة فشد الحبل، ودلف إلى الداخل في صمت أخرس وخشوع بالغ، ودخل الهيكل وركع على ركبتيه وضم ذراعيه على صدره وبدأ يتمتم في خشوع «یا إلهي یا رحیم، أمنح سلامًا وأمنح حبًا، أمح البغض وامح الجشع، أعني على عمل شيء فيه رضاك وفيه خلاص لهذه الخراف الضالة، أمين»
وانتهى الرجل من دعائه، وانتصب واقفًا في هدوء وطمأنينة واستدار ليخرج الى الشارع ووصل الى بيته وقد بدأت خيوط النور تتراءى في الأفق فدلف إلى الداخل، ثم خرج يحمل حقيبته وابتاع صحيفة الصباح ليقرأ العنوان الكبير الذي أثار انتباهه، «الحرب الباردة تصل إلى قمتها بين الغرب وبين الشرق، السلام في خطر» وابتسم الرجل وطوى الصحيفة واشتدت خطاه وظل يسير حتى وصل الى المبنى الضخم مبنى الأكاديمية ودخله بعد أن حياة الحارس ثم صعد إلى غرفته وأغلق الباب خلفه وجلس إلى مكتبه وأمسك القلم وبدأ يكتب في أناة ومهل.
سيدي الفاضل
أكتب لكم هذا الخطاب، يا قادة العالم وقد ملأ صدري صراخ وضج قلبي بالضيق والألم من هؤلاء الذئاب الذين ينهشون البشرية البائسة وتتطاحن أطماعهم فتفتت سعادة العالم تحت أقدامها، إن هذا المارد المخيف وهذه الصاعقة التي توشك أن يحتل العالم كله حطامًا وتملأه، بالسلام، سلام العدم وسكون الفناء، هذا هو سلامكم أيها السادة لن ينسى لكم العالم بشاعة ناغازاكي وهيروشيما، لن ينسى لكم البقايا الآدمية وهذه الضحايا المشوهة أذكروا ذلك ولا تنسوه، سوف تأكلون أنفسكم.
أيها القادة، لسوف أعطیکم درسًا، سوف أریح العالم من رعونتكم، سوف أفجر سلاحًا أقوى من ذريتكم أقوى من هيدروجينية كم، أقوى من الصاروخ من كل سلاح في الدنيا تعرفونه مساء الأربعاء، الساعة العاشرة، الانفجار، الساعة العاشرة.
المخلص - البرت جاك - رئيس الأكاديمية وعميد معهد الطاقة الذرية
وتنفس في ارتياح وهو يطوي الخطاب ويضعه في مظروف وبدأ يسجل العنوان، إنه إلى إدارة الأمن وانطلق صاحبنا إلى خارج المبنى و نظراته الزائغة تملأ آفاق الشارع، إنه يفكر في شيء واحد في الهرب من رجال الأمن، من الناس جميعًا، فسوف يعملون المستحيل ليقبضوا عليه.. ولكن، وأکمل خاطره بهزة من رأسه وبسمة استهزاء.
• ومضى في طريقه ينظر إلى الناس إلى هؤلاء الذين يجهلون الغد بل يجهلون كل شيء في الحياة انهم يملأون بطونهم أما عقولهم ففارغة، أما قلوبهم فغارقة في أوحال الزيف والأطماع، تبرز أسنانهم من كثرة الضحك والابتسام وتنطوي أفئدتهم على الحقد والضغينة، وتتلاعب ألسنتهم بالفارغ من القول وتكمن في أعماق نفوسهم خليفة الغدر والخيانة، إنها الحياة العجيبة التي تموج بهذه الوحوش الناطقة.
.وهكذا كان السير ألبرت عالمنا الهارب يخترق المدينة تموج نفسه بمختلف التعليقات وينفطر قلبه إشفاقًا على هذه البشرية البائسة، أو هذه الخراف الضالة كما كان يحلو له القول دائمًا.
وأشرف على فندق قديم فطرقه وفتحت له صاحبة الفندق عجوز طاعنة في السن، لا تكاد ترى ما أمامها وهي تتساءل في لهفة من الطارق؟ ثم أفسحت له طريقًا إلى الداخل، فدخل حيث صعد إلى إحدى الغرف بالطابق الثاني، الفندق العتيق.
• أمضى صاحبنا ليلة في الفندق يردد آيات من جميع الكتب السماوية ثم يقوم يصلي لله ويدعوه أن ينقذ البشرية من ذئابها وأن يهدي هؤلاء القادة إلى طريق الحياة الرطيب.
وفي الصباح حيث بدأ يومه الجديد، وتأهب للخروج سمع نحيبًا يتردد صداه في الفندق ورأى العجوز وقد أمسكت بصحيفة في يديها المرتعشتين وصدرها يعلو ويهبط في عنف، فهرع إليها وأمسك بالصحيفة وبدأ يقرأ وهي تولول، يا فندقي العزيز وطالعه العنوان الصارخ «الموت يهددنا، الانفجار الساعة العاشرة مساء غدًا الأربعاء» وصورته منشورة في أبرز مكان في الصحيفة وكذا رسالته الى إدارة الأمن، وقد ظلل القلق والرعب كل صفحاتها، وابتسم العالم الهارب وانطلق الى الخارج وقد أحسن أن معركته قد بدأت، یا إلهي ماذا حدث؟ هكذا كان يحدث العالم نفسه حينما اندمج متخفيًا في صفوف الناس في هذا الصباح الباكر، لقد أحس أن ماسًا كهربائيًا قد أصاب الناس جميعًا فالكل لا يتحدثون إلا عن الانفجار وعن هذا المجنون الذي يهدد المدينة بأكملها بالموت والفناء وهم بين مصدق ومكذب، أحقا تعني الجريدة ما تقول، أم أنها شيء من ألاعيب الصحافة أو الدعاية لأحد الأفلام، ولكن إلا أن كل شيء يسير في جد عجيب، هذه صورته منتشرة في كل مكان وتوجه الى جمع ملتف حول صورة كبيرة له جمع يذخر بمختلف الأحاسيس والمشاعر ويضج بالتعليقات، لقد رصدوا مكافأة ضخمة لمن يأتي به حيًا، إنها مصيبة، إنها طامة، هذا ما سمعه بأذنيه حينما وصل إلى الجمع، لقد ظلل الجميع قلق وخوف وامتلأت قلوبهم بالحزن على فراق الحياة واضطربت نفوسهم بالغيظ من هذا الرجل الذي يتحداهم ويهددهم ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا إلا أن يهربوا من جنونه، وسمع امرأة تقول: انظروا إلى وجهه ونظراته الزائغة، إنها نظرات قاتل، إنه مجنون يا إلهي، وعلقت امرأة أخرى في صوت مكبوت، حقًا إنه مجرم، وصاحبنا غارق في هذا الزحام لا يحس به أحد، لقد هام الجميع مع هذه المصيبة وتركزت مشاعرهم في هذا الخطب، إنها حياتهم التي يريدون أن يقروا بها، وأحس بيد ثقيلة تنزل على كتفه كالصاعقة وغاص الدم من وجهه وجسده كله - ويحي ما هذا؟ وانتظر ولكن لم يحدث شيء إنها حركة مهزوزة من أحـد الذين أطاح الخبر بأعصابهم، إنها تعليق بسيط على شيء في نفسه.
• وتسلل العالم البرت من وسط الجمع، شيء عجيب حقًا، إن المدينة أشبه ما تكون في يوم حرب، إن الجميع يستعد للرحيل، للهرب، ولاحظ أن الناس يسيرون كل في طريقه لا يلوي على شيء، إنه يهرب بحياته ويبحث عن النجاة، كل يريد أن يستأثر بكل مأوى والكل يريد أن يستغل كل وسيلة وغاضت الابتسامة من على الوجوه ليحل محلها ظل من الخوف والقلق، وظل من الصرامة التي يواجهه بها الموت، لقد أدرك الجميع بأن هناك شيئًا اسمه الخراب وشيئًا اسمه الجنون أهذا ما جلبته الذرة، خراب وتهديد بالموت والفناء، قوة يستغلها فرد واحد ليطيح بأمن هذه البشرية التي تمثلها هذه المدينة كما مثلتها قبل ذلك ناغازاكي وهيروشيما وكما تمثلها كل أمة ضعيفة لا تملك من أمر نفسها شيئًا إلا الضياع والهوان.
وسار العالم ألبرت يقرأ في تصرفات القوم هذه الأفكار الجديدة وهذه المشاعر الطامية التي هبطت عليهم من آثار الخبر العجيب.
ووجد نفسه في ميدان المحطة وقد ماج بالفارين إلى بعيد، إلى الضواحي البعيدة عن الانفجار، عن الموت، والزحام يشتد في كل لحظة والقطارات لا تكاد تفي بهذه الأعداد الغفيرة من الناس، ولكن لا بد أن يكون رحيل ولا بد أن ينجو الناس وإلا فالدمار والانفجار.
• وركب صاحبنا الهارب أحد القطارات، وأخذ يشاهد هذه الألوف وهي ترمي بنفسها في قلب القطار وقد ملأها الإحساس بأنه هو المنقذ وأنه المأوى أنه الحياة نفسها وبلغ القلق والخوف إلى نهايته والضيق والحقد إلى أعظم صوره، والأنانية التي تحرص على ذاتها من الضياع فالكل يريد أن يسبق الجميع ليأخذ مكانا في القطار الصاعد إلى الحياة.
ورنت صفارة القطار وبدأ يتحرك بحمولته إلى الأمام وتحركت معه نفوس الناس جميعا وقلوبهم وقد بدا أنهم يتسللون رويدًا رويدًا من بين براثن الوحش المخيف الذي أطبق عليهم فجأة وبدأت شفاههم تتفرج قليلًا قليلًا وأصابع أيديهم تتراخى بالتدريج وألسنتهم استعدت للانطلاق وبدأ الهمس خفيفًا ثم أخذ يعلو وبدأوا يتكلمون وقد لف الجمع رنة من الأمل وأظلهم معنى الترابط لم يحسوه من قبل.
ترابط الجنس البشري بأكمله برباط من الحب والإخاء وكأنهم لأول مرة يحسون بحياتهم وقربهم من بعض وارتفعت نغمات جديدة تتغنى بالحياة الجميلة ولم لا نعيشها في أمن وسلام لم هذا العذاب والقلق؟ وبدا للعالم أن الناس قد انقلبوا جميعًا إلى فلاسفة وحكماء في واحدة، فهم يتكلمون عن القيم وعن المصير وعن الإخاء والحب وكأنهم جميعا من دعاة السلام، ينعون على العتاة حبهم للدماء ويعلنون حقوقًا للإنسانية جديدة عليهم لم يقرأوها من قبل ولم يعترفوا بها، وانسابت أفئدتهم ببساطة عجيبة تصور الحياة ومعنى الجمال وترنو إلى أمن في رحاب من الإيمان بالخالق العظيم والإخوة الإنسانية فالبعض يستشهد بقول المسيح «طوبى لصانعي السلام.
وراكب آخر له ملامح شرقية يوميء إلى قائل العبارة في ود وحنان ويقسم له أن دينه هو الآخر دين السلام وحب الخير للناس جميعًا وأنه كان ينوي أن يحاضر الناس فيه لولا هذه الطامة ويرجو صاحب العبارة ألا يفارقه برغم شك الزحام وهذا شاب منتفخ الأوداج يأخذ بيد هذا ويحمل الحقائب عن ذاك ويفتح طريقًا لسيدة عجوز وفي نوبة حماس يلقي بشيء كأن يمسك به في يده أنها زجاجة خمر قائلًا: هذه آخر عهدي بالضياع ويعاهد الله لئن أنجاه من هذه الكارثة ليراجع كل شيء في حياته السابقة ثم ينتبه إلى نفسه متعجبًا أو نطق بها لساني أنني لم انطق بها يومًا في حياتي، إنني أحس الآن بمذاقها الصحيح، إنها الشيء الوحيد الباقي واأسفاه على حياة طويلة ضاعت في الجدل والضياع وادعاء العلمانية بكل شيء.
وامرأة عجوز تنظر بخبث إلى هؤلاء جميعًا ونظراتها الحادة وابتسامتها الفاترة تقول أشياء كثيرة: «لولا ما يحيطكم جميعًا من فناء محقق لكان النقاش والجدال وذبح كل فضيلة.. آه منكم يا رجال.. ليتكم تثبتون على هذا أن نجوتم من الموت .
هكذا مضى القطار يحمل الى مستقره أنوارا جديدة يضيء بها الحياة.. ومشاعر طازجة نبعت من نفوس أحست بالفناء فتخلت عن الأهواء والمطامع.. وانبعثت من القلوب إشعاعات من الأمل القوي في مستقبل طيب آمن.
• • ووقف القطار في المحطة التالية، وتسلل العالم ألبرت منه ليعود ثانية إلى المدينة ليحقق بقية الخطة التـي بدأها.
ووصل إلى المدينة وقد بدأ الليل يرخي سدوله فيمعن القلق في نفوس الناس لقد انتهى يوم الثلاثاء أو قارب وما زال العالم الهارب هاربًا وما زالت في خوفها وهلعها وامتلأت الكنائس بالناس يدعون الله أن يرحمهم من هذا الهلاك وألا يسلط عليهم هذا الخطر الذى لا تدرى المدينة كيف تدفعه عن نفسها وأحس الجميع بقوة الخالق وعظمته وتفاهة الإنسان ومهانته، وأحس الجميع أن السعادة في أن يحقق الجميع أوامر الله التي تدعو إلى المحبة والسلام، وهكذا ظل العالم يسير طول الليل يشهد هذه الآثار العجيبة ويتعجب لهذه النفس الإنسانية التي تسمو وتسمو حتى ملكوت السماء وهي هي التي تنحدر وتنحدر إلى أسفل سافلين، ومضى إلى فندقه مع تباشير الصباح ليستعد لاستقبال حافل، إنه الأربعاء، وانغمس في فراشه وراح يغط في نوم عميق.
• ولئن كان العالم ألبرت يغط في نومه فقد كان علماء الذرة في أكاديميتهم يغطون في نقاش مستعر وجدال عنيف، كانوا مجتمعين لبحث هذا الأمر، أمر الانفجار، كان الجو ثقيلًا مليئًا بالكآبة والحزن والغيظ أيضًا، كانوا يحسون بالمسؤولية الضخمة التي تنوء بها كواهلهم، إنهم يتحيرون في مصير هذا العالم المسكين وكيف أن الهوى أو الجنون إذا غلب على احدهم فإنه يستطيع أن يجلب للدنيا تعاسة ما بعدها تعاسة ودمارًا دونه كل دمار وإن الحياة بهذا تبدو تافهة ضائعة، وها قد انتهى يوم الثلاثاء ولم يبق على الموعد الذي قدره العالم المجنون إلا ساعات يسيرة يتحدد بعدها مصـير مدينة كاملة بحضارتها أنهم مسؤولون عن هذا كله ولا بد أن يجدوا حلًا حاسمًا، سريعًا.
وبدأ آرثر كانون يتكلم في حدة وعصبية، كان كل كلامه هجومًا عنيفًا على زميله ألبرت وكيف انه مجنون ولا يستبعد أن يفعل شيئًا خطيرًا كهذا، واشتد النقاش بين زملائه العلماء عندما تقدم العالـم الكبير جيمس مور باقتراح أن تقوم الحكومة بنداء سريع إلى العالم الهارب كي يرجع عن هذه التجربة القاسية وأن يشير بكل ما يراه من اقتراحات سلمية تكون الحكومة أول من يرضخ لها.
أما توم دين جليفر فقد فقد عضد رأى الدكتور ألبرت رئيس الأكاديمية في أن البشرية قد وصلت إلى درك سخيف من العماية والضلال وأنه قد آن للعلماء أن يقفوا بقوة ضد كل طامع وباغ وأن يرفعوا راية العصيان ضد كل ذي طغيان وهوى لكي يفهم الجميع أن القوة يجب أن توضع في يد العلم وليس العكس، وأن على العلماء وحدهم أن يمسحوا على قلب هذه البشرية وأن بنيروا لها آفاق الحياة و مصابيح السعادة وأن يكفروا في الوقت نفسه عن زمن طويل عاشوه في خدمة السلطة الغاشمة.
ولم يطق العالم جولدمان صبرًا على سماع كلمات توم فقاطعه محتجًا على هذا الكلام الغريب، واشتد حنقه حتى رماه بالتواطؤ مع ألبرت والتآمر على تدمير الحضارة الغربية، ولما ظهر الاستياء على وجوه الحاضرين لدى سماعهم كلمة التآمر، ارتفع صوته ازدادت حدة نبرته وهو يقول أنا لا ألقي الاتهام جزافًا يا ساده فأمامك تقرير المخابرات المركزية يؤكد أن توم كان يعلم بالتحول الذي طرأ على أفكار ومعتقدات عالمنا الأول وأنه أسر له بها وأنه في النهاية حمل معتقدات تلميذه الشرقي عبد الله الذي كثيرًا ما حذرتكم من مغبة تسللهم إلى مثل هذه المراكز العلمية، لقد قال تشرشل من قبل أن الدكتور شاخت أفضل وأخطر من عشر فرق من الجيش الألماني وأنا اليوم أقول إن ألبرت وحده هو الجيوش العربية مجتمعة هربت من إيدينا إلى أيدي غيرنا لقد تغير ميزان القوى في لحظة، وهنا نظر أحد العلماء في ساعته وقام صائحًا كفى نقاشًا يا سادة وافلتوا بحياتكم أولًا فعقارب الساعة تجري ولم نفعل شيئًا لأن لإنقاذ أنفسنا وأسرع بمغادرة قاعة الاجتماع وبحركة لا شعورية نظر كل منهم إلى ساعته و أخذوا يتسللون واحدًا وراء الآخر ثم أصابت الخطوات الحمى فصارت سباقًا إلى النجاة وتركوا جولدمان مذهولًا ومرت الساعات والدقائق سريعة لاهثة ومعها يلهث كل شيء في المدينة الضخمة العارمة، وأذن يوم الأربعاء بالمغيب وذهبت آخر خيوط الشمس الجميلة عن المدينة الجميلة وقد خلت المدينة إلا من فئة قليلة من رجال الأمن وعلماء الذرة وخبرائها، وحمل الظلام إلى النفوس شيئًا غير قليل من الهلع والفزع وأحس الجميع أنهم في طريقهم إلى الهاوية، لإلى ظلام الفناء واستداروا يتفكرون في مصير جديد لو أنهم أقاموا في أماكنهم هذه.. ماذا يكون؟ وإلی أین يذهبون؟
وامتد هذا الشعور الرهيب فرسم على الوجوه صورًا من الحزن والأسى أدت إليهـا شراهة القلوب القاسية التي أبت إلا أن تستغل أشياء خلقها الله لسعادة خلقه فقلبوها نقمة وشظايا تحرق ما تبقى للناس من أمن وسلام.
كانت هذه المشاعر تموج في نفوس الباقين في المدينة يبحثون ويجدون في البحث كالمجانين في كل مكان عن هذا الخطر وعن هذا الهارب الذي أثار الرعب والقلق.
• وها هي الساعة تدق التاسعة والنصف مساء
والعلماء في أماكنهم قد ضاقت نفوسهم وتحطمت أعصابهم بعد أن جمعهم رجال الأمن مرة أخرى وعقارب الساعة تمر سريعة ودقات قلوبهم تهتز مع اهتزاز البندول.
وتتحرك مع عقاربها ويحس الجميع أنهم مقبلون على الهاوية التي لا يعرفون كيف ستأتي.. ومتى؟ وها هي هوة الموت تدعوهم في إلحاح رهيب، وكرة الزمان تتدحرج على منزلق الكون لتصل إلى هذه الساعة المشؤومة غير عابئة بشيء، إنها أقدار تسير والفناء سنة الحياة والموت مأوى كل حي ودقت العاشرة إلا ربع ولم يستطع بعض العلماء أن يتحمل وأصروا على الفرار من المدينة نفسها وابتدأ ركب العلماء ورجال الأمن يسير مهرولًا خارجًا من مدينة الرعب إلى القطار حيث يصبحون فيه فلاسفة وحكماء وبسطاء مثل من سبقوهم
• ولكن ماذا؟
إن جهاز اللاسلكي يتلقى إشارات واستدار الجميع إليه ورنين آخر من مكان آخر انه التليفون يدق في اللحظة نفسها.. ألو.. ألو سيدى لقد وجدناه هنا.. هنا في الكنيسة.. كنيسة سانت بطرس في الهيكل أسرعوا بربكم..
وانطلق الركب كله إلى هناك.. إلى الكنيسة القديمة.. وهناك نزل العلماء يجرون أنفاسهم ولكن الصمت الذي خيم على الجو والخشوع الذي يملأ الأرجاء أبطأ من الحركة وران الصمت على الجميع وهم يتقدمون رويدًا رويدًا، إنه هناك، رجل يجثوا على ركبتيه ويداه مرفوعتان الى السماء، إنه العالم الهارب يدعو في جلال وخضوع: «لا يا إلهي أنت السلام فامنحنا السلام، امنحنا الحب، اهد خرافك الضالة لقد أديت أمانة العلم، وفجرت فيهم ينابيع الخير.. ينابيع الحب والجمال»
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل