; نقد النقد معاطاة تقويمية مطلوبة | مجلة المجتمع

العنوان نقد النقد معاطاة تقويمية مطلوبة

الكاتب خضير جعفر

تاريخ النشر الثلاثاء 15-سبتمبر-1998

مشاهدات 20

نشر في العدد 1317

نشر في الصفحة 66

الثلاثاء 15-سبتمبر-1998

بقدر ما يشكل النقد ظاهرة صحية تتعامل بها الأمم الطامحة إلى التسامي، ويؤمن بجدواها الأفراد الساعون نحو التكامل، فإنها في ذات الوقت قد تتحول إلى ممارسة سلبية هدامة حينما يتبادلها من لا يجيد تعاملها، ولا يقدر أهدافها، ولا يمتلك دبلوماسية الحوار النقدي البناء فيصوغه بعنف، ويسوقه بعسف ويسلب عنه أردية الشفافية واللطف.

إذ للنقد حدود وقيود، وله آداب وأسباب وقد أضفى الإسلام على النقد ألوانًا قيمية رائعة، وألبسه اثواب التهادي والتحابب الموجبة للرحمة «رحم الله من أهدى إلي عيوبي»، بينما ورد الذم النبوي لمن يمتهنون كيل المديح والثناء على الآخرين في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «احثوا التراب بوجوه المداحين» وبين استمطار شآبيب الرحمة الإلهية للناقد المثاب ورجم المداحين بقذائف التراب بعد المشرقين، حيث يستحق خيرها الأول أنه يأخذ بيد أخيه نحو الكمال، فيما يرفض الإسلام الثاني المدمر، لأن المداح يوقع بممدوحه نحو الهاوية من خلال خداعه دون التذكير بماينبغي له أن يلتفت إليه في دروب تكامله التي لا تعدم الأخطاء والسلبيات والأهواء التي التصقت بطبيعة البشر، وطبائع الآدميين.

وإذا كان النقد تشخيصًا واعيًا لعناصر القوة والضعف لما تقع عليه العين، فإن الفهم الخاطئ والانتقائي لمفهوم النقد وموضوعه كرس النظرة السلبية المستمرة باتجاه البحث عن العيوب والتقاط الأخطاء ووضعها تحت المجهر لتضخيمها والتشهير بها وبمن يبتلى بها، وقد تظاهر سوء الفهم هذا مع مزاج متطرف حاد وأحادي الفكرة والنظرة مع محدودية في الثقافة لدى كل من الناقد والمنتقد والمجتمع، لتخلق في ظلالها أجواء مكفهرة ومعقدة صيرت من النقد لعنة، ومن حدته سياط انتقام تلهب ظهور الضحايا، فلا تترك في أجسادهم مساحة لرؤية واقعها ولونها الحقيقي الذي أسود فيما يعد مكتوبًا بنار العسف الفاقدة لروعة اللطف التي يفترض أن يتحلى بها الناقد الموضوعي والناقد الإسلامي على وجه التحديد، وأخطر ما في النقد لدينا قولبته بأطر أيديولوجية أبحنا لأنفسنا فيها النقد من زوايا الذات المتلفعة بثوب الشريعة تحت ذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أن فتوى التفسيق التي تخرج الآخر من حظيرة الإيمان لا تحتاج إلى أكثر من جملة «لا غيبة للفاسقين»، وتلك تكفي -وبلا حرج شرعي- لأن تهدم أكبر شخصية، وتغتال أروع سمعة، لمن تقتضي مصالحنا وأمزجتنا هدم كيانه، وتبضيع شخصيته، ووضعه على طاولة التشريح، مستحلين أكل لحمه ميتًا، وتتعاظم خطورة النقد القاتل حينما يصدر ممن ظاهرهم الصلاح، ولذلك يتلقاها المتلقي منا كالمسلمات التي لا تقبل النقاش والجدل.

والأخطر من هذا وذاك أن تنفجر أشعة النقد في سواقي نسغ نازل التسرب من خلالها أسلحة الاغتيال في جسد الأمة، وكأنها سموم مذابة في شراب التقوى اللذيذ دون أدنى مراجعة لمتن النقد وأسانيده، ولا نشك قيد أنملة في أننا بذلك ندمر أمة، ونخسر ساحة نحن مسؤولون عن سلامة من فيها، ثم نمثل بعدها بين يدي عدالة السماء مذهولين لا نحار جواباً لحرمات انتهكت وكرامات ديست بغير حق، عندها يتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا.

إن قدرًا من الشجاعة ومقدارًا من التقوى، وقليلًا من المرونة والمروءة، ومسحة من الواقعية من شأنها أن تحدد مسارات النقد إلى أفضل وجهة يشعر معها الناقد بسلامة نقده، ويتلمس المنتقد في أجوائها أريحية ناقديه، حينما تقودنا شجاعتنا إلى مصارحة من لها في أعناقنا حق التسديد وتحدد لنا التقوى ما هو لله خالص، وما هو بأهوائنا مشوب فنرسم على ضوئها حدود ما يجوز وما لا يجوز من النقد، وبحسبي أنه بين ما يجوز وما لا يجوز خط أحمر شفيف لا ينبغي تجاوزه أو الاقتراب منه، لأن «من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه» وعندما ستدب الكلمة الحانية المؤطرة بخلق الرسالة، وأدب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتهمس في الأذن، وترسخ في الذهن، ومعها مقدمات الحب الصادق وتمهيد الأخ الحبيب الصديق، وهي تداعب شغاف القلب بخلوص النية وسلامة الأهداف والطوية فتطول الواقع بلمسة حانية لتفتح عين المخاطر بهدوء نحو الخطأ، وتشخص العلاج عندها تنفتح مغاليق أسرار النفس على واحة الرضا والاستجابة والقبول.

إن الذين ننتقدهم اليوم من الإسلاميين ليسوا لنا بأعداء وفق بعض المعايير، وإنما جمع بيننا وبينهم في دين الله الإخاء، فهم إما أصدقاء أو شركاء، أو زملاء، ولذلك فنحن مدعوون إلى وقفة مع الذات نراجع معها الحسابات، نعنفها إن تجاوزت، ونجلدها إن أساءت، ونوقفها على حدها إذا ما أصرت على التمرد أو شاءت عندها ومن منطلق النقد الذاتي -أو قل الجلد الذاتي- سنرى أين نحن من حافة الهاوية سائرون؟ وكم هي من المرات التي اكتشفنا فيها أخطاءنا وأوهامنا حينما حاكمنا أناسًا غيابيًا، وأصدرنا عليهم احكامًا بالإعدام نشهيرا أو تسقيطًا؟ وعلى فرض أننا استغفرنا مما جنيناه ألف مرة، فهل يكفي ذلك بعد أن أشعنا تسقيطنا بل إسقاطاتنا بحق الآخرين، فانتشرت كل وادِ؟ وهل نحن قادرون على تلافي ما أخطأنا فيه لنجوب حول العالم نادمين مصححين تلك الأخطاء التي القيناها في الأذهان والآذان بـحق من اختلفوا معنا أو اختلفنا معهم؟ وهل الاستغفار وحده كاف لتضمد جراح من انهالت على أجسامهم وأرواحهم وسمعتهم سهام نقد السامة القاتلة؟

إن الميراث الثقافي، والتراث الحضاري الذي بين أيدينا مملوء بالتوصيات والتجسيدات التي تنتصب أمام العين دائمًا مبادئ، ومعه تشهد أن الآخر ليس باطلًا محضًا، وأن الآخرين ليسوا شراً مطلقا وأن في كل نفس جوانب إيجابية خيرة لن تزول، ومازالت تشكل  مكونات من نأى عنا، أو نأونا، لأن الفطرة الإنسانية لا يمكن أن تختفي كل معالمها السوية حتى في أدنى مستويات البشر وأقلهم من الإنسان حظًا، وإن وميض خير تحت رماد الشر يكمن في كل نفس، ولذلك تصغير الآخرين أو تصغيرهم يشكل عدواناً على الفطرة الإنسانية وجهلًا بعالمها الرحب الوسيع، وتحديًا لبارئها العظيم مبدع الكون.

وكم هو رائع أن يثني الإمام علي على قاتليه (الخوارج) بالقول «ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه»، ترى أين نحن من علي حينما يتحلى بأروع قيم النقد فلا ينسف حسنات قاتليه؟

  الأجدر بنا إذن أن ننتقد نقدنا، وأن نحاسب أنفسنا، ونقف ولو برهة واحدة خارج جنان النرجسية وجنونها لنرى الذات والحياة والطبيعة، كما هي بلا رتوش أو جيوش ولا أهواء أو أدواء.

وكم هو رائع أن نعيد النقد إلى نصابه، فنتعامل به قيمة أخوية بناءة نمارسه بدأب، ونتهاداه بأدب، وأن نبدأ بنقد الذات قبل أن نقومبتصويب سهامنا للآخرين أفرادًا وجماعات.

(1) أستاذ أكاديمي ، جامعة طهران.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

نشر في العدد 1989

11

الجمعة 17-فبراير-2012