العنوان نموذج من مواقف العلماء
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 21-مارس-1978
مشاهدات 14
نشر في العدد 391
نشر في الصفحة 18
الثلاثاء 21-مارس-1978
رسالة من الشيخ اليوسي إلى السلطان إسماعيل العلوى بالمغرب في مستهل القرن الثاني عشر الهجرى..
«.. إن الأرض وما فيها ملك لله تعالى لا شريك له، والناس عبيد لله سبحانه وإماء له، وسيدنا واحد من العبيد، وقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانًا، فإن قام عليهم بالعدل والرحمة والإنصاف والإصلاح؛ فهو خليفة الله في أرضه، وظل الله على عبيده، وله الدرجة العالية عند الله تعالى، وإن قام بالجور والعنف والكبرياء والطغيان والإفساد؛ فهو متجاسر على مولاه في مملكته، ومتسلط ومتكبر في الأرض بغير الحق، ومتعرض لعقوبة مولاه الشديدة وسخطه، ولا يخفى على سيدنا حال من تسلط على رعيته يروم تملكهم بغير إذنه كيف يفعل به.
يوم يتمكن منه، ثم نقول: إن على السلطان حقوقًا كثيرة لا تفي بها البطاقة، ولنقتصر منها على ثلاثة هي أمهاتها، الأول: جمع المال من حقٍ وتفريقه في حق. الثاني: إقامة الجهاد لإعلاء كلمة الله، وفي معناه تعمير الثغور بما تحتاج إليه من عدد وعدة. الثالث: الانتصاف من الظالم للمظلوم. وفي معناه كف اليد المادية عليهم منهم ومن غيرهم، وهذه الثلاثة كلها قد اختلت في دولة سيدنا؛ فوجب علينا تنبيهه لئلا يعتذر بعدم الاطلاع والغفلة، فإن تنبه وفعل فقد فاز، وذلك صلاح الوقت، وصلاح أهله، وسبوغ النعمة، وشمول الرحمة، وإلا فقد أدينا الذي علينا.
أما الأمر الأول: فليعلم سيدنا أن المال الذي يجبى من الرعية قد أعد للمصالح التي ينتظم بها الدين وتصلح الدنيا من أهل البيت والعلماء والقضاة والأئمة والمجاهدين والأجناد والمساجد والقناطر وغير ذلك من المصالح، ومثال هؤلاء كأيتام لهم ديون قد عجزوا عن قبضها إلا بوكيل، ومثال الرعية مثل المديان والسلطان هو الوكيل، فإن استوفى الوكيل الدين بلا زيادة ولا نقصان، وأداه إلى اليتامى بحسب ما يجب لكل؛ فقد بريء من اللوم ولم تبق عليه تباعة للمديان ولا لليتيم، وحصل له أجران: أجر القبض وأجر الدفع، وإن هو زاد على الدين الواجب بغير رضى المديان فهو ظالم له، أو نقص اليتيم من حقه الواجب له فهو ظالم له، وكذا إن استوفى الديون وأمسكها ولم يدفعها لأربابها فهو ظالم، فلينظر سيدنا فإن جباة مملكته قد جروا ذيول الظلم على الرعية؛ فأكلوا اللحم، وشربوا الدم، وامتشوا العظم، وامتصوا المخ، ولم يتركوا للناس دينًا ولا دنيا، أما الدنيا فقد أخذوها، وأما الدين فقد فتنوهم عنه، وهذا شيء عهدناه لا شيء ظنناه، ثم إن أرباب الحقوق قد ضاعوا ولم تصل إليهم حقوقهم؛ فعلى السلطان أن يتفقد الجباة ويكف أيديهم عن الظلم، ولا يغتر بكل من يزين له الوقت؛ فإن كثيرًا من الدائرين به طلاب الدنيا لا يتقون الله تعالى، ولا يتحفظون من المداهنة والنفاق والكذب. وفي أفضل منهم قال جده أمير المؤمنين، مولانا على بن أبي طالب كرم الله وجهه: «المغرور من غررتموه أ . هـ» .وأن يتفقد المصالح ويبسط يد الفضل على خواص الناس من أهل الفضل والدين والخير ليكسب محبتهم وثناءهم ونصرهم كما قيل:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ولا يهملهم؛ فيتمنوا غيره ويتطلبوا دولة أخرى كما قيل:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء
نصيب ولا حظ؛ تمنى زوالها
وما ذاك من بغض لها غير إنه
يريد سواها، فهو يهوى انتقالها
وليعلم سيدنا أن السلطان إذا أخذ أموال العامة ونثرها في الخاصة وشيد بها المصالح؛ فالعامة يذعنون، ويعلمون أنه سلطان وتطيب قلوبهم بما يرون من إنفاق أموالهم في مصالحهم وإلا فالعكس، وأيضًا السلطان متعرض للسهام الراشقة من دعوة المظلومين من الرعية، فإذا أحسن إلى الخاصة دعوا له بالخـير والسلامة والبقاء، فيقابل دعاء بدعاء والله الموفق.
وأما الأمر الثاني: فقد ضاع أيضًا، وذلك إنه لم يتأت في الوقت إلا عمارة الثغور، وسيدنا قد غفل عنها فقد ضعفت اليوم غاية، وقد حضرت بمدينة تطاوين أيام مولانا الرشيد رحمه الله، فكانوا إذا سمعوا الصريخ تهتز الأرض خيلًا ورماة، وقد بلغني اليوم أنهم سمعوا صريخًا من جانب البحر ذات يوم فخرجوا يسعون على أرجلهم بأيديهم العصى والمقاليع وهذا وهن في الدين، وغرر على المسلمين، وإنما جاءهم الضعف من المغارم الثقيلة، وتكليفهم الحركات وإعطاء العدة كسائر الناس، فعلى سيدنا أن يتفقد السواحل كلها من قلعية إلى ماسة، ويحرضهم على الجهاد والحراسة، بعد أن يحسن إليهم ويعفيهم مما يكلف به غيرهم، ويترك لهم خيلهم وعدتهم ويزيدهم ما يحتاجون إليه، فهم حماة بيضة الإسلام، ويتحرى فيمن يوليه تلك النواحي أن يكون أشد الناس رغبة في الجهاد، ونجدة في المضايق وغيرة على الإسلام، ولا يولي فيها من همته ملء بطنه والاتكاء على أريكته والله الموفق.
وأما الأمر الثالث: فقد اختل أيضًا لأن المشتغلين بالإنصاف بين الناس في البلدان، وهم العمال وخدامهم، هم المشتغلون بظلم الناس، فكيف يزيل الظلم من يفعله؟ ومن ذهب يشتكي سبقوه إلى الباب فزادوا عليه؛ فلا يقدر أحد أن يشتكي، فليتق الله سيدنا، وليتق دعوة المظلوم؛ فليس بينها وبين الله حجاب، وليجهد في العدل فإنه قوام الملك وصلاح الدين والدنيا، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ ﴾. (النحل: 90). وقال تعالى:- ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾. (الحج: 40)، ثم ذكر تعالى المنصورين وشروط النصر فقال:﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ ﴾. (الحج:41).
فضمن تعالى للملوك النصر، وشرط عليهم هذه الأمور الأربعة، فمتى اختل عليهم أمر الرعية وتسلط عليهم من يفسد عليهم الدولة؛ فليعلموا أن ذلك من إخلالهم بهذه الأمور، فكان عليهم الرجوع إلى الله تعالى، وتفقد ما أمرهم به، ورعاية ما استرعاهم إياه، وقد اتفقت حكماء العرب والعجم على أن الجور لا يثبت معه الملك ولا يستقيم، وأن العدل يستقيم معه الملك ولو مع الكفر، وقد عاش الملوك من الكفرة المئات من السنين في الملك المنتظم، والكلمة المسموعة، والراحة من كل منغص؛ لما كانوا عليه من العدل في الرعية، استصلاحًا لدنياهم فكيف بمن يرجو صلاح الدنيا والدين؟ قال بعض الحكماء: «الملك بناء والجند أساسه، وإذا ضعف الأساس سقط البناء؛ فلا سلطان إلا بجند، ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية، ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل؛ فالعدل أساس الجميع»، وقد صنع أرسطو طاليس الحكيم للملك الإسكندر الشكل المسند عنه وكتب عليه: «العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تعضده السنة، السنة سياسة يتسوسها الملك، الملك راع يعضده الجيش، الجيش أعوان يكلفهم المال، المال رزق يجمعه الرعية، الرعية عبيد يقودهم العدل، العدل مألوف وبه صلاح العالم، العالم بستان... إلى آخره».
وقال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة»، وقال صلى الله عليـه وسلم: «ما من وال يلى ولاية إلا جاء يوم القيامة ويداه مغلولتان، فإما عدل يفكه وإما جور يوبقه». وعن مولانا على إبن أبي طالب رضى الله عنه قال: «رأيت عمر على قتب يعدو به بعيره بالإبطح، فقلت يا أمير المؤمنين أین تسير؟ فقال: «بعير من إبل الصدقة شرد أطلبه، فقلت: «أذللت الخلفاء من بعدك»، فقال: «لا تلمني، فوالذي بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق لو أن عناقًا ضلـت بشاطىء الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة، أنه لا حرمة لوال ضيع المسلمين ولا لفاسق روع المؤمنين»، وقد رأی رضی الله عنه شيخًا يهوديًا يسأل على الأبواب فقال: «ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابًا ثم ضيعناك اليوم»، وأمر أن يجرى عليه قوته من بيت المال.
وليعلم سيدنا أن أول العدل أن يعدل في نفسه؛ فلا يأخذ لنفسه من المال إلا بحق، وليسأل العلماء عما يأخـذ وما يعطي، وما يأتي وما يذر، وقد كان بنو إسرائيل يكون فيهم الأمير على يد نبي، فالنبي يأمر والأمير ينفذ لا غير، ولما كانت هذه الأمة المرحومة انقطعت منها النبوة بنبيها خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق إلا العلماء يقتدى بهم، قال صلى الله عليه وسلم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، فكان حقًا على هذه الأمة أن يتبعوا العلماء، ويتصرفوا على أيديهم أخذًا وعطاء، وقد توفي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضى الله عنه، وكان قبل ذلك يبيع ويشتري في السوق على عياله، فلما بويع أخذ ماله الذي للتجارة وذهب للسوق على عادته حتى رده علماء الصحابة، وقالوا: «إنك في شغل بأمر الخلافة عن السوق» وفرضوا له ما يكفيه مع عياله، وجعلوا المال على يد أمين فكان هو وغيره فيه سواء يأخذ منه بما اقتضته الشريعة لنفسه ولغيره، وهكذا سيرة الخلفاء الراشدين من بعده، فعلى سيدنا أن يقتدي بهؤلاء الفضلاء ولا يقتدي بأهل الأهواء، وليسأل من معه من الفقهاء الثقات كسيدي محمد بن الحسن، وسيدي أحمد بن سعيد، وغيرهما من العلماء العاملين الذين يتقون الله ولا يخافون في الله لومة لائم، فما أمروه به مما ذكرناه ومما لم نذكره فعله، وما نهوه عنه انتهى، هذه طريقة النجاة إن شاء الله تعالى...».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل