; همَّة غلبتْ فتنة | مجلة المجتمع

العنوان همَّة غلبتْ فتنة

الكاتب د. يوسف السند

تاريخ النشر الثلاثاء 01-نوفمبر-2016

مشاهدات 754

نشر في العدد 2101

نشر في الصفحة 61

الثلاثاء 01-نوفمبر-2016

همَّة غلبتْ فتنة

بقلم: د. يوسف السند

ورد في الحديث الصحيح عند الإمام مسلم يرحمه الله، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله [ يقول: «تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْباداً، كالكوز مُجَخيّاً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه»، يا له من قلب استعلى على الفتن حتى أصبح أبيض مثل الصفا!

إنها همّةٌ عظيمة تصاغرت عندها فتنة، فصاحبها يدعو الله دائماً أن يهديه ويسدده ويستعطف مولاه في سجوده: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي.

يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

وغيرها من الدعوات والأذكار والمأثورات طالما تدارسها مع إخوانه في كتب الأذكار والمأثورات فكانت روضاً صالحاً يشم عبيره ويحيا بعطره وأريجه ووابلاً صيباً وكلِماً طيباً هداه الله به للحق وإلى الصراط المستقيم والرأي الصواب السديد.

وصاحب الهمة عرف دينه وشريعته وأدرك سمو دعوته كما قال الشهيد القاضي عبدالقادر عودة يرحمه الله تعالى: إنها دعوة الله وليست دعوة أشخاص، وإن الله علّم المسلمين أن الدعوة ترتبط به ولا ترتبط بالدعاة إليها، وإن حظ الأشخاص منها أن من عمل لها أكرمه بعمله، ومن ترك العمل لها فقد أبعد الخير عن نفسه، وما يضر الدعوة شيئاً.

وصدق والله.. إنها دعوة الله.

وحسبها من دعوة أن تكون من الله، ولله، وفي سبيل الله.

ومتى ما فَهِم الدعاة هذه الحقيقة عَلَوْا وارتقوْا يوماً بعد يوم مهما طال الطريق وبلغت التبعات، كما قال الشهيد سيد قطب يرحمه الله في معالمه متحدثاً عن الدعاة: إنّ عليهم أن يؤدوا واجبهم، ثم يذهبوا.. وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة، وأن يصدقوا الله في العمل والنية، ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء.

إنهم أجراء عند الله أينما وحيثما وكيفما أرادهم الله أن يعملوا، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم.

بهذا الفهم لطبيعة الدعوة والدعاة حمى ذَوُو الهمم العالية فكرهم وعقيدتهم ووقتهم من فراغ الفتنة.

فكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته، كما ينسف السيلُ الدمن.

وبالهم الدعوي والهمة العالية يعرف الهمامون الفتنة كما قال الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.

وصاحب الهمة لا يعرف اليأس ولا يعترف بالصعاب حتى ينزوي ويعتزل ويختفي ثم يذوب وتلاشى ويزول..! وهذا ما يريده شياطين الجن والإنس من أعداء الإسلام وكارهي الدعوة، فها هو ذا عبدالوهاب عزام يرحمه الله لا يجعلك طريد الهم شريد اليأس حتى يجمع همتك في شوارده فيقول: إن الدأب يكفل بلوغ الغاية وإن بعُدتْ، وبَطُؤ السيرُ إليها وكثرت العقبات في سبيلها وصدق رسول الله [: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».

وإن النجاح يفضي إلى النجاح، والظفر يؤدي نحو الظفر، وإن اقتحام العقبات الأولى يذلل ما بعدها، وإن أكبر عقبة هي الإحجام، وإن الأمر الصعب يسهله الأمل والعمل، وإن أصعب الصعاب اليأس، وأكأد العِقاب التردد في الأمر والتمريض فيه.

وليس من اليأس محاسبة النفس ومراجعتها، وهذا على مستوى الفرد، وكذلك الأمر على مستوى الجماعة أو المؤسسة، فالوقوف للمراجعة والتروي والتثبت، فأصحاب الهمم هُم في إحجام تارة وفي إقدام، وقد يريدون بالمكث ما يريده غيرهم  بالحث، وقد أشار إلى ذلك عبدالوهاب عزام يرحمه الله تعالى: فإن كانوا كذلك فدعوة الإقدام منهم جديرة بالإجابة، ودعوة الإحجام حَريَّة أن تُجاب.

لا يضير أمة تعمل على علم وهدىً وإخلاص أن تقف حيناً للتروي والتثبت، بل يضيرها ألا تقف هذا الحين.

وكثير من الأمم لا تملك أن تقف لتنظر فتوقن، وعيب الأمة في إقدامها على غير بينة كعيبها في إحجامها وقد تبين لها الإقدام.

ومردُّ هذا الأمر إلى أن تكون الأمة رشيدة مريدة تقف بمشيئتها وتسير بمشيئتها، لا مُسيَّرة بعصا السادة، أو بهوىً قاهر أو بشهوة ثائرة، أو جهل بما أمامها، ولا واقفة ضعفاً أو عجزاً أو جهلاً أو تبلداً.

فلا تُحزنك الدعوة إلى الوقوف والإحجام والتلبث، ولا يُسخطنك الوقوف والأمة رشيدة والدعاة عاملون مخلصون.

فإن أمة تقف بإرادتها حَريَّة أن تسير بإرادتها.

وصاحب الهمة العالية يلوم نفسه دائماً ويغيرها ويوجهها نحو سمو ومعالٍ يطمح إليها ولا يقضي ساعاته لائماً تغير الأيام.

يقول الشاعر محمد العوني:

تقولون: الأيام فينا تغيرت؟

تغيرتم أنتم ما تغير مرورها

الأيام هي الأيام في حد عدّها

هذي لياليها وهذي شهورها

بل يتفاءل إذا رأى براعم الإيمان من صغار ونشء، ويمتلئ قلبه فرحاً وسروراً وهو يسمع صحبة وفتية وشبيبة ينشدون ويحدون بالإسلام والإيمان وتوحيد الرحمن، ويرى رجالاً ثابتين كالجبال في دعوة مباركة طيبة ولا يبالي بأطواد الباطل.. وقد صور هذه المعاني إقبال شاعر الإسلام:

وأرى الحبة تحت الترب من قبل نباتِ

ذاتَ أصلٍ وفروع وثمارٍ يانعاتِ

وأرى الأطوادَ ريشاً في رياحٍ قلقاتِ

وأرى الريشَ ثباتاً كجبالٍ راسخاتِ

وسلامٌ على ذوي الهمم في الأولين والآخرين، والحمد لله رب العالمين.>

المصادر

1- سيد قطب، معالم في الطريق.

2- عبدالوهاب عزام، الشوارد.

3- محمد أحمد الراشد، العوائق.

الرابط المختصر :