العنوان هواة تقوية القلوب.. الهواة في الميدان حلقة (11)
الكاتب د.عبدالحميد البلالي
تاريخ النشر الثلاثاء 20-أكتوبر-1981
مشاهدات 20
نشر في العدد 547
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 20-أكتوبر-1981
1 - المجادلة تعظ عمر
خرج عمر بن الخطاب من المسجد ومعه الجارود العبدي[1] فإذا امرأة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر فردت السلام أو سلمت عليه فرد عليها السلام، فقالت: هيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرًا في سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام، حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله في الرعية، وأعلم أنه من خاف الموت، خشى الفوت فبكى عمر، وقال الجارود، هيه فقد أجترأت على أمير المؤمنين وأبكيته، فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سمائه، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها. [2]
وكانت المجادلة تريد بذلك، القضاء على خطرات قد تراود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عند استلامه للخلافة تدعوه للعجب بنفسه ولو للحظات «بأنه الخليفة» وأرادت أن تجعل قلبه قويا نظيفا حتى من هذه الخطرات، ليقوى على إدارة دفة البلاد على ما أراد الله سبحانه وتعالى.
۲ - يعصمك من يزيد ولن يعصمك يزيد منه.
وفي لحظة ضعف مر بها عمر بن هبيرة والي العراق في خلافة يزيد بن عبد الملك. يرسل إلى اثنين من مدرسة تقوية القلوب الحسن البصري، شيخ مدرسة التابعين والإمام الشعبي، يطلب منهما تقوية قلبه من الضعف الذي طرأ عليه، بصيغة سؤال قال فيه «إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إلي كتبا أعرف أن في إنفاذها الهلكة، فإن أطعته، عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان في متابعتي إياه فرجا؟ فتكلم الشعبي فأوجز ولم يفصح فقال ابن هبيرة للحسن: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أقول يا عمر بن هبيرة أوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى، فظ غليظ، لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.
يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولن يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله، يا عمر بن هبيرة، لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك، فيغلق به باب المغفرة دونك يا عمر بن هبيرة، لقد أدركت ناسا من صدر هذه الأمة كانوا عن الدنيا وهي مقبلة أشد إدبارًا من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة، إني أخوفك مقاما، خوفك الله فقال «ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد». يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله في طاعة كفاك يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد على معاصي الله وكلك الله إليه. فبكى عمر بن هبيرة وقام بعبرته. [3]
والحسن هنا قام بعملية كبيرة، وهي أنه حاول توجيه قلب أبن هبيرة من الخوف من العبيد إلى الخوف من الله وحده، ودليل نجاح هذه المحاولة هو بكاء ابن هبيرة الذي جاء عن استيقاظ قلبه من تلك الغفلة التي جعلته ينسى أن الله سبحانه وتعالى هو مالك يزيد، وهو مالك الملك جميعا وأنه لا يستطيع أحد أن يقوم بشيء إلا بأمره.
3- زروع قد دنا حصادها.
كتب الحافظ زر بن حبيش إلى عبد الملك بن مروان كتابا يعظه فيه، وكان في آخر كتابه «ولا يطمعنك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك فأنت أعلم بنفسك، وأنكر ما تكلم به الأولون..
إذا الرجال ولدت أولادها *** وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها *** تلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأ عبد الملك الكتاب بكي، حتى بل طرف ثوبه، ثم قال صدق زر. ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق».[4]
ويبدو أن هذه الموعظة قد أثرت في قلب عبد الملك، ولكن هذا التأثير لم يكن كبيرًا بسبب قوله ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق - ويرجع سبب عدم التأثر الكامل هذا إما بسبب حدة في الموعظة أو قوة في المرض.
4- ليلة تمخض بالقيامة.
وهذه وثيقة نادرة يعترف فيها الخليفة الراشد الخامس عن سبب هدايته، ويمثل نفسه وكأنه كان يغط في نوم عميق، فيقول بصراحة «أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم مولاي حبست رجلا فجاوزت في حبسه القدر الواجب، فكلمني في إطلاقه فلم أفعل فقال: يا عمر إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة. ولقد كدت أنسى - اسمك مما أسمع، قال الأمير: فوالله ما هو إلا أن قال ذلك فكأنما كشف عن وجهي غطاء، فذكروا أنفسكم ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات : 55).
وهنا ملا التأثير قلب عمر رضي الله عنه حتى جعله يدعو ويحث الآخرين للانتماء لهذه المدرسة.
نصيحة مثلى
أخي الحبيب السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه سطور تخطها أناملي إليك، وتحمل في طياتها كل معاني المحبة والأخوة في الله، ولا شك أن القلم ليعجز في التعبير عن هذا الشعور الذي يكنه لك قلبي، ولا شك أيضا أن هذه الكلمات القليلة عاجزة عن إعطاء الصورة الجلية، لذلك الحب والمودة والألفة، ويقول الحق تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾ (العصر1-3).. واسأل الله تعالى أن ينفعني وإياك بها، وأن تؤدي الغرض الذي خطت وكتبت من أجله.
كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى المجاهد سعد بن أبي وقاص- رضى الله عنه- هذه الوصية وذلك أثناء استعدادات الجيش الإسلامي لمعارك القادسية المجيدة فقال: «أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال.. فإن التقوى أفضل العدة على العدو وأقوى العدة في الحربـ وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم يكن لنا فيهم قوة، لأن هددهم ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، ولو تساوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، ولا ننصر عليهم بفضلنا إن لم نكن نغلبهم بقوتنا، ولا تقولوا إن عدونا شر منا ولن يسلط علينا وأن أسأنا فرب قوم سلط عليهم شر منهم ، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولا.... واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، اسألوا الله ذلك لنا ولكم».
أخي أرجو أن تعيش مع كلمات هذه الوصية العظيمة الفذة بكل ما تملك من شعور واحساس وعاطفة وكيان وأن تستشعر ما جاء بها وأن تتصور نفسك أحد هؤلاء الجنود المجاهدين الذين أخذوا بهذه الوصية وانتصروا على عدوهم في تلك المعارك الباسلة، والتي شهدتها القادسية أنك الآن في بلد غريب يجمع كل معاني الغربة.. فهو غريب عنك في تصوره... وغريب عنك في اعتقاده.. وغريب عنك في دينه.. بلد دنيوي تسيطر على أبنائه المادة والشهوة، فلا وجود هناك للقيم والمبادئ ولا وجود للحياء والخجل، وأنت في بلد كهذا جندي من جنود الإسلام المرابطين الذين يحملون على أكتافهم وأعناقهم راية الحق.
والذين يحملون المبادئ والقيم الإنسانية والذين يحملون المنهج القويم ويحملون العلاج والدواء لتلك النفوس المريضة التي سيطر عليها حب المال والشهوات والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. وتذكر يا أخي أنه ما حل مؤمن بمكان إلا وترك به أثرا طيبا فإنك لم تذهب هناك وتفارق الأهل والأصحاب وتتحمل مشاق السفر إلا لتأدية واجب من واجبات ومقتضيات الدعوة.. إنك ما ذهبت هناك إلا مجاهدا وغازيا والصراع هناك ليس صراعاً بالسلاح المادي، بل الصراع هو صراع نفسي بين الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشر.
والجندي المسلم يلزمه الزاد في سفره الطويل، هذا الذي ينهك القلوب ويقسيها ويجفف بعض معاني الإيمان والإخلاص، وأفضل الزاد هو التقوى ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن والاحتراس من المعاصي التي تتربص وتتهيأ للانقضاض على ذلك الإيمان وتلك الشفافية والحساسية التي يحتويها القلب.
أخي سترى هناك صورًا كثيرة تخالف وتضاد ومبادئ عقيدتك وتصورك، منها صور قوم لا يبالي أكثرهم بقيمة الشرف والعفة والنزاهة، قوم لا يحفلون بأبسط القيم والمبادئ.. قوم أذلتهم المادية والمدنية ترى نساءهم العاريات في الشوارع والأسواق يعرضون أجسادهن لكل غاد ورائح كالسلع البخسة الرخيصة المبذولة، ستجد حانات القمار والميسر والخمر فلا تغرك تلك الدنيا بصورها وزخرفها وبهارجها وجمالها وزيفها، لا تغرنك تلك الصور المزيفة الخداعة، وتذكر دائما أن ما عند الله خير وأبقى، وتذكر أيضا أنك ستسأل يوم الحساب عن خمس عن العمر، وعن الشباب، وعن الصحة وعن المال، وعن الوقت إنها حجج كثيرة فاستغل يا أخي الفرصة والوقت والصحة والشباب والعمر والمال في سبيل مرضاة الله، ولا تغرنك كثرة أهل الباطل الذين يقول فيهم الرحمن تبارك وتعالى ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام:116).
وفي النهاية نسأل الله عز وجل أن يعينك على غربتك هذه في الثبات على طريق الحق طريق الإسلام وأوصيك بالاستغفار، وذكر الله وقراءة القرآن، ونسأل الله أن يجعل هذا القرآن نوراً في صدرك، وربيع قلبك وجلاء حزنك وذهاب همك وأن يجعله حجة لك وليس عليك..
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أخوك في الله
بو يوسف
بوفا - الهند.
التربية بالشعر
ياليت شعري ما ادخرت *** ليوم بؤسك وافتقارك
فلتنزلن بمنزل *** تحتاج فيه إلى ادخارك
أفنيت عمرك باغترارك *** ومناك فيه بانتظارك
ونسيت ما لابد منه *** وكان أولى باد كارك
ولو اعتبرت بما ترى *** لكفاك علما باعتبارك
لك ساعة تأتيك من *** ساعات ليلك أو نهارك
فتصير محتضرا بها *** فتهيأ من قبل احتضارك
من قبل أن تقلى وتقصى *** ثم تخرج من ديارك
من قبل أن يتثاقل *** الزوار عنك وعن مزارك
[1] صحابي جليل
[2] المصباح المضيء ٣٦/٢
[3] المصباح المضيء ٢١٤/٢
[4] المصباح المضيء ٤٤/٢
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل