الثلاثاء 24-أكتوبر-1972
وداعًا.. أيها الرجل الذي عاش لغيره
بعد تلاوة آيات من الذكر الحكيم افتتح الدكتور حسان حتحوت الندوة التي كان من المفترض أن تنعقد في موضوع «الصيام والإنتاج» مساء الأربعاء الماضي بمقر الجمعية الطبية الكويتية بضاحية الصليبخات، لكن وفاة الدكتور محمد سعيد النجار أحالتها إلى حفل تأبين للرجل وازداد عدد المتكلمين، وغصت القاعة بالحضور وفي كل عين دمعة تترقرق، وفي كل قلب ألم يمزق.
ونهض المحاضر الأول وزير المالية والنفط عبد الرحمن العتيقي، ليقول بعد مقدمة له: ليس من عادتنا في الكويت أن نؤبن موتانا، ولم يسبق له، وربما لن أقفه بعد ذلك إلا أن «سعيدًا» له مكانة في النفوس تمثلت فيما وصفه به ربه ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ (الحشر:9). حيث لم يقصد في هذه الآية النفس تحديدًا بالبخــل بالمال، بل هي متروكة لتشمل كل صفات الشح من الجبن والسعي في مصلحة الآخرين والشح في الأداء. وهذه كلها نعم أكرم الله بها «سعيدًا» فوقاه شر نفسه وشقي في هذه الحياة ليلقى الله سعيدًا «من المفلحين»...
ثم ذكر طرفًا من الحادثات معه ختمها بقوله:
جاءني عدة شكاوى بأنه من غير المنتظمين في دوامه مع علمي بأن الـ٢٤ ساعة هي دوام سعيد.. فقلت له ليرحم نفسه وأولاده بضرورة الانتظام لأن النظام الحكومي لا يرحم.. ولكن نفسه الخيرة كانت تحاول دائمًا بين مجازاته.. فإنه دائم العمل والطواف من أجل مصلحة الآخرين، ولم يسع في مصلحة شخصية لنفسه ثم ختم الوزير كلمته بالدعاء للفقيد.
رئيس الجمعية الطبية وإنشاء مسجد
ثم أعقبه الدكتور خالد حسين، رئيس الجمعية الطبية الكويتية الذي كان مما قال:
عرفت الفقيد رجلًا بارًّا منذ عشر سنوات متفانيًا في خدمة المرضى، وكانت له رغبة في افتتاح مصلى بمقر الجمعية، وأُعلن الآن أنه سيتم إنشاؤه وافتتاحه ليسمى مسجد سعيد النجار، وختم كلمته بالدعاء أن يسكن الله الفقيد فسيح جناته.
كلمة مدير الجامعة واقتراح بتأليف كتاب عن سيرة الفقيد
ثم وقف الدكتور عبد العزيز کامل، مدير جامعة الكويت حيث أبان أنه كان في نيته زيارة الفقيد، ولكن يد القدر كانت أسبق ثم تكلم عن عظة الموت، وأخلاقيات الفقيد فقال عن عظة الموت بأنه عودة واطمئنان ورضى وسكينة، إلى الرب من التربية والتكوين حيث قال -عز وجل: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: ٢٧،٢٨،٢٩،٣٠). ولم يقل: اذهبي، بل ارجعي بضمير متصل.. ثم أوضح ما جاء في قصة مؤمن آل فرعون لما نقل وانتهت حياته الأرضية أكمل الجملة التي بدأت في الدنيا في الآخرة «يا ليت قومي يعلمون».. والزمن يعيش الحياة حياة «سعيد» يلقى ربه فرحًا حيث وصف الله -جل جلاله- إحياءه بعشر صفات أجملتها الآيات الكريمة:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، ۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: ١٦٩،١٧٠،١٧١).
أما عن أخلاقيات الفقيد فلقد اختار أن يكون ميدان عمله مع الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم سواء كان ذلك في مؤسسة ضعاف العقول أو في ميدان ذوي الحاجات.. وكان عمله شاملًا لكل مجالات الإنسانية؛ كأنما الخير قالب نفسه.. فرحه وحزنه.. من هنا كان «سعيد» ظاهرة لها التميز كالعطر والنور، وخيرًا لا يعرف الشر.. ثم دعا له واقترح أن يؤلف كتاب عن الفقيد إنسانيًّا وعالميًّا.
وقد علق الدكتور حسان على هذا الاقتراح بأنه حق أولادنا، وعدم انطماس لتاريخ يجب أن يدرس لهم.
كلمة وكيل وزارة التربية
ثم وقف الأستاذ يعقوب غنيم ليقول:
إن أخانا «الفقيد» كان نجمًا ومحط الأنظار، وكان ناسيًا لنفسه ولا نجد أنفسنا في عشره.. إن في كل بيت حكاية عنه، وفي كل زاوية قصة.. يفكر في الناس مؤمنًا وفيًّا مخلصًا محبًّا للناس ليس له عدو أبدًا.. لم يخلف حقدًا.. وهذا ما أسمعه وأنت يا أخي سعید عشت كريمًا ومت كريمًا جمعني الله بك على الخير فأنت اليوم أوعظ منك حيًّا.
قصيدة الأستاذ صيام
ثم تلاه الأستاذ محمد صيام، وکیل ثانوية كيفان؛ حيث ألقى قصيدة نعد بنشرها مستقبلًا إن شاء الله.
العميد أحمد ممدوح حسن.. والغائب الحاضر
ثم وقف العميد حسن ليقول كلمة عاطفية مؤثرة جاء فيها:
منذ بدء الخليقة علمنا الحق أن الموت حق والحياة حق.. ومن طلوع الشمس غروبها ونحن نسمع من مشارق الأرض ومغاربها أن فلانًا استشهد أو مات أو قتل.. ونستقبل ذلك النبأ بالعويل والنحيب والحزن مرة أخرى حتى كان السابع من رمضان حيثما قرأنا نعي الغائب الحاضر، صمتنا طويلًا، وتسمرت عيني وكانت مناجاة.. من اليسير على جموع غفيرة هنا في الكويت وفي كل مكان أن يتكلموا عن مآثر سعيد الذي كان جوهرة نادرة اختارها «والموت نقاد على كفه جواهر» وهو في أول صفوف أهل المروءة.. وحينما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يختص من عباده من يقضون حوائج الناس» فإن سعيدًا كان من أول الصفوف وسبّاقًا..
وربكم الأعلى يقول في الحديث القدسي: «ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه».
كم من نافلة أبداها ليتقرب إلى الله.. لقد عاش حياته للناس، لم يسأل عن نفسه أو أهله.. فكان له عند الله الجزاء الكبير وأنا لأخاله في غرفة من هذه الغرف «لنبوئنهم من الجنة غرفًا».. فلا رثاء ولا عزاء، بل أمل ورجاء أن يجعل الله منا سعيدًا آخر.
دكتور عبد الوهاب راشد
وبقلوب الحاضرين تكلم الدكتور عبد الوهاب راشد:
یا ناس يا كل الناس.. سكنت النفس الطاهرة، وصعدت الروح الزكية وذهل من ذهل، مات البطل وانقضى الأمر ولله الأمر.. بكى الليل وسأل الناس ثم عادوا يسخرون «إنك ميت وإنهم ميتون» هذا في عرف الحياة لكنه خالد في جبين الحياة.. ونزفت القلوب من القدر المكتوب، وماتت الأحلام واهتزت الأعصاب لا يصدقون وهم يعلمون... نسى الإنسان أنه إنسان وأنه وديعة الرحمن.. لقد كان سعيد ما كان... إنه هنا في قلوبنا في عيون الضعفاء.. إنه رمز العطاء إنه رمز الوفاء.. يا إله العالمين.. إنه حق مبين.. لا خلود هنا ولا بقاء.. ثم يا سعيد هنيئًا مستريحًا.
قصيدة الشيخ البرغوثي
ثم تلاه الشيخ عبد الرحمن البرغوثي الإمام بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية حيث ألقى قصيدة شاملة بعنوان «دموع وفاء».
كلمة الدكتور عصام الشربيني
ثم وقف الدكتور عصام الشربيني ليكشف عن صفحات مطوية من سجل حياة الرجل قد لا يعلمها إلا القليلون:
- إنه ظاهرة فذة جديرة بالتسجيل.. إذ لا يكاد أحد هنا أو في الخارج إلا ولسعيد مكرمة عليه في نفسه أو أهله أو أصدقائه.
- صورة تقفز إلى ذهني منذ خمسة عشر عامًا وقد كان الطبيب منا يواصل عمله ليلًا ونهارًا في الحر القائظ.. ويسرع الواحد منا إلى غرفة باردة إلا أن يحضر لنا سعيد بمريض ويستمر في علاجه فننهض معه مستحين من أنفسنا.
- ثم عرج على بعض الصور خدماته ولين جانبه وخفض جناحه وإخوته للكبير، والصغير، ونجدته، ومروءته.. إلخ.
- ثم قال منذ عرفته مدرسًا لي بكلية الطب المصرية عام ١٩٤٤م لم أره إلا في قاعة المحكمة العسكرية في أوائل الخمسينات ومصر تمر بأعنف إرهاب حكومي بوليسي لم تشهده من قبل؛ حيث كان الذي يتصل أقارب المتهمين السياسيين من قريب أو بعيد يناله أشد ألوان الأذى...
رأيته يدخل قاعة المحكمة العسكرية وهي تحاكم بعض المتهمين ليدلي بشهادته وسط ذهول الحاضرين وهمس القضاة الذين كان لطلعته عليهم أثر في السكينة، وفي شهادته للحق.. إذ حكى لهم كيف أن أحد ضباط سجن الأجانب استدعاه ليلًا من الهلال الأحمر ليقوم بالكشف على مريض.. في الزنزانة مصابًا من آثار تعذيب وحشي قاسٍ فأصر على أن يصحبه إلى المستشفى للعلاج.. فاعتذر له الضابط بأن ذلك ممنوع.. وأصر ولم يفلت منه الضابط الا بحيلة.. وهو أنه أحضره بصفة استثنائية ولا يعلم المسئولون ولا بد أن يقع عليه ضرر لو أخرجه معه.. ووعده بأن يستأذن المسئولين ويتصل به في المستشفى وبهذا خرج سعيد لا إلى بيته، بل إلى المستشفى في انتظار طلبه ولما طال الوقت وطلب السجن مرات ولم يرد عليه بالهاتف حزم أمره وطرق باب السجن ليفلت منه الضابط مرة أخرى بأن المريض قد نقل إلى المستشفى العسكري!!
جهاده في معركة قناة السويس
- وحينما قامت حركة الفدائيين في قناة السويس عام ١٩٥١ ظهر الدكتور/ سعيد عملاقًا بطلًا.. فقد كان السلاح يشترى من السوق السوداء واكتشف الفدائيون أن الباعة هم عملاء المخابرات العسكرية المصرية فحمل عبء التغطية على الفدائيين وحده لخشيته عليهم في الصحراء من تجار السلاح فكان يصحبهم في سيارته وينتظرها حتى يعود بهم إلى مراكزهم.
- وقد حاول أن يجعل من الأطباء دوريات.. لكن الجمود والروتين منع ذلك فقام هو بواجبه.
- ولما كان السلاح يُشترى بالقروش الزهيدة التي تجمع من أفراد الشعب المصري فقد تطوع هو أن يقوم بجمع المال من أساتذة الجامعات وكان لا يرضى بأي مبلغ يقدمونه، بل كان هو يقدر للواحد منهم المبلغ ويحصله حتى جمع أموالًا طائلة وأصابه بذلك عنت شديد لعله كان سبب إقصائه عن الجامعة.
- وكان يقوم بدور الأب الرحيم لكل فدائي إذ يذهب إلى أهله يحمل رسائله ويطمئنهم على أولادهم ويشجعهم ويواسي أهل الشهداء منهم.
- لقد كنا في هذه الفترة منذ عشرين عامًا نتمنى له الشهادة ليستريح ثم عقب الدكتور حسان قائلًا:
- إذا ذكرت معارك الفدائيين في قناة السويس عام ٥١ - ١٩٥٢ لا بد أن يعرف أن المحرك والوقود لها والذي كان وراءها هو الدكتور سعيد..
- ولقد كنت معه ثالث ثلاثة في مقابلة مع طبيب الملك الخاص فكان يقول له: بلغ الملك كذا وكذا.. في جرأة وشجاعة حينما تعتبر الجرأة شؤمًا على صاحبها.
- وفي فصل آخر بعد ذلك حينما ازدهرت سوق النفاق؛ من يستطيع أن ينسى سعيدًا وهو يقول للقادة:
أضيئوا الأنوار يتميز لكم الخبيث من الطيب، واعلموا أن الشعب الذي يخاف من العصا لا يثبت أمام الدبابات.
كلمة وكيل وزارة الصحة
ثم وقف الأستاذ سعد الناهض، وكيل وزارة الصحة ليقدم العزاء باسم وزارة الصحة التي تقدر للفقيد جليل خدماته.
كلمة السفير المصري
وكان آخر المتكلمين السفير المصري الأستاذ عز العرب الذي قال كلمة منها: إن الجالية المصرية ترى في الفقيد ابنًا بارًّا لمصر وخير سفير لها رأيناه بالفعل أخذ عن أرضها الطيبة كل ما فيها من الخير والعطاء، ومن النيل كل ما فيه من تدفق.. ولكنه لم يحفل بالجنسية ولم يفرق بسببها في المعاملة أو الخدمة.
السير على نهجه
ثم قال: جميل أن نحزن.. ولكن ما يرضيه أن نسير على نهجه وأن تكمل رسالته وأن تستمر رسالة سعيد. لقد فكرنا في إنشاء صندوق الزكاة أو المروءة. وحيرنا وجه الإنفاق حتى استقر رأينا على أن نعطيه مطمئنين للدكتور سعيد» وتلقي المسئولية عليه لأنه كان ينفق من جيبه الخاص.. وزرته في المستشفى وعرضت عليه المشروع فرضي واستبشر.. والآن أعتقد أن الواجب أن نفعل ما كان يفعله رعاية للمساكين والمحتاجين «رعية سعيد».. لذلك اقترح أن تقوم جماعة بهذا المشروع وتسمى «جماعة سعيد» وتوزّع المسئولية عليها.
واختتم الحفل كما بدئ بآي الذكر الحكيم.
أبو هالة
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل