العنوان «اتفاق الثمانية» بمنظور أوروبي أوروبا تكسر بعض قضبان القفص الأمريكي
الكاتب أحمد الأديب
تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999
مشاهدات 20
نشر في العدد 1350
نشر في الصفحة 40
الثلاثاء 18-مايو-1999
كوسوفا
لم تعد الحرب الجوية الأطلسية الجارية باسم الدفاع عن كوسوفا وأهلها حربًا أطلسية - يوغوسلافية فقط بل أصبحت تدور على ساحات عدة في وقت واحد، ومن محاورها الساخنة العلاقة بين الغرب وموسكو التي عادت إلى مكان الصدارة - بما يمثل ضربة للسياسة الأمريكية التي سعت إلى تهميش روسيا.
ومن محاورها أيضًا العلاقة بين واشنطن والأمم المتحدة، حيث بدأت تظهر معالم ضربة أخرى موجهة للسياسة الأمريكية، فعلى رغم استمرار المساعي التحجيم وجود المنظمة الدولية، فإن هذا الهدف لم يتحقق، وقد تسفر الأحداث عن نقيض المطلوب وتعود الأمم المتحدة إلى صدارة تقرير الحدث في البلقان بأكثر مما كانت عليه قبل بدء القصف الجوي، ومن المحاور الرئيسة للحرب الأطلسية أخيرًا العلاقة بين الأمريكيين والأوروبيين.
ولا شك في أن العنصرية الصربية ساهمت في دفع الدول الأوروبية داخل حلف شمال الأطلسي. لتشارك في اتخاذ قرار الحرب بالإجماع، على رغم أنه قرار أمريكي في الدرجة الأولى، وربما ساهم في إقناع الأوروبيين بضرورة اتخاذ القرار في حينه، وقبل فترة وجيزة نسبيًا من انعقاد قمة الاحتفال بخمسين سنة على تأسيس الأطلسي، الطرح الأمريكي الذي صور المعركة المنتظرة نزهة جوية عاجلة، تنتهي في أيام معدودة، وأنها ستكون:
1 - موجهة ضد الصرب لضبطهم أوروبيًا، دون أن تؤدي إلى استقلال المسلمين في كوسوفا.
٢- وجوية فقط.. فلا تتحول إلى مغامرة عسكرية برية تستنزف الأوروبيين ماليًا وعسكريًا وسياسيًا.
٣-ونظيفة.. بأقل قدر ممكن من الضحايا المدنيين، فلا تثير في أوروبا الأقرب إلى ساحة القتال، ردود فعل شديدة على مستوى الرأي العام. ولا ترسخ المزيد من الضغائن بين الأوروبيين. والصرب فريق منهم.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن واشنطن غررت بالأوروبيين ببساطة.. فأهدافهم في البلقان، وأهدافهم الأطلسية عالميًا، وكذلك أهدافهم فيما يتعلق بالمسلمين وقضاياهم، لا تختلف عن الأهداف الأمريكية إلا من حيث أساليب الطرح والإخراج، ووسائل التمرير والتنفيذ، وكانت الحرب من الوسائل المطروحة في الساحة الأوروبية للتعامل مع أحداث البلقان، إنما استطاعت واشنطن نقلها إلى المقدمة، ولكن مع كل يوم يمضي من الحرب الطويلة، يزداد المأزق الأوروبي ظهورًا للعيان، بما في ذلك استنزاف الطاقة العسكرية والمالية، حتى تردد أن فرنسا لم تعد تملك ما يكفي من الصواريخ لاستخدامها في القصف الجوي، أما المأزق الأكبر فكان سياسيًا، إذ وجدت أوروبا نفسها أمام واقع جديد تمس نتائجه الأوروبيين أكثر من الأمريكيين، ومن ذلك:
۱ - تجديد علاقات الخصومة مع موسكو.
٢ - تفاقم مشكلة المشردين على الأرض الأوروبية.
٣- تحول العلاقات مع الصرب إلى جرح لا يندمل في المستقبل المنظور.
٤- تعزيز احتمال جر أوروبا إلى مغامرات عسكرية أوسع نطاقًا وأبعد جغرافيًا، وأقرب إلى تحقيق الأهداف الأمريكية وحدها..
5 - نقل الخلافات بين الجناحين الأمريكي والأوروبي داخل حلف شمال الأطلسي إلى خلاف أوروبي - أوروبي، ومن ذلك ما يظهر للعيان عند المقارنة بين مواقف لندن وباريس وبرلين
لم تنتظر ألمانيا أمام هذه المعطيات إذنًا أمريكيًا، أو موافقة مسبقة عبر المشاورات الديبلوماسية التقليدية، عندما تحركت بمبادرتها. بل اتبعت أسلوب فرض الأمر الواقع عمليًا.. وهذا ما تجلى في أسلوب طرح المبادرة، إذ:
1 - لم تبدأ المبادرة أطلسيًا بل في القمة الأوروبية
2- وبحضور استعراضي للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان.
3- ومع إعلان رسمي يقول إن أسلوب القرار حول المبادرة هو اللجوء إلى مجموعة الثمانية أي بمشاركة روسيا، إنقاذًا للعلاقات المتدهورة مع موسكو.
وحتى الساعات الأخيرة قبل انعقاد اجتماع بون الوزاري المجموعة الثمانية، لم تعلن واشنطن موافقتها على حضوره، وعلى رغم ذلك حرصت ألمانيا على إعلان الموعد، والإشارة العلنية إلى موافقة كل الأطراف عليه، وأن انعقاد الاجتماع مرتبط بوصول الموافقة الأمريكية أيضًا.. وهذا ما وضع واشنطن بين خيارين إما الرفض الذي يتحول عمليًا إلى عزلة سياسية مع الحلفاء الأطلسيين أو الحضور على رغم المعطيات المذكورة التي جعلت اللقاء ينعقد وفق إخراج ألماني - أوروبي في الدرجة الأولى، أو بتعبير آخر بصورة تنتزع زمام المبادرة السياسية من واشنطن، وذلك بالذات ما جعل الرئيس الأمريكي كلينتون حريصًا على القيام بزيارته العاجلة إلى ألمانيا، في الفترة المحددة لانعقاد اللقاء الوزاري المجموعة الثمانية لاستعادة الزمام السياسي دوليًا، والأمل في ضبط نتائج المؤتمر داخل إطار أمريكي على الأقل.
ولكن لم تحقق المحاولة أغراضها إلا جزئيًا فاتخذت صياغة المبادئ السبعة لوقف الحرب وحل النزاع مضمونًا أوروبيًا، وفتحت مع موسكو جسرًا جديدًا، وجعلت من العودة إلى ساحة الأمم المتحدة هدفًا رسميًا.. هذا بغض النظر عن تقويم المبادرة بمنظور كوسوفا وأهلها، أو البلقان ومستقبلها.
ولا يعني ما سبق أن واشنطن سلمت للأوروبيين وهذا يمكن أن يرجح التكهنات القائلة إن إصابة السفارة الصينية في بلجراد لم تكن نتيجة خطأ عسكري بل أشبه بمحاولة تفجير أرضية سياسية لا تروق للأمريكيين، وإن بقيت هذه التكهنات مجرد تكهنات، فإن الملاحظ أن التصريحات الصادرة عن وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت بعد اجتماع الثمانية بيوم واحد جاءت بمحتويات تتناقض مع مضمون نتائج الاجتماع وهي بمثابة رسالة واضحة التوجه نحو عرقلة تنفيذ اتفاق بون على رغم ذلك فالحصيلة أقرب إلى ترجيح كفة الأوروبيين في الوقت الحاضر.
إن النجاح الأوروبي الجزئي، يعني كسر بعض قضبان القفص الأمريكي باتجاه تميز فعلي للقرار الأمني الأوروبي عن مفعول الإملاء الأمريكي للسياسة الأمنية حتى فيما يخص القارة الأوروبية نفسها، وما تحقق بهذا الصدد لا يزول أثره على المدى البعيد وإن تعرض لنكسة محتملة عبر تصعيد أمريكي للقتال مثلًا. أو من خلال إثارة نقطة خلاف أكبر مع موسكو، ولعل الرغبة في تجنب مثل تلك النكسة، وفي استمرار التفاهم الأوروبي على المدى البعيد، هو السبب الرئيس من وراء حرص المبادرة الألمانية على أن تقترن ببرنامج إضافي طويل الأمد، لدمج منطقة البلقان أوروبيا. وبالتالي التخلص من نقطة ضعف رئيسة في الخاصرة، الأوروبية، كانت ولا تزال من الثغرات الرئيسة لنفاذ القوى الدولية إلى مواقع اتخاذ القرار الأمني على الأرض الأوروبية.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل