العنوان إبراهيم عاصي.. الأديب الأسير
الكاتب محمد الحسناوي
تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999
مشاهدات 13
نشر في العدد 1350
نشر في الصفحة 54
الثلاثاء 18-مايو-1999
إعداد: مبارك عبد الله
كان من سوء حظ الشاعر أبي فراس الحمداني أن يقع أسيرًا في أيدي أعدائه الروم وكان من حسن حظ الأدب العربي أن يطول سجن أبي فراس الحمداني لدى الروم حتى يتحف الأدب العربي بروائع شعره «الروميات» لكن الأديب الموهوب القاص إبراهيم عاصي طال سجنه، فنيف على عشرين عامًا منذ أبريل ۱۹۷۹م، ولم نسمع له صوتًا، فضلًا عن أن نقرأ له شيئًا جديدًا، لم تعد اللهفة على مطالعة إنتاجه الجديد وحسب، وإنما الإشفاق على روحه الطاهرة أن تكون قد أزهقت وعلى قرائه المحبين وعلى دوحة الآدب العربي أن يخسروه.
خلال سنوات قليلة أنجز ستة كتب أدبية معظمها قصص قصيرة هي: سلة الحرمان - حادثة في شارع الحرية - ولهان والمتفرسون - همسة في أذن حواء - للأزواج فقط - جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي، ولو أتيح لهذا الرجل المعطاء أن يأخذ حظه من العيش -وهو متواضع- لأثرى الآدب العربي والإسلامي بمكتبة أدبية لا تقل عن مكتبة علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني -رحمهما الله- لكن ماذا نقول للأكف التي اختطفته في ليلة ظلماء، وأطبقت على صوته الغريد، ولا تزال؟.
يشق علي يا إبراهيم أن أفتقدك كل هذه المدة. ويشق على عشاق الأدب الجميل المبدع، الأدب الاجتماعي الإنساني الساخر أن يحال بينك وبينهم عشرين عامًا.
ولد الأستاذ إبراهيم في مدينتي الزهراء جسر الشغور عام ۱۹۳5م لأبوين رقيقي الحال في عرف الناس طيبي النفس في عرف الأخلاق.. زهدًا وصلاحًا وإصلاحًا، وكان ريحانة أبويه في الوفاء بحقهما ورعايتهما من جهة، وبالنهوض بأعباء الأسرة حتى آخر لحظة من لحظات حياته قبل أن يختطف من بين أحضانها من جهة ثانية، توفيت أمه في حياته فحنا على أبيه وأخيه الأصغر ورعى زواج أخواته الثلاث زيجات مباركات، لكن اعتقاله كان ضربة قاصمة لوالده الذي لم يعش طويلًا بعد غيابه، رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جنانه.
تفوق إبراهيم دراسيًا في المرحلة الابتدائية، وكان ذلك مجازة لنيل منحة الدراسة الداخلية في المرحلة الإعدادية، ثم دخول دار المعلمين الابتدائية بعد ذلك. وكان نجاحه آنذاك حدثًا متميزًا في مدينة جسر الشغور لقلة الكفاءات ولحصول ذلك لشاب من بيئة رقيقة الحال، ومع دراسته في دار المعلمين الابتدائية درس الشهادة الثانوية فنالهما معًا، وجمع مع عمله الشاق في التعليم الابتدائي بالأرياف الدراسة الجامعية في كلية الآداب، وما تدرج سنة أو سنتين في قسم اللغة العربية حتى دعي! إلى الخدمة العسكرية في الجولان قبل احتلالها، وكان يحضر بعض المحاضرات والامتحانات بلباس الجبهة العسكرية وكان يحقق النجاح تلو النجاح، ولم يكن يدري أن جسمه الناحل الممشوق يدفع ضريبة مع كل نجاح. كنت أسمع به ويسمع بي إلى أن تعارفنا عام ١٩٥٣م في نهاية دراستي الإعدادية وبداية تخرجه في دار المعلمين الابتدائية، فاتصلت بيننا المودة والأعمال فما نكاد نفترق حتى نلتقي، وكالضريبة اللازمة كان يقضي العطلة الأسبوعية في حلب كي نتمتع باللقاء وبإنجاز ما يمكن إنجازه من شؤون الأدب والحياة وكان هذا دأبنا في السنوات الأخيرة إلى أن اختطفته تلك اليد في تلك الليلة الظلماء، وقذفت بي خارج مكتبي وبيتي ووطني. كانت أمسيات حلب الشهباء الساجية وأدباؤها المتفنون زادنا ونقلنا ومصابيح مشروعاتنا الخصبة تبدأ بتدارس آخر ما خططناه من شعر وقصص ومقالات ونمر بدراسة أدب باكثير والتحضير للدراسات الجامعية العالية، ولا ننتهي إلا في سماء مستقبل أزهر لأمة العرب والمسلمين، ثم كان جزاؤك وجزائي يا إبراهيم ما رأيت
الانعطاف الأكبر
زارني مرة يستشيرني في مجموعته القصصية الأولى «سلة الرمان» التي طال نومها لدى الناشر وقد عرضت عليه دار نشر أخرى أن تنشر له شيئًا .أيسحب المجموعة المذكورة ويسلمها للدار الأخرى أم ينتظر؟ قلت له: ولم لا تكتب مجموعة جديدة، قال: المدة قصيرة لا تتجاوز خمسة عشر يومًا أو شهرًا. قلت: فليكن فكانت مجموعته القصصية الثانية ولهان والمتفرسون، وكانت الانعطاف الأكبر الذي فتح له باب الشهرة الأدبية. أما كيف استطاع اجتراح هذا الإنجاز، وكيف تناقشنا فيه، فندعه لفرصة سانحة، أما ولهان، فإحدى الشخصيات التي التقط ملامحها من مجتمع الأزمات، أزمات الفرد رجلًا أو أنثى، ومن مجتمع جسر الشغور الطريق الذي هو على رغم ألوانه الخاصة جزء من مجتمع سوريا المسحوق المنتهك جهارًا نهارًا. الولهان أصيب بانفصام في الشخصية، وهو شاب في مقتبل العمر، فحلق شعره على الصفر، وصبغ وجهه، وكحل عينيه، ونتف حواجبه، ولبس التنورة النسائية على طريقة الاسكتلنديين، وحذاء نسويًا ذا كعب عال، فإذا مر به سرب من الفتيات الكاسيات العاريات صاح صيحة تهز الثقلين، وصفق بكفيه وضرب بكعبي حذائه واستدار دورة كاملة على رجل واحدة، ثم أخذ يقهقه عاليًا قهقهات رنانة، يجعلك تتساءل: عاقل هذا أم مجنون؟ حين نشرت هذه القصة لأول مرة في مجلة الآداب اللبنانية هاجمها عبد الرحمن الربيعي فتصديت له أنا والأستاذ عبد الله الطنطاوي، ودافعنا عن أخينا المبدع إبراهيم دفاعًا يستحقه، لكن كيف ندافع عنك الآن يا أبا عمار؟
أما المتفرسون فمجموعة من رواد المقاهي العاطلين المبطلين، همهم مراقبة الغادين والرائحين والتفرس في وجوههم أو أقفيتهم، لتخمين نفوسهم وحرفهم ومشكلاتهم، وحدث عن براعة الأستاذ إبراهيم عاصي الساخرة في تصوير النفوس وتحليلها، ثم صرت يا إبراهيم ممن نصفه، ونتحدث عنه بعد أن كنت ملء السمع والبصر.
شاب ممشوق القامة، كالرمح عريض المنكبين كالابتسامة رقيق الحاشية كالماء الرقراق، كحيل العينين كالحلم أو كالحمام، حاضر البديهة كالأمنيات عذب الحديث كشراب الورد لاسع السخرية كقرصات النحل، مشرق الابتسامة كالفجر الضحوك أبيض البشرة أسود الشعر كتعانق الليل والنهار.
لو لم يكن الأستاذ إبراهيم مدرسًا للغة العربية وقصاصًا أديبًا لكان أحد نجوم التمثيل لما وهبه الله تعالى من وجه صبيح وملامح لطيفة، ولو لم يكن خطيبًا مفوهًا لكان منشدًا مرموقًا لما لصوته من حلاوة وما عليه من طلاوة، فإذا فاتك أن تستمع إلى إحدى خطبه أو محاضراته، فاقرأ ما سطره، أو ما تناوله من تحليل أدبي فلسفي في قصته رحلة مع الجمال مجموعة من المسافرين الشباب في سيارة أجرة مع شابة جميلة مسافرة مثلهم كل منهم يلم بها في خياله مشرقًا أو مغربًا، أحد المسافرين هام بهذا الجمال المتحرش، وتمنى الأمنيات الخلابة طوال الطريق، ضاربًا بالقيم والذوق والأخلاق عرض الحائط، ولم يجد من الجمال إلا صورته الحسية وكانت النتيجة أن جوزي على شهواته العارية بكتل متلاحقة من مخزون معدة الحسناء وبصاقها اللزج الحامض المر النتن أخيرًا اعتقل الأديب القاص الموهوب إبراهيم عاصي، واستشهد ولده البكر الطالب الجامعي «عمار» في أحداث ۱۹۸۰م الدامية، وترملت زوجته ومازالت أسرته الصغيرة تطحن في غيابه وتمضغ مخزون الملح والكمون، تعد النجوم، وتجار بشكواها للحي القيوم.
قبل اعتقاله بساعات تداولت معه بشأن النزوح عن البلد، وموجات الاعتقال تحصد الأبرياء، فقال: ماذا جنيت حتى أغترب عن أهلي وبلدي بلد آبائي وأجدادي وعن وطني؟ وأنا الآن أتساءل بعد عشرين عامًا، ماذا جنى أبو عمار المدرس الأديب المربي وماذا جنت أسرته ومحبوه ومحبو أدبه؟..
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
محمد مراهوروفيتش مدير "دار القلم" بالبوسنة: هدفنا أن تكون سراييفو مركزاً للترجمة في أوروبا
نشر في العدد 1490
10
السبت 23-فبراير-2002