أخطار التحول إلى التعليم الاستثماري

د. مي سمير

15 مايو 2024

3560

بعثت صرخة المفكر الألماني كارل ماركس لتوعية العالم بمآسي وظلم الرأسمالية وتوحش الربح على حساب البشر، برسائل تحذيرية لفتت نظر مفكري الرأسمالية إلى ما آلت إليه أحوال المجتمعات والدول، بعدما أطلقت الحكومات يد السوق لتكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد الصالح من الطالح، وجعلت الدولة تتنبه إلى أهمية التدخل في المجتمع لكي تضبط الإيقاع وتكبح جماح رأس المال الذي التهم القيم والأخلاق في سبيل التربح ومراكمة الثروات في يد فئة قليلة على حساب الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع.

ومن أهم الميادين التي قررت الدول الرأسمالية التدخل بفاعلية لحمايتها من توحش رأس المال وحسابات السوق غير العادلة، الصحة والتعليم باعتبارهما البوابتين الرئيستين لصناعة مواطن قوي على درجة من الكفاءة والفهم والبنية الجسدية التي تمكنه من أداء مهامه في النهوض بمجتمعه بعقل سليم وبنيان صحيح.

وبينما أصبح الإنفاق على التعليم واحداً من أهم مؤشرات التقدم والازدهار والرقي، وأصبحت موازنات الدول تُكرس قسماً كبيراً من إيراداتها للاستثمار في العقول، تتراجع الدول والحكومات العربية شيئاً فشيئاً عن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، لمصلحة تمكين القطاع الخاص الاستثماري في تولي شؤون التعليم بالنيابة عنها، وهو الأمر الذي تسبب في اهتزاز مكانة التعليم، وتخريب جانب كبير من بنيته لمصلحة إدخال مفاهيم ومبادئ وقيم سوقية ربحية بديلة فرغت العملية التعليمية من مضمونها إلى حد بعيد.

وقد أدى انصراف كثير من الدول العربية عن تخصيص موازنات كافية للتعليم إلى تراجع حجم إيرادات كثير من الدول التي تُعد دولاً نامية تولي اهتماماً أكبر للإنفاق على الغذاء واستيراد الحاجات الأساسية للمواطنين، بينما انشغلت كثير من الدول بتطوير منظوماتها الأمنية والدفاعية في ظل التوترات الإقليمية التي تعصف بالمنطقة وتهدد أمن الدول.

أما في الدول التي تحظى بنمو اقتصادي مزدهر، فإنها عمدت إلى تبني منهجية تطويرية شاملة لمنهاجها ومنظوماتها التعليمية بفلسفة غربية قائمة على نقل مهمة الإشراف على التعليم من الحكومات الوطنية إلى جهات أجنبية متخصصة بغرض نفي اتهامات بالتطرف والإرهاب عن منهاجها خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م.

وقد تضافرت جملة من العوامل المرتبطة بالفقر والنزاعات المسلحة وتزايد حدة التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية بعد أحداث 11 سبتمبر، إلى تراجع وتردي الخدمات التعليمية الرسمية بما خلق فرصة مهمة لدخول القطاع الخاص إلى الساحة التعليمية بقوة، فبدأت الدول العربية منذ التسعينيات تشهد سباقاً بين النظامين التعليميين الرسمي والخاص، لينتهي بهزيمة ساحقة للنظام الرسمي؛ مما أسهم في تغول التعليم الخاص تدريجياً وظهور تصنيفات متعددة منه، جعله يحظى بإقبال كبير من جانب قطاعات واسعة من الشعوب العربية.

تداعيات التعليم الاستثماري

لكن دخول مفاهيم السوق إلى مجال التعليم الذي يجب أن ينبع من هوية المجتمع وقيمه الأخلاقية، قد خلق أخطاراً شديدة التأثير على تدمير المجتمعات العربية من الداخل، نتيجة مجموعة من العوامل التي كرسها التعليم الاستثماري:

- استهداف الربح: دفع إخضاع عملية التعليم التي يجب أن تكون ذات أهداف خاصة مرتبطة النمو والازدهار والحس الأخلاقي إلى مفاهيم السوق الهادفة بالأساس للربح إلى تشويه كامل للتعليم، فتحول ولي الأمر إلى زبون، والمنهج إلى سلعة، والتلميذ إلى هدف استثماري، وتحول كامل الفاعلين في العملية التعليمية إلى مجموعة من التجار والعملاء.

- إرضاء العميل: بينما يهدف النظام الاستثماري المنطلق من عقلية رأسمالية إلى تحقيق أكبر قدر من الربح، فإن العملية التعليمية باتت خاضعة إلى أهواء «العميل» الذي أصبح في تلك الحالة ولي الأمر والتلميذ، فيتم تطوير العملية التعليمية لترضي الأذواق والموضة السائدة بحسب كل مرحلة دون التفات إلى مدى ارتباط تلك الأذواق المتقلبة بالتعليم والأخلاق وحاجات المجتمع ومتطلبات سوق العمل، في ظل توجه كثير من أولياء الأمور إلى استخدام التعليم كوسيلة للتفاخر الاجتماعي والترقي الطبقي واقتناص الوظائف الأعلى دخلاً.

- التمركز حول الغرب: في ظل انهزامية ثقافية وحضارية شاملة، أصبح مقياس تقدم التعليم ورقي مكانته هو مدى تماهيه مع الثقافة الغربية وتلقينها بشكل كلي إلى التلاميذ دون تنقية أو تدقيق، وبغض النظر عن مدى توافق ما تنطوي عليه تلك المناهج الغربية مع الهوية العربية والإسلامية، وانعكاسات ذلك على الفرد والمجتمع ومستقبل الأمة بأسرها.

- خالٍ من العدالة: فإذا كان الهدف تحقيق أعلى إيرادات ممكنة، فإن الفئة الأشد فقراً لن تكون في دائرة اهتمام ذلك التعليم بأي حال، وبذلك يخلق هذا التعليم عدم مساواة، ويكرس تلك الفوارق الطبقية، ويوسع مداها بمرور الوقت، حيث يتخرج الأثرياء في المدارس الاستثمارية ليحصلوا على فرص أفضل من أبناء الطبقات الفقيرة الذين لم يكن أمامهم خيار سوى التعليم الرسمي المتردي، وبزيادة معدل النمو السكاني، يزداد الأثرياء ثراءً ويزداد الفقراء فقراً، بما يهدد مستقبل الدول التي تباعدت فيها الشُّقة بين النظامين التعليميين بازدواجية طبقية قد تخلق عدم استقرار وتوترات شاملة.

- الشكلية: أصبح هدف استرضاء العملاء من أجل تحقيق الأرباح سبباً رئيساً في تركيز التعليم الاستثماري على خلق صورة أفضل في عيون أولياء الأمور، عبر التركيز على الأشياء الأكثر هامشية في العملية التعليمية مثل الأبنية والحفلات والفعاليات، بينما غاب المنهج والمعلم والكفاءة ومتطلبات سوق العمل عن دوائر الاهتمام؛ مما خلق أجيالاً على قدر كبير من الثقافة الغربية شكلاً وليس مضموناً، وبات كثير من الأبناء يتحدثون اللغات الأجنبية بجدارة، لكنهم عاجزون إلى حد بعيد عن تحقيق إضافة علمية وثقافية.

حل معضلة التعليم الاستثماري

ومن أجل تجاوز تلك الأخطار الشاملة، يجدر بالدول والحكومات أن تضطلع بواجبها في التصدي لأخطار التخلي عن ملف التعليم، لا على صعيد مسألة تضييع الهوية وتعميق الانقسامات الطبقية فسحب، بل من حيث مدى أهمية التعليم والإصلاح فيه لتجاوز الأزمات الاقتصادية المُلحة التي باتت تُثقل كاهل الحكومات العربية نتيجة انتشار الجهل والفقر والبطالة.

وفي هذا الإطار، يجدر بأن تتجه الحكومات إلى إعادة تقييم شاملة للمنظومة التعليمية، لا من حيث البنية التحتية أو المناهج فحسب، بل عبر إستراتيجيات واعية يمكن أن تنطوي على عدد من العناصر:

- زيادة الإنفاق على التعليم في إطار من المساءلة والشفافية لضمان وصول الدعم الحكومي للطبقات الأشد فقراً بما يضمن حصولها على فرص مُتكافئة تتكئ على القدرات العقلية ولا تميز بين الأفراد بحسب طبقاتهم الاجتماعية.

- تطوير المناهج عبر الاستفادة من التجارب الناجحة من نقل المنهجية التعليمية القائمة على الابتكار والنقد والتفكير والعمل الجماعي دون التقيد بنقل مضامين مناهج تلك التجارب حرفياً.

- ربط العملية التعليمية بمتطلبات سوق العمل والقطاعات الأشد أهمية في تحقيق النهضة الاقتصادية المأمولة للدولة والمجتمع، بما يسهم في تخريج كفاءات بشرية تمتلك المهارات الكافية لتلبية احتياجات سوق العمل.

- التكامل بين تطوير المناهج والأساليب التعليمية والبنية التحتية في الوقت عينه دون التركيز على عنصر واحد من عناصر العملية التعليمية دون العناصر الأخرى.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة