إعادة إعمار السودان.. استنزاف الموارد وكلفة المستقبل على المواطن والدولة
بعد الانهيار
الاقتصادي الذي شهده السودان نتيجة الحرب المستمرة، واستكمالًا لما تناولناه في
المقال السابق حول اقتصاديات الحرب وانهيار الدولة، يواجه الشعب السوداني اليوم
تحديًا عظيمًا وهو إعادة بناء وطن انهار اقتصادياً واجتماعياً.
وعليه، نستعرض
هنا كلفة الإعمار، والجهات التي ستتحملها، واستنزاف الموارد، مع تسليط الضوء على
أثرها المباشر على حياة المواطن.
ولعل ما يزيد
المشهد تعقيدًا أن جهود الإعمار لا تأتي في فراغ، بل تتقاطع مع واقع معيشي متدهور،
وارتفاع في معدلات الفقر، وانكماش شديد في قدرة المؤسسات الحكومية على إدارة ملفات
الإغاثة والتنمية.
كما أن طول أمد
الصراع أدى إلى تآكل البنية التحتية الأساسية في البلاد من كهرباء ومياه وصحة
وتعليم؛ الأمر الذي يجعل عملية النهوض أشبه بإعادة بناء الدولة من الصفر.
وفي خضم ذلك
كله، يتطلع المواطن السوداني الكريم، المُثقل بأعباء النزوح وفقدان مصادر الدخل،
إلى أي مبادرة أو دعم يمكن أن يعيد له شيئًا من الاستقرار ويمنحه أملاً بعودة
الحياة الطبيعية التي يستحقها.
كلفة إعادة الإعمار المستقبلية
ترتفع تقديرات
كلفة إعادة الإعمار بشكل مستمر، وتزداد حدتها مع كل يوم يطول فيه القتال بين الجيش
السوداني والمليشيات المسلحة، فوفق تقرير الأمم المتحدة السنوي لعام 2023م، أطلقت
الأمم المتحدة وشركاؤها نداءً إنسانيًا بقيمة 4.1
مليارات دولار في خطة الاستجابة الإنسانية وخطة استجابة اللاجئين لعام 2024م
لتغطية الاحتياجات الأكثر إلحاحًا (United
Nations in Sudan, 2024)(1).
هذا الرقم يعكس
تمويل الإغاثة الفوري كالغذاء والمأوى والرعاية الصحية، لكنه لا يمثل تقديرًا
شاملًا لتكلفة إعادة الإعمار الهيكلي الطويل الأجل التي ستحتاج إلى موارد إضافية
كبيرة.
وعليه، فقد
أشارت تقارير إلى أن السلطات السودانية قدرت كلفة إعادة الإعمار بمئات المليارات
من الدولارات، إذ قدرت تكلفة ترميم الخرطوم وحدها بـ 300 مليار
دولار، وبقية البلاد بـ 700 مليار دولار
(Reuters,
2025)(2)، هذا الأرقام تشمل إعادة بناء البنية التحتية، واستعادة
القطاعات الإنتاجية، وبرامج المصالحة الوطنية، ودعم النازحين.
من سيتحمل هذه الكلفة؟
1- المواطن
السوداني: هو الدافع الأول والأخير، من خلال معاناته المستمرة وحرمانه من أبسط
حقوقه الإنسانية لسنوات قادمة.
2- المجتمع
الدولي والمؤسسات المانحة: سيشكل المانحون الدوليون والمؤسسات المالية العالمية
كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، مصدراً رئيسًا لتمويل إعادة الإعمار عبر
المنح والقروض الميسرة، غير أن هذا التمويل غالباً ما يكون تمويلًا مشروطاً ببرامج
إصلاحية تحمل أعباءً اقتصادية واجتماعية، على المواطن السوداني.
3- الدول
الإقليمية ذات المصالح: خاصة مصر ودول الخليج، التي قد تستثمر في إعادة الإعمار
لضمان استقرار المنطقة وحماية مصالحها الإستراتيجية في السودان.
4- الجناة
أنفسهم (مساءلة): من الناحية المرجوة، ينبغي أن تتحمل الأطراف المتحاربة جزءًا من
تكلفة إعادة الإعمار، عبر آليات للمساءلة تتيح استخدام الأموال المجمدة أو الأصول
المصادرة، إلا أن تحقيق ذلك يظل تحديًا كبيرًا من الناحية السياسية.
قال الله عز
وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ
أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن
تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء 135)، يعني ذلك أن أي حل عادل يجب أن يستند
إلى مبدأ القسط والعدالة، مع محاسبة جميع الأطراف دون محاباة وتمييز بين غني وفقير
أو قوي وضعيف.
استنزاف الموارد والأثر المالي المباشر على حياة المواطنين
استنزاف الموارد
ليس مجرد رقم في الميزانية، بل هو هجوم مباشر على حياة المواطن اليومية:
1- استنزاف الاحتياطي من العملة الصعبة:
لقد أدت الحرب المستمرة إلى تآكل الاحتياطي من النقد
الأجنبي بصورة حادة، إذ أوضح تقرير «The Sudan Times, 2025»(3) أن الاحتياطي الأجنبي قد تبخر بالكامل، وأن البنوك
فقدت ما لديها من عملة صعبة ولم تعد تمتلك أي رصيد يمكن الاعتماد عليه.
وهو ما يعكس حجم
الاستنزاف الذي تعرض له القطاع المالي في السودان، وقد أدى هذا الانهيار الكبير في
توفير العملة الصعبة؛ بالتزامن مع وصول الدولار إلى مستويات قياسية في السوق
الموازية، إلى حدوث شُح كبير في السلع الأساسية وارتفاع أسعارها بصورة جنونية
نتيجة تعذر تمويل واردات القمح والوقود والمواد الاستهلاكية الحيوية.
2- انهيار القطاع الزراعي والصناعي:
أدى تدمير المزارع والمصانع إلى:
- فقدان الدخل:
فقد ملايين العمال والموظفين مصادر رزقهم.
- انعدام الأمن
الغذائي: أصبح أكثر من نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، حيث لم
يعد بإمكانهم شراء الطعام الأساسي.
3- الأثر المالي المباشر على المواطن:
الفقر المدقع؛
فقد ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 66% من السكان، وذلك وفقًا لتقرير البنك الأفريقي
للتنمية عام 2022، وهو مؤشر على تدهور شديد في مستوى المعيشة (African Development Bank, 2024)(4)، وهذا المعدل يعكس وضع الفقر قبل اندلاع الحرب، ومن
الطبيعي أن يكون قد ارتفع بشكل أكبر بعد التصعيد الأخير للصراع.
الانهيار الكامل
للقوة الشرائية؛ فلم تعد الرواتب، إن وجدت، تكفي لشراء الطعام ليوم واحد.
والضرائب
والابتزاز؛ حيث فرضت الميلشيات المسلحة في مناطق النزاع رسوماً وضرائب غير رسمية
على المواطنين والتجار عند نقاط التفتيش، أو على أصحاب المركبات التجارية.
فبحسب تقرير
مؤسسة «Tahrir
Institute for Middle East Policy»، فإن هذه
الممارسات كانت جزءًا من اقتصاد الحرب الموازي، حيث أصبحت رسوم المرور أحد مصادر
التمويل للجهات المسلحة، مما شكل استنزافاً مباشراً لأي دخل متبقي للمواطن (Kanu, 2024)(5).
والنزوح السكاني
القهري؛ حيث أدى نزوح أكثر من 8.6 ملايين شخص داخليًا وخارجيًا، وفق تقرير الأمم
المتحدة في السودان (United
Nations in Sudan, 2024)(6)، إلى فقدانهم مساكنهم وممتلكاتهم ومصادر دخلهم؛ ما
حولهم إلى عبء على المجتمعات المضيفة، التي تواجه هي الأخرى تحديات اقتصادية
واجتماعية جمة.
إن الأزمة
السودانية هي مثال صارخ على الآثار التدميرية للنزاعات المسلحة التي لا تقتصر على إزهاق
الأرواح بل تطال أيضاً الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للدولة لسنوات قادمة، حيث إن
اقتصاديات الحرب خلقت دوافع قوية لاستمرار الصراع، بينما جعلت كلفة الدمار وإعادة
الإعمار شبه مستحيلة، فالمواطن السوداني هو من يدفع الثمن من صحته وتعليمه وطعامه
ومستقبله.
وعليه، فإن أي
حل سياسي في المستقبل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تقاسم السلطة بين طوائف الشعب
المختلفة وتفكيك اقتصاد الحرب؛ من خلال فرض عقوبات مالية مستهدفة على شبكات تمويل
الأطراف المتحاربة ومراقبة عمليات تصدير الموارد الطبيعية، ووضع آلية عادلة لإعادة
الإعمار، وضمان مساءلة من استنزفوا موارد البلاد وشعبها الأصيل.
اقرأ أيضاً:
- اقتصاديات الحرب وانهيار الدولة.. الأزمة السودانية بعيون اقتصادية
__________________________
([1])
United Nations in Sudan. (2024, July 21). United Nations in Sudan annual report
2023. https://sudan.un.org/en/274571-united-nations-sudan-annual-report-2023
([2])
Reuters. (2025, May 28). Sudan war shatters infrastructure, costly rebuild
needed. Reuters. https://www.reuters.com/world/africa/sudan-war-shatters-infrastructure-costly-rebuild-needed-2025-05-28/
([3]) The
Sudan Times. (2025, October 2). Sudan’s currency sinks as war drains
reserves and fuels inflation. The Sudan Times. https://thesudantimes.com/sudan/sudans-currency-sinks-as-war-drains-reserves-and-fuels-inflation/
([4])
African Development Bank. (2024). Sudan Country Focus Report 2024. African
Development Bank. https://vcda.afdb.org/en/system/files/report/sudan_final_2024.pdf?utm_source=chatgpt.com
([5]) Kanu,
J. (2024, February 28). In the shadow of conflict: The black markets of Sudan’s
war. Tahrir Institute for Middle East Policy (TIMEP). https://timep.org/2024/02/28/in-the-shadow-of-conflict-the-black-markets-of-sudans-war/
([6]) United Nations in Sudan. (2024, July 21). United Nations in Sudan annual report 2023. https://sudan.un.org/sites/default/files/2024-07/United%20Nations%20in%20Sudan%20Annual%20Report%202023-D5.pdf