الانتماء الأسري في فكر «النسوية الإسلامية»

د. عمرو نافع

17 سبتمبر 2025

110

النسوية الإسلامية ليست تيارًا واحدًا، بل مجموعة من القراءات المختلفة للقرآن والسُّنة من منظور «جندري»، ورغم تنوعها، نجد بعض الملامح المشتركة بينها، وهي رد فعل للظاهرة الأصلية؛ وهي النسوية وعالمها المادي.

وبرغم أن إعادة تفسير النصوص أصبحت شيئًا مهمًا في عالمنا المعاصر، وهو شكل من أشكال الاجتهاد العصري لفهم واقع الاجتماع الديني، فهناك فروق بين أفكار النسوية العادية والإسلامية، إن جاز التعبير؛ فالأخيرة تنظر إلى الأسرة باعتبارها مؤسسة يمكن أن تعيد إنتاج الهيمنة الذكورية.

لذلك، يذهب بعضهن إلى تأويل آيات القوامة والميراث والنفقة على أنها أحكام مرحلية أو مرتبطة بسياق تاريخي يسهل الاجتهاد فيه، ويصل الشطط بالبعض للقول بأن منظومة الأسرة عفى عليها الزمن ويجب التخلص منه.

الفردانية في الفكر النسوي

«النسوية الإسلامية» منظومة أفكار تعمل على تفكيك الأدوار التقليدية في الفكر الإسلامي نحو المرأة، وتقدم دور المرأة كأُم أو زوجة على أنه خيار فردي وليس واجباً فطرياً، في محاولة لنزع الطابع الإلزامي عن الانتماء الأسري.

هنا مكمن الخطورة في مفهوم «النسوية الإسلامية»؛ وهي ترسيخ مفهوم الفردانية، فالأسرة في هذا الفكر تُختزل أحيانًا إلى مجرد رابطة تعاقدية يمكن تعديلها أو إنهاؤها بسهولة، مقابل التركيز على استقلالية الفرد (المرأة) بوصفها الغاية الأولى والمحرك الأساسي في هذه الغاية.

على المستوى الاجتماعي، كثير من النسويات الإسلاميات لا ينكرن أهمية الأسرة، لكنهن يطالبن بإعادة هيكلتها لتصبح شراكة متساوية قائمة على التفاوض المستمر، لا على ثوابت شرعية يتحكم في فهمها الرجال أو المؤسسات الدينية المهيمنة على المجتمع الإسلامي.

فـ«النسوية الإسلامية» المقصودة هنا هي رد الفعل بثوب إسلامي منبطح بشكل كبير أمام الرؤية الغربية النسوية بشكل كبير، غير مفهوم التيارات النسائية التي ترى دعم تشريعات المرأة المسلمة وفق تصورات وهوية المجتمعات الإسلامية.

الحط من أدوار الزوجة والأم

في بعض الكتابات، يتم تصوير الزواج التقليدي كإطار يقيّد حرية المرأة، في حين يُنظر إلى الأمومة على أنها عبء إذا لم تُختر بإرادة فردية، هذا الفكر انعكس على الواقع العملي في بعض المجتمعات، فبدأت بعض النساء يطالبن بمقابل لخدمة الأسرة أو أن يدفع الزوج مقابل للاستمتاع بالمرأة، أو أنه غير مطالب بعلاجها إذا مرضت أو تعرضت لحادثة مثلاً، ومن هنا، ارتفعت نسب الطلاق، وانتشرت نماذج الأسرة الهشة، وصعد خطاب الانتماء الهوياتي الفردي بديلاً عن الانتماء الأسري.

فالمطالبة بإعادة تعريف الزواج والأمومة والأبوة، وجعل لها أدوارًا اجتماعية اختيارية وليست طبيعية أو فطرية، تشير إلى تفكيك الرابط الأسري من الأساس، وزيادة معدلات انهيار منظومة القيم، وتراجع مكانة الأمومة، وانتشار نماذج أسر بديلة (كالأسر أحادية الطرف).

يُبرز أيضًا أن الخطاب النسوي قدّم التحرر الفردي على حساب الانتماء الأسري الطبيعي؛ ما ساهم في أزمة الهوية لدى الأجيال الجديدة، كما يوضح أن تأثير النسوية امتد إلى التشريعات والسياسات العامة في الغرب، حيث دفعت إلى تقنين المثلية، وتوسيع إسقاط قيمة العائلة، وإضعاف المرجعيات الدينية والأخلاقية.

مذاهب ومدارس النسوية الإسلامية

«النسوية الإسلامية»، ليست مدرسة واحدة أو لها منهج موحد، بل هي تيارات فكرية متنوعة نشأت في أواخر القرن العشرين، تحاول أن تجمع بين المرجعية الإسلامية (نصوص القرآن والسُّنة) وأدوات النقد النسوي الغربي (الجندر، نقد السلطة الأسرية، التأويل البديل للنصوص)، ويمكن تقسيمها إلى مدارس رئيسة مع إلقاء الضوء على أبرز شخصياتها:

أولاً: النسوية التأويلية (Hermeneutical Feminism):

تركز هذه المدرسة على إعادة قراءة النصوص الشرعية (خاصة القرآن) من منظور نسوي، وتعيد تفسير الأحاديث التي تقترب من مزاجهن العام بزعم أن التفاسير التراثية تأثرت بسلطة ذكورية أو تأويلات فاسدة من رجال الدين.

وأبرز شخصيات هذه المدرسة:

  • أمينة ودود: أمريكية من أصول أفريقية، صاحبة كتاب القرآن والمرأة، عُرفت بقراءتها الجندرية للقرآن، وقامت بإمامة المسلمين في صلاة الجمعة والجماعات عام 2005م؛ ما أثار حفيظة العديد من التيارات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي.
  • فاطمة المرنيسي: مغربية، اشتغلت على نقد الحديث النبوي وخاصة حديث القوامة، وربطت بين السلطة السياسية والأبوية، بشكل يناظر تأثير رجال الدين في العصور الوسطى أو طريقة اليهود في التعامل مع النساء أثناء فترات الحيض والنفاس.

ثانيًا: نسوية ما بعد الاستعمار (Post-colonial Islamic Feminism):

تركز هذه المدرسة على نقد الهيمنة الغربية على قضايا المرأة المسلمة، وترى أن الاستعمار أهان النساء في الدول التي استعمرها، وخاصة الاستعمار الإيطالي والإنجليزي في العالم العربي، وتأكيد أن النسوية الإسلامية بديل عن النسوية الغربية.

وأبرز الشخصيات:

  • شهرزاد مجاب: إيرانية مقيمة في كندا، تركز على نقد الاستعمار وأثره على المرأة المسلمة.
  • عزيزة الهبري: لبنانية أمريكية، أستاذة قانون، تدعو إلى تجديد إسلامي يواكب الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ثالثًا: النسوية الحركية (Activist Islamic Feminism):

تركز هذه المدرسة على عمل المرأة وتشريعات حمايتها بجانب العمل الميداني والتشريعي في المجتمعات الإسلامية للمطالبة بحقوق المرأة، مع الحفاظ على خطاب إسلامي.

وأبرز الشخصيات:

  • هالة الأنصاري: ناشطة بحرينية، تشتغل على قضايا تمكين المرأة في إطار إسلامي وحمايتها أثناء فترات الطلاق والعمل والإنجاب.
  • أسماء برلاس: باكستانية أمريكية، صاحبة كتاب قراءة القرآن من منظور نسوي، وهي معروفة بأدائها المبالغ فيه في وصف بعض الآيات والأحاديث بعدم الفهم العصري ومكوناته الحضارية.

رابعًا: النسوية الحقوقية (Rights-based Feminism):

انتشرت مؤخرًا هذه المدرسة في عالمنا العربي، وتسعى إلى توظيف مبادئ الشريعة في تعزيز المساواة القانونية بين الجنسين.

وأهم الشخصيات:

  • زيبا مير حسيني: إيرانية، متخصصة في الفقه المقارن، تدعو إلى إصلاح قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية بما ينسجم مع المساواة الجندرية.
  • ليلى أحمد: مصرية أمريكية الجنسية، رائدة في دراسات المرأة في الإسلام، صاحبة كتاب «المرأة والجندر في الإسلام»، وأسست بعض المراكز الحقوقية.

الحقيقة الأولى أن كل هذه المدارس تنطلق من أدوات غربية (الجندر، النقد الأبوي، الفردانية) وتُسقطها على النصوص الإسلامية؛ ما يؤدي إلى تأويلات بعيدة عن مقاصد الشريعة، وكثير منها تأويلات فاسدة.

والحقيقة الثانية أن معظم الدعاة والمصلحين في عصرنا لا ينكرون أبدًا وجود ظلم اجتماعي للمرأة، لكنه يميز بين النقد المشروع للعادات المخالفة للشريعة، وتحريف النصوص لتوافق مقولات المساواة المطلقة.

فالشرعية الإسلامية تؤكد التكامل لا الصراع؛ (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 228).

أثر النسوية على الأسرة والمجتمع

تقترب النسوية الإسلامية من المفهوم الأحادي لتفسير المفهوم العلماني الذي يطرحه دعاة تحرير المرأة وفقه «الغربنة»، وهنا لا تكتفي النسوية بالمطالبة بالحقوق، بل ذهبت إلى إعادة تعريف الزواج والأمومة والأبوة، فجعلتها أدوارًا اجتماعية اختيارية وليست طبيعية أو فطرية، ومن هنا نشأت ظواهر العنف والانفصال داخل الأسرة، وصولاً لتحويل المرأة لطرف في صراع بعد أن أصبحت فاعلاً ثورياً في قضايا الميراث وقضايا المساواة بالرجل، بعد توصيف الأسرة والدولة بمؤسسات أبوية قمعية!

هكذا أصبحت الفلسفة النسوية المعاصرة (منذ سيمون دو بوفوار) قطيعة مع التصور الفطري للدور التكميلي بين الرجل والمرأة، واعتبرت الدين والتقاليد أدوات قمع وأباحت الفوضى والإباحية تحت شعار حقوق المرأة.

إن ديننا الحنيف يرفض تمامًا تبرير العنف ضد المرأة، ويجعل القاعدة في علاقة المرأة والرجل هي التراحم والعدالة، والسبيل لإحياء حقوق المرأة ليس الحلول التلفيقية الغربية، وإنما في مشروع إسلامي إصلاحي لما جنته أيدي المجتمع والعادات الظالمة على النساء المسلمات في الأسرة والمجتمع.

اقرأ أيضاً:

التأويل النسوي للقرآن الكريم

الأكاديمية الأردنية رولا الحيت لـ«المجتمع»: شرطان للقبول بـ«النسوية الإسلامية»

كيف يتعامل المربُّون مع أطروحات النسوية الإسلامية؟


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة