التوازن ركيزة أساسية في الإسلام

للإسلام خصائص
عامة عظيمة ومتنوعة، كالعدل، والإنصاف، والرحمة، والشمول.. ومن أهم هذه الخصائص
التوازن بمفهومه العام وفي شتى المجالات، بين شؤون الدين والدنيا ابتداءً، بين
المادة والروح، بين العقل والعاطفة، بين الفرد والمجتمع، بين الحاكم والمحكوم.. وهذا
هو موضوعنا الذي نتناول فيه أهم جوانب التوازن وصوره في ديننا الحنيف؛ استقاءً من
كتاب ربنا، وسُنة نبينا، ثم منهج صحابته الكرام، وأقوال علمائنا الربانيين.
- توازن
بين الفروض والواجبات وبين حدود الاستطاعة وعدم المسؤولية عن النتائج:
فمن ناحية
يأمرنا الإسلام بالنهوض بواجباتنا ومسؤولياتنا والمداومة على الصالحات الباقيات، (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ
عَمَلَكُمْ) (التوبة: 105)، (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) (الكهف: 110).
ومن ناحية أخرى،
لا يكلفنا الله بما هو أكثر من طاقتنا: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، وأيضاً قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: 16).
كذلك لا
يحمّلنا، سبحانه مسؤولية ضلال غيرنا: (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: 105).
فالإسلام يأمرنا
فقط بالقيام بما نستطيعه؛ أي استفراغ الجهد، لا أكثر، حتى في أوقات الحروب والصراعات
بين الحق والباطل، إذ ليس على المسلمين، بعد التوكل على الله والتأكد أنهم على
طريق الحق، سوى أن يأخذوا بأسباب النصر قدر استطاعتهم؛ تخطيطاً وتدريباً وعُدةً
وعتادًا، وليس قدر إمكانات عدوهم ولا ما يفوق قدرتهم أنفسهم، وفي هذا يقول الله
تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، كما أنه ليس على المسلم الفرد سوى أن يقف دائماً في
خندق الحق، باذلاً قصارى جهده في حدود استطاعته، ثم لا يضيره بعد هذا متى وكيف
ينتصر الحق، وما إذا شهِده في حياته أم لم يعاينه، فإن أدّى ما عليه فقد انتصر هو
لنفسه ودينه ونجا.
ومن الأهمية
بمكان أن نشير في هذا السياق إلى أن تأخر الانتصار والتمكين عن الفئة المؤمنة
المجاهدة، في كل عصر ومصر، والتي أخذت بأسباب الحرب والنصر حسب إمكاناتها، ليس
دليلاً على خطأ المسار، ولا يصح أن يُتخَذ حجة على المجاهدين في هذه الحالة، فحتماً
يكون هذا التأخير لحكمة أرادها الله سبحانه.
وحتى تغيير
المنكر، بما له من أهمية كبرى في الإسلام، فليس على المسلم سوى تغييره بما يملك
وحسبما يستطيع، بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، كما ورد في التوجيه النبوي الذي يجسّد
التوازن بين الواجب والمستطاع خير تجسيد.
- توازن
بين ضرورة العمل والسعي لتحصيل الرزق وبين الإيمان والتوكل:
معلوم أن الرزق
بيد الله تعالى، ومعلوم أيضاً أن الإيمان بهذا المعنى جزء لا يتجزأ من إيمان العبد
بخالقه، والآيات التي تدعو إلى التوكل على الله متعددة، سواء في مسألة الأرزاق أو
غيرها، ومن ذلك، على سبيل المثال قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق).
ومع هذا يحثّ
الإسلام على السعي والأخذ بأسباب الرزق، ويُعلي من قيمة العمل، ومن هذا، على سبيل
المثال أيضاً، حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَة حيث قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم رَجُلٌ فَرَأى أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ
جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ فَقَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي
سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ خَرَجَ
يِسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَاراً فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ
يَسْعَى عَلَى أَبَوُيْنِ شَيْخَينِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ
كَانِ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعفَّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ
خَرَجَ رَيِاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَان» (رواه الطبراني).
- توازن
بين العقل والعاطفة:
نبينا صلى الله
عليه وسلم الذي كان يتغير وجهه إذا انتُهكت حرمات الله، ولا يقبل التهاون في دينه،
ورفض الشفاعة في الشريف الذي ارتكب ما يوجب الحد، هو نفسه الذي كان يُعرِّض ثوبه
للمطر؛ لأنه حديث العهد بربه، كما في ورد في الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك:
أَصَابَنَا وَنَحْنُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَطَرٌ، قالَ:
فَحَسَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ثَوْبَهُ، حتَّى أَصَابَهُ
مِنَ المَطَرِ، فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ صَنَعْتَ هذا؟ قالَ: «لأنَّهُ
حَديثُ عَهْدٍ برَبِّهِ تَعَالَى».
- توازن
بين القوة والرحمة والتواضع والعزة:
النموذج الأول
الأوضح في الجمع بين القوة والرحمة، هو بطبيعة الحال سيدنا محمد صلى الله وسلم، فقد
كان قوياً في الحق مقداماً في ساحات الوغى دفاعاً عن الدين وأبنائه، حتى إن
الصحابة الكرام كانوا يحتمون به إذا حميَ وطيس المعارك، ومن ذلك ما رُوي عن البراء
بن عازب أنه قال: «كُنَّا وَاللَّهِ إذَا احْمَرَّ البَأْسُ نَتَّقِي به، وإنَّ
الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي به، يَعْنِي النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلَّمَ».
ومع هذا كان
يفيض رحمة وشفقة تُلحظ في أفعاله وأقواله كافة، فحينما وقعت الشيماء بنت الحارث،
أخته في الرضاعة، في السبي لدى المسلمين يوم هوازن، إذ لم تكن قد دخلت الإسلام
بعد، استغاثت به فذهبوا بها إليه صلى الله عليه وسلم، وقالت له: إنه أخته وذكّرته
بعلامةٍ عرفها، لأنها كانت تغيرت وكبرت بعد آخر مرة رآها فيه، فرحب بها، وبسط لها
رداءه، وأجلسها عليه، ودمعت عيناه، كما أنه، ومع جسامة أعبائه وضخامة مهامه، اهتم
بأن يواسي طفلاً فقَدَ عصفوره.
ولا غرو أن نجد
هذه المعاني السامية متجسدة في أفعال صحابته الميامين الذين تربوا بين يديه، فها
هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعروف بقوته وحزمه وشدة بأسه، الذي كانت
جيوشه تدك معاقل القياصرة والأكاسرة، ها هو يبكي لأنين طفل لم تجد أمه ما ترضعه به
أو ما يسد رمقه.
إنه التوازن في
أبهى صوره؛ عمل في حدود الاستطاعة، وإيمان في غير تواكل، وقوة في غير قسوة، ورحمة
ولين في غير ضعف أو إسراف، وتواضع في غير مذلة، وعزة في غير تكبر، وإنفاق في غير
إسراف، واقتصاد في غير شح أو تقطير، نظام عميق دقيق من لدن العليم الحكيم الخبير
جلّ في علاه.