الخطاب الصهيوني المراوغ (4 - 4)

10. تَرْك فراغات كثيرة ومساحات خالية بين العناصر المختلفة، وعدم رَبْط المقدمات بالنتائج:

يعمد الخطاب الصهيوني إلى ترك فجوات واسعة بين العناصر المختلفة وبين المقدمات والنتائج، فيذكر النتائج دون المقدمات والمقدمات دون النتائج. وقد تُركت هذه المساحات خالية وجرى التزام الصمت حيال بعض النقاط عن عمد، لأن ملأها والإفصاح عنها قد يكشف أهداف الصهاينة في مرحلة مبكرة قد لا يَحسُن الكشف عنها مرحليًا (وهذا تكتيك معروف في عالم السياسة، فبعد أن ضمت بروسيا الألزاس واللورين، كان شعار أهل هاتين المنطقتين من الفرنسيين هو: لا تتحدث عنهما قط، ولا نكف عن التفكير فيهما قط).

وكما قال بن هالبرن (مؤرخ فكرة الدولة اليهودية): اتفق يهود اليديشية ويهود غرب أوربا على ضرورة الصمت بشأن فكرة السيادة اليهودية والطرق السياسية لتحقيقها. وكتب هرتزل في يومياته «يجب ألا يُكشَف كل شيء للجمهور، يجب كشف النتائج وحسب أو ما قد يحتاج المرء لكشفه في مناقشة ما»! وحذر آحاد هعام من الإفصاح العلني عن (آرائنا) بشأن مستقبل فلسطين، فلا يزال (حينذاك) يشكل خطرًا مادام مستقبل تركيا لم يتقرر بعد. وحينما نُوقشت قضية مصطلح (الدولة) في المؤتمر الصهيوني الأول، واستُخدم مصطلح (وطن قومي)، طمأن هرتزل الجميع قائلًا: لا داعي للقلق فسوف يقرؤه الناس (دولة يهودية) على أية حال، ولا داعي لتوخي الدقة لأن الكل يعرف المطلوب في الممارسة، ولا يوجد أي مبرر لجعل مهمة اللجنة التنفيذية أكثر صعوبة مما هي عليه بالإصرار على الدقة. ومعنى قوله هو: كلنا نعرف القصد الصهيوني الصامت، ونعرف الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المهوَّدة، وقد قررنا الالتزام بهما ولكن لا داعي للإفصاح عنهما.

ولا يلتزم بعض المتطرفين أحيانًا بعملية الصمت وعدم الإفصاح كما حدث مع جابوتنسكي إبان فترة الانتداب حين أصر على أن يُكتَب اسم «إرتس يسرائيل» كاملًا على العملة، وكان لا يكف عن المطالبة بأن يُعلَن صراحةً أن هدف الصهيونية هو إنشاء دولة يهودية على ضفتي الأردن. ولكن القيادة العمالية الحصيفة اكتفت بالحرفين الأولين E.I. فهما يشيران إلى الحد الأدنى الصهيوني.

وهناك حادثة طريفة تبين التصادم نفسه بين من يلتزمون الصمت ومن يحاولون كشفه، ففي إحدى الحملات الانتخابية في «إسرائيل»، أشار إسحق نافون إلى العرب باعتبارهم (إخوته) وهو يعني في واقع الأمر أنهم (أعداؤه)، وكل ما في الأمر أنه يحاول خداعهم حتى يحصل على أصواتهم الانتخابية. وحين اعترض بعض السامعين من «الإسرائيليين» على إشارته الأخوية للعرب صاح نافون: أنتم عباقرة! أنتم ديبلوماسيون! ألا تفهمون؟ إنها مسألة رياضية بسيطة، إن هدف البرنامج العمالي الصهيوني هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الأرض وأقل عدد ممكن من العرب.

وهكذا، فلابد من التخلص من العربي، هذا ما يقوله البرنامج العمالي دون إفصاح، أما حكاية الأخوة هذه فهي دعاية انتخابية.

11ـ التأرجح المستمر والمتعمد بين أعلى مستويات التعميم والتجريد وأدنى مستويات التخصيص:

يحاول الصهاينة أن يتحركوا من أعلى مستويات التعميم والتجريد إلى أدنى مستويات التخصيص حسبما تمليه عليهم الاعتبارات البرجماتية. فحين يكون الحديث موجهًا إلى اليهود وإلى الرأي العام في الغرب، فإنه يكون عن أرض الميعاد المقدَّسة وحق اليهود الأزلي فيها والوعد الإلهي الذي ورد في العهد القديم. وهناك الحديث عن النفي إلى بابل والعودة منها كنمط أزلي متكرر وعما لحق باليهود من اضطهاد... إلخ. ولكن، إلى جانب ذلك، هناك الحديث الموجه إلى العرب عن ضرورة تناسي الماضي ومحو الذاكرة والتركيز على الحاضر وعلى التفاوض وجهًا لوجه، ودراسة التفاصيل المباشرة والإجراءات والعائد الاقتصادي. وبدلًا من الحديث عن صهيون، يكون الحديث عن سنغافورة كمثل أعلى يُحتذى، وبدلًا من الحديث عن رؤى الأنبياء يكون عن مشاريع الاستثمار، وبدلًا من الحديث عن البلاد والأوطان يكون الحديث عن الفنادق والكازينوهات، وبدلًا من ارتداء ثياب المعارك يكون التركيز على آخر الموضات والمايوهات.

وبطبيعة الحال، يمكن استخدام الخطاب النفعي الإجرائي حين يتوجه الصهاينة إلى الحكومات الغربية طلبًا للمعونات إذ يسقط الحديث عن صهيون والأراضي المقدَّسة بطبيعة الحال، ويكون الحديث عن العائد الإستراتيجي العسكري والاقتصادي للدولة الصهيونية الوظيفية المملوكية.

ويظهر هذا التأرجح بين أعلى درجات التعميم وأقصى درجات التخصيص في الطريقة التي يُنفَّذ بها شعار (الأرض مقابل السلام)، فرغم أن الأرض أمر محدد إلا أنها تدريجيًا تحوَّلت إلى مفهوم شديد العمومية، على عكس السلام، الذي تحوَّل من كونه مفهومًا عامًا إلى مجموعة محددة من الإجراءات الاقتصادية والأمنية المادية الصارمة.

12ـ أيقنة بعض الدوال والعبارات:

من الحيل الصهيونية الأساسية ما نسميه (أيقنة) المصطلح أو العبارة، أي تحويل المصطلح إلى ما يشبه الأيقونة، بحيث يصبح المصطلح مرجعية ذاته وتُختزل الحقيقة المركبة إلى مثل هذه الأيقونة التي لا تقبل المناقشة أو المراجعة أو الدراسة أو التساؤل. وهذا ما حدث بعض الوقت لعبارة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» ولعبارة «المفاوضات وجهًا لوجه». وفي الوقت الحاضر، ظهرت مصطلحات مثل «عملية السلام» و «السلام مقابل الأرض».

ولعل من أهم العبارات المتأيقنة عبارة «ستة ملايين يهودي» التي يُفترض أنها تشير إلى عدد ضحايا الإبادة النازية من اليهود، وأصبح مجرد التساؤل عن مدى دقة هذا العدد شكلًا من أشكال الكفر يُسمَّى «إنكار الإبادة».

13ـ إشاعة بعض الصور التي تختزل الواقع:

وترتبط بالأيقنة محاولة إشاعة بعض الصور المجازية التي تختزل الواقع وتترجمه إلى أطروحة صهيونية، فرغم أن «إسرائيل» من أكثر الدول تسلُّحًا وشراسة وقوة عسكرية، فإن الصورة التي تُشاع يجب أن تكون صورة «إسرائيل» صاحبة الحق المسالمة التي تدافع عن نفسها. وقد تمت ترجمة هذا كله إلى صورة داود وجالوت المجازية، بحيث أصبحت «إسرائيل» داود الصغير الذي لا يوجد معه سوى مقلاع ضد جالوت المدجج بالسلاح والذي يُهاجم داود الصغير بشراسة (ومن الطريف أن الانتفاضة قلبت الأمور رأسًا على عقب، إذ إن الفلسطينيين كانوا هم المسلحين بالمقاليع، أما «الإسرائيليون» فكانوا هم جالوت المدجج بالسلاح).

ومن الصور الأخرى التي تمت إشاعتها صورة «إسرائيل» باعتبارها واحة الديموقراطية الغربية (الأمر الذي يتطلب إخفاء كل ما تقوم به من عمليات قمع وإرهاب) ونموذجًا للإنتاجية والكفاءة (الأمر الذي يتطلب إخفاء المساعدات الغربية التي تصب في هذا المجتمع).

____________

كتاب (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية)


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة