الخلاف المذهبي وأثره على التحالفات في سياق المقاومة الإسلامية


تعد التحالفات السياسية والعسكرية بين المجاهدين من أهل السنة وبين من يخالفهم من غير أهل السنة التي لا تكون من قبيل الولاء ولا من أجل نشر بدعة ما أو تسهيل ذلك أو تمكينه من قبيل التدبير السياسي الشرعي، وهي بشكل أدق من التدابير في السياسة الخارجية، وهذا يعني بأنها من القضايا الفقهية العملية وليست من الأحكام العقدية النظرية وذلك لأنها تدخل تحت دائرة أفعال المكلفين وتصرفاتهم، ولكي نبين أحكام التحالف بين حركات المقاومة الإسلامية السنية وبين دول أو أحزاب أو جماعات من المسلمين من غير أهل السنة لا بد أن نجيب عن بعض الأسئلة:

هل هذه المسألة من المسائل القطعية، أو من تلك التي لا تحتمل التأويل، أم هي مسألة ظنية تحتمل التأويل؟ وهل ورد فيها خلاف فقهي، وهل هنالك سوابق تاريخية لها يمكن الاسترشاد بها، وهل هي من المسائل المستجدة التي تحتاج إلى اجتهاد أم ليست كذلك؟

فنقول: إن التحالفات السياسية والعسكرية ما هي إلا نوع من المعاهدات، وقد وردت جملة من النصوص تدل على مشروعية التحالف، منها ما رواه البيهقي في سننه عن طلحة بن عبد الله بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمرَ النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت"[1] وأخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "كانت خزاعة حلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر، رهط من بني كنانة، حلفاء لأبي سفيان"[2]، وقد كان أكثر خزاعة من المشركين، فهذان الحديثان يدلان بوضوح على مشروعية التحالف بين المسلمين وغيرهم، حتى وإن كانوا مشركين، وبناء عليه فإن أحكام التحالف تدخل في دائرة الأحكام الظنية.

وقد ورد في حكم التحالف مع أهل البدع خلاف بين الفقهاء، فقد قال الحنفية بإباحة الاستعانة بهم حيث قال الإمام السرخسي: "ولا بأس بأن يستعين أهل العدل بقوم من أهل البغي وأهل الذمة على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل ظاهرا؛ لأنهم يقاتلون لإعزاز الدين"[3].

وذهب الحنابلة إلى تحريم الاستعانة بالفرق التي يقوم أصحابها بالدعوة إليها، قال ابن مفلح: "تحرم الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين لأنهم أعظم ضررا لكونهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى"[4]

ولم ينص كل من المالكية والشافعية على حكم هذا التحالف، وإن كان يفهم من كلامهم الذي يدور حول التحالف مع أهل الذمة أو المشركين ضد المشركين، فالمالكية يرون أنه لا يباح إلا للضرورة، أما الشافعية فيرون أنه يباح للحاجة الماسة بشرط كون الغلبة للمسلمين.

وقد حفل التاريخ الإسلامي بصور -وإن كانت قليلة - من التحالف والتعاون بين أهل السنة وغيرهم من أهل الفرق الإسلامية الأخرى، من ذلك ما حصل من الدعوة من قبل فخر الملك بن عمار أمير طرابلس التابع للفاطميين إلى تشكيل حلف إسلامي يقف في وجه الصليبيين -وذلك بعد محاولات حثيثة منه لكسب ود الفرنجة وتقديم الهدايا والفدية المالية الباهظة والأدلاء في طريقهم إلى القدس[5]، لكنهم مع كل ما بذله لهم جاؤوا وحاصروا طرابلس وعندها راسل ابن عمار ياخز خليفة جناح الدولة ملك حمص وملك دمشق دقاق بن تتش، وهما من أمراء أهل السنة، ثم ذهب بنفسه إلى بغداد لطلب التحالف مع الخلافة العباسية والسلاجقة، لكنهم تأخروا عن نجدة طرابلس فسقطت بأيدي الصليبيين[6]، وقد استعان القاضي أبو الفضل ابن الخشاب بعد توليه السلطة في حلب وهو أمير فاطمي بأمير ماردين نجم الدين إيلغازي وهو من أهل السنة من أجل تخليص حلب من الحصار الذي ضربه صليبيو إمارة أنطاكيا عليها وقد فعل ذلك. وكذلك ما حصل من استعانة الفاطميين في مصر بنور الدين زنكي لمواجهة الصليبيين -وإن كانت هذه الاستعانة مصحوبة بألاعيب وخيانة من الفاطميين -لكنها أدت في النهاية إلى سيطرة صلاح الدين الأيوبي على مصر، وفي العصر الحديث نستذكر ما قامت به جمعية العلماء المسلمين في الجزائر وقادة الثورة الجزائرية المجيدة الذين تلقوا الدعم والنصرة من الصين الشيوعية التي تقتل المسلمين في الوقت ذاته، ولا يعدّ فعلهم هذا ولاء للصّين ولا رضىً قلبيًا أو سلوكيًّا بمعتقداتها الشيوعيّة أو بقتلها إخوانهم من المسلمين، ومثله عندما دعم الأمريكيون المجاهدين الأفغان في الثمانينات لاستنزاف الاتحاد السوفيتي.

وعليه فهل هذه المسألة من المسائل المستجدة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد أم ليست كذلك؟ فنقول: إنّ مما يدخل في المسائل المستجدة المسائلَ التي بين الفقهاء حكمها، لكن تغيرت الظروف والأحوال والأعراف المتعلقة بها، وبناء على ذلك فإن هذه المسألة من المسائل المستجدة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد، يستفاد فيه من آراء الفقهاء السابقين من حيث التكييف والتخريج ويسترشد فيه بالسوابق التاريخية في تصوير المسألة، ولا بد أن يضاف إلى ذلك موازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على هذا التحالف.

أما صورة المسألة:

فهي عبارة عن تحالف سياسي وعسكري بين حركات المقاومة الإسلامية السنية في فلسطين خصوصا وبين دولة أو حزب أو جماعة تنتسب إلى فرقة من غير أهل السنة، وهذا التحالف متعلق بهدف مشترك واحد هو مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، مع التأكيد على عدم تأثر هذه الحركات ولا حاضنتها الشعبية بفكر هذه الفرق أو اعتقاداتهم بل مع إنكارهم لأفعالهم في البلدان الأخرى وعدم الرضى بها، فالعلاقة سياسية محضة ولا أثر لها بنقل اعتقادات تلك الفرق.

وقد انبنى على هذا التحالف إسناد لا يمكن إنكاره خصوصا في معركة طوفان الأقصى وما يزال هذا الإسناد مستمرا، خصوصا من جبهة اليمن في وقتٍ اتسم حال العالم الإسلامي السني بالخذلان.

أما تكييفها: فهي صورة من صور المعاهدات في الفقه الإسلامي، فالمسألة فقهية ظنية ينظر إليها من منظار الموازنة بين المصالح المجتلبة، والمفاسد المندفعة، مع التأكيد على كون الأصل فيها المنع إن لم تكن هنالك حاجة.

أما تخريجها: فإذا خرجناها على قول الحنفية فنقول بإباحتها، وإذا خرجناها على قول الشافعية فيكون الحكم فيها الإباحة للحاجة الماسة، بشرط أن يكون لأهل السنة الغلبة، أما إذا خرجناها على قول الحنابلة فسيكون عندها الحكم التحريم، أما على قول المالكية فسيكون الحكم بالإباحة للضرورة.

أما الموازنة بين المصالح والمفاسد: فقد ظهر لكل ذي عينين عدد من المصالح العظيمة التي جلبها هذا التحالف، والتي منها تقوية المقاومة وإمدادها بالسلاح والتدريب العسكري ونقل الخبرات العسكرية، وهي مصلحة ضرورية عامة واقعة متعلقة بحفظ الكليات جميعها، وإمداد المقاومة بالمال وهي مصلحة ضرورية عامة واقعة متعلقة بحفظ المال، فضلاً عن إسناد المقاومة بشكل فعلي وإشغال ما يقارب نصف جيش العدو وإرباكه، وهي مصلحة ضرورية عامة متعلقة بالكليات جميعها، أما المفاسد فمنها ظهور تصريحات فيها تجاوز من قادة المقاومة في الثناء على قيادات هذه الفرق غير السنية، وهذه مفسدة قد تصل إلى درجة الإخلال بالحاجي العام الواقع المتعلق بالدين، وتحسين صورة هذه الجهات بعد ارتكابها للمجازر والتقتيل لأهل السنة في العراق وسوريا وغيرهما، وهذه مفاسدُ مخلة بالحاجي العام الواقع المتعلق بالدين، والخشية من التأثر بفكر هذه الفرق واعتقاداتها وهي مفسدة مخلة بالضروري العام المتوقع المتعلق بالدين.

وإذا قمنا بإجراء موازنة سريعة بين كل من المصالح والمفاسد فإننا نجد أن كفة المصالح أرجح بكثير، ومن ثَمَّ فالراجح في هذه المسألة إنما هو القول بالإباحة إذا وجدت الحاجة العامة الماسة، وهو الحاصل في قضية فلسطين مع انعدام النصير السني إلى هذه اللحظة، وعندما نقول بأن الإباحة للحاجة فهي تقدر بقدر وجود الحاجة والحاجة أوسع بكثير من حالة الضرورة، ولا بد أن نشيرَ إلى ضرورة معرفة قيادات المقاومة بدقائق الخطاب الشرعي العقدي والأصولي من أجل ضبط الخطاب الإعلامي لتقليل المفاسد المترتبة على هذه التحالفات والوصول إلى حالة غياب المفسدة كلياً.

 

 



[1] السنن الكبرى، 6/ 376، وإسناده مرسل، لكن له شاهد حسن من رواية عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه

[2] صحيح ابن حبان، 13/ 340

[3] المبسوط، 10/ 134

[4] المبدع في شرح المقنع 3/ 306

[5] أقول بأن التاريخ يعيد نفسه فهاهم الصهاينة اليوم يصرحون ليل نهار بأنهم سيحتلون البلاد التي يطبعون معها، ولا يقيمون وزنا لعهد أو اتفاق.

[6] تاريخ آل سلجوق، 175.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة