في قول النبي "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"

الرابط الإيماني والاجتماعي بين شكر الله وشكر الناس

شكر الله تعالى واجب في كل شيء، وعلى كل حال وشكر العبد لله يكون بالقيامِ بعُبوديَّتِه وطاعتِه وَحْدَه، وأداءِ حُقوقِه، قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (لقمان: 14)، والشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة، وباللسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا.

شكر الله.. طريق الزيادة

وقد أخبرنا ربنا عز وجل أن شكره سبب للمزيد من النعم، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، ومعنى تأذن: يعني أعلم، وأخبر عباده بذلك.

 وقد علّمنا رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن شُكر اللهِ عزَّ وجلَّ يستوجب شكر الناس على معروفهم ومكافأتهم، والاعتراف بفضلهم، جاء ذلك في حديثه الجامع الذي أخبرَنا به الرَّبِيعُ بنُ مُسْلِمٍ، قال: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ زِيادٍ عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من ‌لا ‌يَشْكُرِ النَّاسَ، ‌لا ‌يَشْكُرِ الله» (رواه الترمذي: 4/1، وأحمد في مسنده 18/233، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح).

روايات الحديث

وقد ورد الحديث بأكثر من رواية.. الأولى: باستخدام أسلوب الشرط وأداته (مَن) التي تستخدم للربط بين جملتين، هما هنا: فعل الشرط (لا يشكر الناس) وجوابه (لا يشكر الله)، ويتضح عمق المعنى وجمال التعبير في هذا الترابط الوثيق بين الشرط وجوابه (شكر المخلوق وشكر الخالق)، كما يدل استخدام أسلوب الشرط على أن فعل الشرط يستلزم الجواب، وجوابه مترتب عليه، والمعنى أن العبد إن كان من عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لهم لسوء تصرفه وجفائه، كان من عادته أيضا كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له (جامع الأصول لابن الأثير 2/559).

الرواية الثانية: بتقديم أسلوب النفي وأداته (لا) مع نصب لفظ الجلالة «لَا يَشْكُرُ اللهَ ‌مَنْ ‌لَا ‌يَشْكُرُ النَّاسَ» واستخدام أسلوب النفي وراءه غرض بلاغي وهو أن النفي يوضح المعنى ويؤكده، فالحديث الشريف: «لَا يَشْكُرُ اللهَ ‌مَنْ ‌لَا ‌يَشْكُرُ النَّاسَ» أقوى وأبلغ في إيصال المعنى من قولنا: «من شكر الناس فقد شكر الله».

الرواية الثالثة: بتقديم أسلوب النفي مع رفع لفظ الجلالة على أنه هو الفاعل للشكر ونصب الناس على أنه مفعول به «لَا يَشْكُرُ اللهُ ‌مَنْ ‌لَا ‌يَشْكُرُ النَّاسَ»، ومعناه: أنه لا يكون من الله شكر لمن لا يشكر الناس؛ فالله عز وجلّ لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبدُ لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم.

بلاغة الربط بين شكر الخالق وشكر المخلوق

وتتضح بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم في جوانب عدة لألفاظ هذا الحديث وهي:

1- الإيجاز غير المخل لألفاظ هذا الحديث الشريف الذي يُعد من جوامع الكلم النبوية؛ فهو يجمع بين معنيين كبيرين في جملة واحدة؛ حيث ربط بين العبادة الظاهرة التي تكمن في حسن المعاملة مع الخلق، والعبادة القلبية مع الخالق.

2- التدرج في الوصول إلى المطلوب، حيث استخدم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم طريقة التدرج في الإقناع من شكر الناس- وهو أمر ظاهر محسوس- إلى شكر الله- وهو أمر قلبي غيبي بين العبد وربه. 

 وما أجمل قول الشاعر حين قال:

إذا المرء لم يشكر قليلا أصابه        فليس له عند الكثير شكور

‌ومن ‌يشكر ‌المخلوق ‌يشكر لربه     ومن يكفر المخلوق فهو كفور

3- جاء أسلوب المقابلة واضحا في الحديث الشريف بين «شكر الله» و«شكر الناس»؛ ليُظهر أن شكر الناس أمر لا ينفصل عن شكر الله.

4- ينفي الحديث الشريف عدم صحة المقولة المشهورة: «لا شكر على واجب»، وهذا يوضح عمق المعنى الذي يعالجه هذا الحديث من إعظام مراعاة مشاعر النفس الإنسانية وتأثرها بمواقف الناس تجاهها، فالإنسان منا إذا أحسن إلى شخص وقُوبل إحسانه بالشكر والامتنان فرح واستراح، وإذا قُوبل هذا الإحسان بالجحود والنكران حزن وتكدر.

من أجل هذا ينبغي على المسلم إيصال الشكر والامتنان لمن أحسن إليه، فإذا لم يجد، فإن الثناء والدعاء عند العدم يقوم مقام الشكر للمعروف، وذلك مثل قول: «"جزاك الله خيراً». ويؤكد هذا المعنى ما جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «...وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ ‌مَعْرُوفًا ‌فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوا بِهِ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني، سنن أبي داود: 2/128).

ختامًا، إن شكر الناس إظهار لتقدير النعمة التي أُجريت على أيديهم، ومن أظهر الشكر للمخلوق فقد أظهر التقدير لمن يوزع هذه النعم وهو الخالق سبحانه وتعالى.. إنه سلوك حضاري، ومقياس إيماني، وعنوان لنفس سوية. 


اقرأ أيضا:

- شُكْر النِّعَم.. 10 طرق عملية لشكر الله

الغثائية والوهن.. التشخيص النبوي لاستضعاف الأمة واستباحتها

تراحم الجسد الواحد.. بلاغة اللفظ وعمق المعنى


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة